إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

حيثيات المحكمة العليا
في قضية الأستاذ محمود محمد طه

بسم الله الرحمن الرحيم
(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)
صدق الله العظيم

مقدمة:


إن قيمة الحكم ببطلان حكم الردة المزعوم لا تكمن في تبرئة ساحة الأستاذ محمود، وإنما تكمن هذه القيمة في ارتفاع القضاء السوداني الى قامته التي نبغيها له..
أما إسلام الأستاذ محمود ففوق الشبهات، ويقينه بالإسلام هو يقين تام لا ريب فيه، كما أن ثقته في الشعب السوداني لا تحدها حدود، وهو القائل (أنا زعيم بأن الإسلام هو قبلة العالم منذ اليوم.. وأن القرآن هو قانونه.. وأن السودان، إذ يقدم ذلك القانون في صورته العملية، المحققة للتوفيق بين حاجة الجماعة إلى الأمن، وحاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب.. ولا يهولن أحدا هذا القول، لكون السودان جاهلا، خاملا، صغيرا، فإن عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض، بأسباب السماء).. جريدة الشعب 27/1/1951
هكذا يرى الأستاذ محمود للشعب السوداني مكانة الريّادة، والقيادة، ولذلك ظل يدعوه للإسلام الصحيح الواعي، حتى يرث إيجابيات التطور والتراث البشرى، فيوجهها، ويتوجها، وفق أصول القرآن، وسنة النبي الكريم.. حيث تتوفر الحرية الفردية والكرامة الإنسانية، وكافة الحقوق الأساسية للإنسان من غير تمييز بسبب العقيدة أو الجنس..
وفى هذا السبيل وقف الأستاذ محمود حياته لتوعية الشعب السوداني، وإعادة تربيته وفق المنهاج النبوي، ومن أجل ذلك واجه الإرهاب الديني، وناجز التخّلف والدعوات السلفية بمضائه المعهود وحجته الناصعة وفكره الغلاّب حتى بلغ عجز خصومه من تجار الدين، عن مواجهة حجته، ان انحدروا الى درك الخصومة الفاجرة، ولكي يواروا عجزهم الفاضح دبروا مكيدة ومهزلة محكمة الردة في 18/11/1968.. وقد اتخذ الأستاذ محمود من ذلك الحكم، مادة لتوعية الشعب، وقد ظلّ يرفعه نموذجا لما ينتظر الشعب من ذل وهوان لو قد قدّر لأمثال أولئك القضاة وأشياعهم أن يجدوا فرصة لحكم هذا البلد الحزين.. وبالفعل أصبحنا يوما لنجد البلاد تقع فريسة لهوس الإمام المزيف نميري، ومستشاريه من الدجالين والأخوان المسلمين الذين زيّفوا الإسلام، وأقاموا محاكم الطوارئ التي جرّدت المواطن من حقه في العدالة حتى ما أكتسبه في ظل الاستعمار، فحرمته محاكم الطوارئ من حقه في الاستعانة بمحام، ومنعته من حقه الطبيعي في الاستئناف لجهة أعلى محايدة، وقبلت ضده البينات التي يتحصل عليها بطرق غير مشروعة "القانون البطال" كما قال السفاح!
كل ذلك التخلّف، والظلم، مورس باسم الإسلام، ونسب اليه زورا وبهتانا، وعاش الشعب والمثقفون تلك الأيام السوداء، التي لا يقوى على مواجهتها الاّ أولو العزم الأحرار الذين لا يطيب لهم العيش، وسواد الشعب يعذّب ويهان، والإسلام يزّيف ويتاجر به!!
وما كاد الأستاذ محمود يخرج من الاعتقال الذي استمر عاما ونصف العام، في 19/12/1984، حتى أعلن في نفس ذلك اليوم: -
"اننا لم نخرج من المعتقل لنرتاح، وإنما لنواجه الظلم الذي يمارس باسم الإسلام" فأصدر في يوم 25/12/1984 منشور "هذا.. أو الطوفان!" مطالبا فيه بإلغاء قوانين سبتمبر لأنها شوّهت الإسلام، وأذّلت الشعب، وهدّدت الوحدة الوطنية.. وكان ذلك المنشور هو أداة المحاكمة الجائرة.. وقد قرر الأستاذ محمود مواجهة قضايا التجريم، ومواجهة نميري في آخر معاقله التي أحتمى بها – معاقل الهوس الديني – فوضع محاكم "التفتيش" والسلطة التنفيذية المستبدة في موضعها وذلك بإعلانه أمام المحكمة مقاطعتها بكلمات قوية، وبيان صريح..
إن مواجهة الأستاذ محمود الشجاعة، الصلبة، قد حرّكت الضمائر الحية، وأطلقت الأصوات الحرة، فاستنكرت النقابات والهيئات الحكم الجائر، وكان ذلك إيذانا بميلاد التجمع الوطني الذي تصدّر، وتبلوّر حتى أسقط نظام الطاغية.. ولم يقف وراء تلك المؤامرة، ومع نميري، في فعلته المنكرة، الاّ "قضاة السلطان" و"كهنة القصر" والأخوان المسلمون.. وقد عبّر الشعب في تلك الأيام العصيبة، عن استنكاره لجريمة الاغتيال بالصمت الحزين، ولم يفت على فطنته، وفطرته السليمة، تدّثر تلك الجريمة الهمجية بدّثار الدين، وكان الشعب السوداني، في الداخل، والخارج، بل العالم كله، ساهرا ليلة الاغتيال، وكان الكل مستنكرا تلك المؤامرة الخسيسة.. ولكن الأستاذ محمود، بيقينه، ورضاه التام بالله، وبثباته، وابتسامته في مواجهة المقصلة، قد حوّل الموقف المأساوي الى محفل عالمي شهد فيه العالم الشجاعة السودانية في أعلى قمتها الشاهقة السامقة، تلك الشجاعة الاسطورية التي أعدمت نظام نميري، كما علّق أحد الكتاب الأجانب!!
ان يوم 18/11/1986 يؤرخ ميلادا جديدا للقضاء السوداني إذ أصدرت فيه المحكمة العليا حكمها ببطلان الحكم الجائر الذي أصدره قضاة نميري التالفون، واغتالوا به شهيد الفكر، وأهدروا حق الجمهوريين الأساسي في حرية الرأي والتعبير والحياة.
إن حكم المحكمة العليا هذا، قد أسس، من جديد، ورسّخ، مبدأ قدسية، وحرمة الحقوق الأساسية، كما أظهر دور المحكمة العليا الفعلي والأساسي في حماية تلك الحقوق من تغوّل المتغولين، وفى ذلك مكسب عظيم للإنسان السوداني، وعمل جليل، شرّف القضاء وردّ اعتباره، وهيبته.. وإن استلال المحكمة العليا للحقوق الأساسية من جوف الطغاة قد قدّم أعظم هدية للعالم، لكونه قد نفذ الى جوهر الأشياء، وكل ذلك، إنما يكون معلما بارزا من معالم الديمقراطية الحقة، ويمهد لممارستها على أرض صلبة، وبضمانات قوية..
إننا، إسهاما منا في إعطاء حكم المحكمة العليا بعض حقه، وابراز قيمته الكبيرة ننشر حيثيات الحكم.. ولا يفوتنا أن نذكر بكل التقدير الدور الكبير الذي قامت به اللجنة القومية التي انبثقت عنها اللجنة القانونية، وهيئة الادعاء في هذه القضية، وهو دور جدير بكل مثقف حر أن يضطلع به، إذ أن العمل لحماية الحقوق الأساسية، والسهر عليها، عمل حضاري، وديني، في المقام الأول..

وعلى الله قصد السبيل