إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

حيثيات المحكمة العليا
في قضية الأستاذ محمود محمد طه

المحكمة العليا
الدائرة الدستورية



أمام:
السيد/ محمد ميرغني مبروك رئيسا
السيد/ هنري رياض سكلا عضوا
السيد/ فاروق أحمد ابراهيم عضوا
السيد/ حنفي ابراهيم أحمد عضوا
السيد/ زكى عبد الرحمن عضوا
السيد/ محمد حمزة الصديق عضوا
السيد/ محمد عبد الرحيم على عضوا

المدعيّان
1/ أسماء محمود محمد طه
2/ عبد اللطيف عمر حسب الله

ضد
حكومة جمهورية السودان مدّعى عليها
النمرة/م ع/ق د/ 2/ 1406 هـ

الحكم


انه وبتاريخ 25 فبراير 1986 تقدّمت هيئة الادعاء المكونة من الأساتذة طه ابراهيم، عابدين اسماعيل، عبد الله الحسن، محمود حاج الشيخ، جريس أسعد جريس، ود. بيتر نيوت كوك المحامين بعريضة طعن دستوري نيابة عن المدّعية الأولى تطلب فيها إعلان بطلان إجراءات محاكمة المواطن محمود محمد طه (والد المدّعية)، تلك الإجراءات التي انتهت بالحكم عليه بالإعدام وتنفيذه ولأنها أدّت الى اهدار حقوقه الدستورية المنصوص عليها في الدستور الدائم (الملغى) لسنة 1973 والدستور المؤقت لسنة 1985 والذيّن أكدا على تلك الحقوق استنادا الى ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ولقد تضمّنت صحيفة الطعن في صدرها سردا كاملا للأحداث والملابسات التي سبقت إجراءات القبض والمحاكمة وذلك من واقع بعض المستندات المرفقة بأوراق الدعوى لتدّلل هيئة الادعاء على أن الرئيس السابق وآخرين كانوا قد بيّتوا النية على اغتيال والد المدّعية الأولى وهى أحداث يتعلّق جانبا منها بالفكر الإنساني بينما يتعلّق الجانب الآخر بمسائل سياسية بحتة ومن ثم لا نرى – لأغراض الفصل في الطعن – ما يستوجب التطّرق اليها على وجه مفّصل، اذ أن الطعن الدستوري يذهب في مجمله على مسألتين أساسيتين أولاهما عدم صحة قرار تعيين قضاة محكمتي الموضوع والاستئناف واغفال سلطة المحكمة العليا في تأييد الحكم وبالتالي بطلان إجراءات المحاكمة برمتها، وثانيتهما مدى انتقاص تلك الإجراءات مهما كان وجه الرأي في المسألة الأولى لحقوق المتهم في أن ينال محاكمة عادلة وفق إجراءات القانون.
وبرغم التداخل الواضح في صحيفة الطعن بين مسألتي مخالفة القانون والانتقاص من حقوق المتهم بما لم يمكن هذه المحكمة من الفصل بينهما على وجه قاطع ومحدد، فلقد استطاعت أن تشق طريقها لتستخلص بنفسها الحجج التي أثارتها هيئة الادعاء لإثبات مدى مخالفة إجراءات المحاكمة لنصوص الدستور وهي تتلّخص في الآتي: -
1/ ان تعيين قاضي الموضوع كان باطلا لعدم استيفائه لشروط المواد 20 الى 29 شاملة من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هـ - بما يترتب عليه بطلان الحكم الصادر منه وذلك أن المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هـ وان كانت تجيز لرئيس الجمهورية السابق سلطة تكوين محاكم جنائية، الا أنها حجبت عنه سلطة تعيين القضاة الجالسين بها.
2/ ان قاضى الموضوع وان كان قد وضع المادة (3) من قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983 كتهمة. الا أنه لم يواجه صراحة تهمة الردة الى المتهمين أمامه وإنما استخلصها انصياعا لرغبة الرئيس السابق وذلك بأنه رغم استناده الى نصوص قانون العقوبات وقانون أمن الدولة، فقد منح المتهمين مهلة للتوبة الى ما قبل تنفيذ الحكم.
3/ ان قاضى الموضوع قد نصّب من نفسه مشرّعا حينما أشار الى تهمة تحت المادة (3) من قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983 رغم ان ذلك القانون ليس بقانون عقابي ويخلو من أية نصوص تجّرم أفعالا أو تضع لها عقوبات.
4/ انه قد تم العثور على مذكرة مدسوسة بالمحضر صاغها شخص مجهول ليستعين بها قاضى الموضوع في اصدار حكمه مما يتبين منه أن هنالك أكثر من جهة كانت تسعى لصياغة حكم المحكمة على نمط معين وكتدبير إجرامي للوصول الى اعدام المتهمين.
5/ ان تكوين محكمة الاستئناف الجنائية بواسطة رئيس الجمهورية السابق كان إجراء غير قانوني وباطلا اذ قصرت المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هـ سلطاته في تكوين المحاكم الجنائية دون محكمة الاستئناف التي تستمد صحة تكوينها من المادة 18 من ذلك القانون.
6/ ان تشكيل محكمة الاستئناف الجنائية من ثلاثة قضاة كان يتعارض وصريح المادة 11 (هـ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هـ والتي تنص على ان يباشر اختصاص محكمة الاستئناف قاض فرد.
7/ انه يترتب على تكوين وتشكيل محكمة الاستئناف على النحو السالف بيانه بطلان الحكم الصادر منها.
8/ ان محكمة الاستئناف التي كونها رئيس الجمهورية السابق وعيّن قضاتها بقرار جمهوري لم تكن مختصة بسلطة تأييد أحكام الإعدام وإنما كان الاختصاص بذلك ينعقد للمحكمة العليا وحدها عملا بنص المادة (234) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983، وعليه فإن تأييد رئيس الجمهورية لحكمها كان باطلا حيث لا يرقى ذلك القرار الى مرتبة التشريع من جانب كما وليست له قوة إلغاء سلطات المحكمة العليا من جانب آخر وبذلك فإن ما أسبغه من اختصاص على محكمة الاستئناف لا يجرد النصوص الواردة في قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية لسنة 1983 من قوة إلزاميتها أو يحول دون وجوب تطبيقها.
9/ ان تنفيذ حكم الإعدام قبل تأييده من جانب المحكمة العليا يتطابق وجريمة القتل العمد لما يشكله ذلك من إهدار واضح وصريح لنص المادة (246) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983
10/ ان تنفيذ حكم الإعدام على والد المدعية الأولى، رغم تجاوز عمره للسبعين عاما، كان فعلا مخالفا لنص المادة (247) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983 وانه لا مجال للتجاوز عن الالتزام بتطبيق هذا النص بحجة الاستناد الى قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983 حيث أنه نص صريح لا يحتمل أي تفسير مغاير أ تأويل
11/ انه وبالرغم من أن قانون العقوبات لسنة 1983 لم يتضّمن في نصوصه ما يسمى بجريمة الردة – وهى جريمة وإن صحت – لم توجهها محكمة الموضوع الى المواطن محمود محمد طه وانما استحدثتها محكمة الاستئناف بالاستناد أولا الى قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983، وثانيا الى أقوال المتهم الأول في يومية التحري وأفكاره المعروفة والى حكم غيابي صدر عام 1968 من محكمة شرعية غير مختّصة بإصداره والى أقوال من أسمتهم محكمة الاستئناف بعلماء الإسلام في السودان وغيره من البلاد العربية، وكان على محكمة الاستئناف في هذه الحالة اما أن تعيد الأوراق الى محكمة الموضوع لإعادة المحاكمة في ضوء هذه التهمة أو أن تمارس بنفسها إجراءات إعادة المحاكمة.
12/ انه وبفرض أن الحكم النهائي الصادر من المحكمة الشرعية في 1968 كان صحيحا، فإن محاكمة المواطن محمود محمد طه للمرة الثانية تشكّل مخالفة صريحة لنص المادة 118 (أ) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983 والتي لا تجيز محاكمة المتهم للمرة الثانية عن جريمة أدين فيها أو برئ منها. كما وأن ذلك ينطوي على إهدار كامل لنص المادة (71) من دستور عام 1973 الذي كان ساريا وقتها وهي المادة التي لا تجيز محاكمة شخص مرتين عن فعل جنائي واحد.
13/ ان جميع الأوامر التي أصدرتها محكمة الاستئناف كعدم الصلاة على جثمان المواطن محمود محمد طه وعدم دفنه بمقابر المسلمين ومصادرة كل كتبه ومطبوعاته واعتبار أمواله فيئا للمسلمين.. بحيث صودر منزله لصالح الدولة، كلها تنطوي على عقوبات ليس لها مكان في قانون العقوبات كما وأنها تتعارض مع حقوقه الشرعية.
14/ ان محاكمة المواطن محمود محمد طه بجريمة سميت بجريمة الردة تعد انتهاكا لحق المتهم الدستوري المكفول له بموجب المادة (70) من دستور 1973 والتي تنص على عدم جواز معاقبة أي شخص عن جريمة ما لم يكن هنالك قانون يعاقب عليها وقت ارتكابها. وهو حق أكدته المادة (27) من الدستور الانتقالي لسنة 1985.
15/ ان محكمة الاستئناف بقيامها بدور الاتهام تكون قد فقدت حيدتها ونزاهتها واستقلاليتها مهدرة بذلك أحكام المادتين 61 و185 من دستور عام 1973.
16/ ان رئيس الجمهورية السابق قد نصّب نفسه كجزء من السلطة القضائية وأجرى محاكمة جديدة للمواطن محمود محمد طه وذلك لما اشتمل عليه بيانه الصادر بتأييد الحكم من وقائع تشير الى أنه كان يمارس سلطات قضائية وليس عملا من أعمال السيادة، اذ نص البيان صراحة على أن قرار التأييد قد بنى بعد دراسة لمحضر القضية وبيناتها ومستنداتها مستعينا بالله وكتب الفقه والقانون وهو ما يشكل تغوّلا صارخا على اختصاصات السلطة القضائية والتي قرر لها الدستور استقلالا كاملا عن بقية السلطات.
17/ ان محكمة الموضوع رغم عدم اشارتها في الحكم الابتدائي الى أية مستندات مرفقة بمحضر الدعوى الجنائية الاّ انه يتضح من بيان رئيس الجمهورية السابق ان محكمة الاستئناف قد قامت بدس مستندات بذلك المحضر لم تكن معروضة أمام محكمة الموضوع مما يشكل تزويرا للمحضر.
18/ انه لا سند في أي قانون سأرى المفعول لانعقاد جلسة 19/1/1985 والتي تلت إجراءات الاستتابة وان قانون العقوبات أو أي قانون آخر لا يتضمّن العقوبات والأوامر والأحكام التي أصدرتها محكمة الموضوع في تلك الجلسة.
19/ ان ما كان يقوم به المواطن محمود محمد طه من نشاط لم يكن الاّ ممارسة لحقه الدستوري في التعبير عن عقيدته وفكره ورأيه بالطرق السلمية دون أن يشهر سلاحا في وجه أحد أو يقهر إنسانا على قبول عقيدته وأن محاكمته على ذلك النشاط يشكل إهدارا إنسانا على قبول عقيدته وان محاكمته على ذلك النشاط يشكّل إهدارا لأهم حقوقه الأساسية والدستورية ومن ثم تكون محاكمته مع غيره من المتهمين باطلة وغير دستورية لمخالفتها لأحكام المادتين 47 ز48 من دستور عام 1973 والتي تكفل الاولى منها للمواطن حرية العقيدة والتعبير واداء الشعائر الدينية دون إخلال بالنظام العام أو الآداب في حين تكفل الثانية حرية الرأي والحق في التعبير عنه ونشره بالكتابة والخطابة. وتقول هيئة بأن الدستور الانتقالي لسنة 1985 قد تبنى الحقوق الواردة في هاتين المادتين وذلك بالنص عليهما في المادتين (18) و(19) منه.
لكل ما تقدم ذكره من حجج وأسانيد ترى هيئة الادعاء أن والد المدّعية الأولى قد نال محاكمة جائرة وعلى خلاف متّطلبات القانون وذلك لأسباب أساسية وهي بطلان قرار تعيين قضاة محكمة الموضوع والاستئناف وعدم صحة تشكيل محكمة الاستئناف وانفرادها بسلطة التأييد ولخلو القانون العقابي مما يسمى بجريمة الردة ولانتفاء أي مسوّغ قانوني لتقديم والد المدّعية للمحكمة بتهمة التعبير عن الرأي. فضلا عن إغفال محكمتي أدنى درجة لكل ضمانات التقاضي مما يرقى الى مرتبة الإهدار الكامل للحقوق الدستورية التي كفلتها المادة (64) من دستور عام 1973.
هذا وبجانب الطلبات التي حوتها صحيفة الدعوى فقد طلبت هيئة الادعاء من المحكمة أن تأذن لها بالاحتفاظ للمدعية بحقها في المقاضاة بأية حقوق أخرى قد تنشأ لها في حالة الحكم لصالحها.
في 9/3/1986 قررت هذه الدائرة أن العريضة المقدمة لا تستوفى متطلبات المادة (73) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983، وبناء على ذلك قضت بأن يتم تقديم عريضة أفضل.
استجابت هيئة الادعاء لذلك القرار وأدّعت عريضة بديلة في 16/3/1986 0 اتصفت بإيجاز لما ورد في العريضة الأولى مع إضافة المدّعى الثاني لها، وقد صرّحت المحكمة هذه العريضة في جلسة 18/3/1986 كما استجابت لطلب المدعيين للاحتفاظ لهما بحق المقاضاة بأي حقوق لم تشتمل عليها عريضة الدعوى وذلك طبقا لما تسمح به المادة 31 (3) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983.
تم إعلان النائب العام بصورة من العريضة المعدّلة وفى جلسة 17/4/1986 ظهر ممثل النائب العام وتقدم برد شفهي على عريضة الدعوى مفاده أن النائب العام يقر بأن المحاكمة لم تكن عادلة ولم تتقيّد بإجراءات القانون ويرى أنها إجهاض كامل للعدالة والقانون ولذلك فانه لا يرغب في الدفاع عن تلك المحاكمة.
طلبت المحكمة من ممثل النائب العام تقديم رده كتابة وحددت جلسة 20/4/1986 لإيداع ذلك الرد وقبل نهاية الجلسة تم إيداعه بتوقيع النائب العام، وجاء على النحو التالي: -
1/ نعترف بأن المحاكمة لم تكن عادلة ولم تتقيّد بإجراءات القانون.
2/ ان المحاكمة إجهاض كامل للعدالة والقانون.
3/ لا نرغب في الدفاع إطلاقا عن تلك المحاكمة
وبعد فحصها لرد النائب العام والتداول حول مضمونه، أصدرت المحكمة قرارا وصفت فيه رد النائب العام المشار اليه بأنه كان مقتضبا وعاما وعلى خلاف مقتضيات المادة 74 (أ) و(ب) التي توجب أن تشتمل مذكرة الدفاع على إقرار او إنكار صريح لكل واقعة اشتملت عليها عريضة الدعوى. وعليه أصرّت المحكمة بأن يقدم النائب العام رده وفقا لذلك وحددت جلسة 24/4/1986 لإيداع رد جديد.
بتاريخ 18/4/1986 عقبت هيئة الادعاء على مذكرة الدفاع المقدمة من النائب العام على أساس أن المحاكمة الجنائية لم تكن عادلة وأنها تشتمل على إجهاض كامل للعدالة والقانون، وأنه ما دام ان النائب العام قد أقر بتلك الوقائع فهي تلتمس إصدار حكم اعترافي بكل طلبات المدعيين.
في جلسة 24/4/1986 تقدم النائب العام بتعقيب على الأمر الصادر من هذه المحكمة والذى قضى بضرورة الالتزام بنص المادة 74 (أ) و(ب) اعترض فيه على شكل عريضة الدعوى لما احتوته من فقرات مبهمة تجعل من غير المتيسر الرد عليها بالإقرار أو النفي وطلب قبول الدفاع من جانبه على أساس انه اعترف بجوهر الدعوى وليس ثمة اعتراض لديه على الحكم للمدعيين بطلباتهم ما عدا الرسوم والأتعاب، وعلى سبيل الاحتياط، طلب إما إلزام المدعيين بتقديم عريضة تتضّمن ادعاءات موجزة وواضحة أو امهاله فترة شهر كامل لدراسة العريضة كما هي والرد عليها تفصيليا.
وفى ردها على ما أثاره النائب العام في تلك المذكرة ذكرت هيئة الادعاء بأن مذّكرة الدفاع الأولى التي تقدّم بها النائب العام قد تضّمنت إقرارا صريحا في جوهرها وان ما لم ينكر صراحة يعتبر قانونا في حكم المقّر به وأن نعى النائب العام على عريضة الدعوى المقدمة بمجانبته للشكل المقرر يتعارض مع اقراره الصريح ورد فيها حرفيا، كما يغفل طبيعة الدعوى التي لا تحتّمل ادعاءات وقائعية بحتة بل تستلزم إبراز الأسانيد القانونية والدستورية التي تقوم عليها. وبناء على ذلك طلبت هيئة الادعاء الحكم لموكليها بطلباتهما الواردة في عريضة الدعوى، فيما عدا الرسوم والأتعاب، استنادا الى قاعدتي الإقرار والتراضي.
بتاريخ 8/5/1986 أصدرت المحكمة قرارا يقضى برفض كلا من مذكرتي الدفاع وتعقيب هيئة الادعاء على أساس أنه ما كان يجوز للنائب العام أن يعقب على قرارها بوجوب تقديم دفاع جديد، بل كان من واجبه أن يتقيّد بالأمر الصادر اليه بتقديم رده على العريضة في صورتها التي تمّ تصريحها بها وباعتبارها صالحة للرد عليها دون حاجة الى تقديم عريضة معدّلة وانه تبعا لذلك فإن أمر المحكمة يظل قائما على الوجه الذي صدر به ابتداء.
وبالنسبة لتعقيب هيئة الادعاء رأت المحكمة أن طلبها لإصدار حكم على التراضي والإقرار لا يتماشى وطبيعة الدعوى المتعلّقة بحماية حقوق دستورية ومدى حاجتها الى الحماية القضائية بحيث ينبغي الاّ يكون التقرير فيها مبنيا على الإقرار وحده وإن كان ذلك الإقرار واضحا وجازما، فضلا على أن أساس النزاع يكمن في تفسير الدستور والقانون، وعلى المحكمة العليا دون سواها أن تتولاه على أساس من القواعد القانونية المجّردة دون اعتبار لإقرار الخصوم الاّ في حدود ضيّقة جدا قد لا تتوفر أصلا.
ونظرا لطبيعة الدعوى وحاجتها الى إصدار قرار موضوعي رأت المحكمة أن تستجيب الى طلب هيئة الدفاع بإمهالها مدة شهر للرد على عريضة الدعوى بكل ما اشتملت عليه من تفصيلات.
في جلسة 14/6/1986 تقدم النائب العام بمذّكرة دفاع معدّلة أقرّ فيها بما جاء في الفقرات الأولى والخامسة والسابعة والثامنة والتاسعة فيما عدا الرسوم والأتعاب – من عريضة الدعوى. وبالنسبة للفقرات الثانية والثالثة والرابعة فقد أنكر علمه بما ورد فيها كما أنكر الفقرة السادسة جملة وتفصيلا.
رأت المحكمة أن مذكرة الدفاع تلك لا تتفق وطلب النائب العام في أن يمهل مدة شهر للرد على عريضة الدعوى تفصيليا وعليه أمرت بأن يودع مذكرة جديدة وحددت جلسة 5/7/1986 لذلك الغرض. وفى تلك الجلسة تقدّم النائب العام بمذكرة دفاع أقرّ فيها بكل فقرات الدعوى حسب ترقيمها فيما عدا البندين (ج) و(د) من الفقرة التاسعة المتعلّقة بطلبات المدعيين باعتباره لم ينازع في الدعوى.
تحددت جلسة 19/7/1986 لإتاحة الفرصة لهيئة الادعاء لإيداع تعقيبها على مذكرة الدفاع الأخيرة، وفى تلك الجلسة أودعت هيئة الادعاء تعقيبا مكتوبا أخذت فيه هيئة الدفاع بإقرارها بكل ما جاء في الفقرات التسع من عريضة الدعوى وتنازلت عن طلبيها الواردين بالبندين (ج) و(د) من الفقرة التاسعة. وعليه التمست إصدار حكم لصالح المدعيين بكل طلباتهما فيما عدا البندين (ج) و(د) من الفقرة التاسعة وذلك على أساس أن النائب العام قد أقرّ صراحة بكل وقائع الدعوى فيما عدا البندين المذكورين.
حددت المحكمة جلسة 30/8/1986 لإصدار قرارها حول تلك المسألة. وفى تلك الجلسة طلبت المحكمة من هيئتي الادعاء والدفاع تقديم مرافعات إضافية حول بعض النقاط التي وردت في المذكرة المقدمة أمامها، وقد وافقت هيئة الادعاء على تقديم مرافعة إضافية خلال عشرة أيام وحددت المحكمة جلسة 10/9/1986 لإيداعها. وفى تلك الجلسة أودّعت هيئة الادعاء مرافعة ختامية لم تضف جديدا الى ما سبق إيراده في عريضة الدعوى الأولى التي أحالت اليها وانحصر مضمونها في مناقشة مسألة عدم اختصاص محاكم أول وثاني درجة كما تناولت في جزء منها قضية الردة التي نظرت أمام المحكمة الشرعية في عام 1968 وانتهت الى القول بأن الإجراءات التي تمت وقتها لم تكن متعلّقة بالردة لكون أن الدعوة كانت في الأساس دعوى حسبة. وبإيداع تلك المرافعة حفظت الدعوة للحكم.
هذا هو ملّخص ما استندت اليه الدعوى وما تم فيها من إجراء حتى الآن.
ومن ذلك يتّضح أن الدعوى صرّحت واكتملت إجراءاتها الى أن أصبحت جاهزة للحكم النهائي.
وعلى الرغم أن تصريح عريضة الدعوى ابتداء انطوى بالضرورة على قرار ضمني بأنها استوفت أوضاعها الشكلية سواء ما كان متعلّقا منها باشتمالها على مسألة صالحة للفصل فيها، أو المصلحة التي تحمل الحق في اقامتها أو تحقق الأوصاف التي تجعل اذن المدعى عليها خصما يصح قيام الدعوى في مواجهته.. وما الى ذلك، الاّ أن طبيعة الشكل التي أسست عليها الدعوى قد تكون في حاجة الى استقصاء، نظرا الى حداثة ذلك الشكل الذي لم يتناوله تحليل كاف لندرته من ناحية، ووضوح ما غرض منه على هذه الدائرة من ناحية أخرى.
فهذه الإجراءات تقوم على شكل دعوى حماية حق دستوري طبقا لنص المادة 325 من قانون الإجراءات المدنية، وقد حرصت هيئة الادعاء على تأكيد ذلك في مرافعتها الختامية في تفريق واضح وصريح بين هذا الشكل من الدعوى والأشكال الأخرى من الدعاوى الدستورية كالطعن في دستورية القوانين.
ولعل من غير العسير استبيان مصدر الحرص على هذا التفريق، اذ انه مما لا خلاف عليه أن هذين الشكلين من الدعاوى يثيران مسائل متباينة بشأن الأوضاع الشكلية التي يجب توفرها في كل منهما وعلى وجه الخصوص فيما يتعلّق بطبيعة المصلحة التي تكفى لحمل الدعوى والمركز القانوني الذي تتحقق به صفة الخصوم، فبينما يكفى الضرر، ماديا كان أو خلافه، لإضفاء المصلحة التي تتطلبها اقامة دعوى عدم دستورية القانون، فان دعوى حماية الحق الدستوري في حاجة بالضرورة، الى قيام حق دستوري يحتمل بطبيعته ان يكون محلا لحماية قضائية، وفى هذا ما قد يوحى بأن المقاضاة بمثل هذا الشكل من الدعوى لا تجوز الا من صاحب الحق الموضوعي شخصيا، بحيث لا تكون المصلحة، مباشرة كانت أو غير مباشرة، كافية لحمل حق المقاضاة كما هو الحال بالنسبة للدعاوى الدستورية الأخرى.
وحيث أن لمثل هذا التأويل أثرا خطيرا في بعض الحالات كالدعوى قيد النظر التي يقاضى فيها أحد المدعيين من خلال حقوق كانت مقررة أصلا لغيره، فإنه يتعيّن النظر في مدى سلامة مثل هذا التأويل والقيود التي ينبغي وضعها عليه بغية تحديد المصلحة المطلوبة بمعايير موضوعية.
وفى هذا الشأن، فانه لا جدال في أن المركز القانوني السليم الذي تتطلّبه اقامة دعوى حماية الحق الدستوري لا بد أن يتعدى المصلحة المادية البحتة التي تشّكل أساس التقاضي في الدعاوى العادية، الى ارتباط وثيق بحق مقرر دستوريا تكون حمايته غاية في حد ذاتها، بصرف النظر عمّا يمكن أن ينشأ عن ذلك الحق من مصلحة مادية، أو يترتّب على إهداره من ضرر – أيا كانت طبيعته، ولعل هذا ما يمكن اضفاؤه من معنى على عبارة "الحق الدستوري" كما ترد في المادة 325 من قانون الإجراءات المدنية. على أن السؤال يصبح، بعد ذلك، ما إذا كان من اللازم أن يكون ذلك الحق ذا طبيعة شخصية؟
ان المادة 325 المشار اليها لا تتضّمن اجابة لمثل هذا السؤال، غير أن أية اجابة عليه بالإيجاب تنتهى الى نتائج غير مستساغة منها، أولا، ان تكون القواعد الإجرائية مصدرا لحقوق موضوعية، ومنها، ثانيا، أن يكون الحق الدستوري عرضة للضياع أن إهداره شمل حياة صاحب الحق نفسه، مما يترتب عليه أن يكون من الأصلح لمن يوّد أن ينتهك حقا الا يكتفى بذلك الانتهاك وإنما ان يوالى سلوكه غير المشروع ذلك بالاعتداء على حياة صاحب الحق واغتياله وبذلك يضفى على أفعاله شرعية ويبقى في مأمن الى الأبد من أية محاولة في إثارة الأمر من قريب أو بعيد.
ولعلنا لا نكون في حاجة الى التأكيد على أنه من غير الجائز مبدءا ولا لياقة افتراض مثل هذا القصد على المشرّع، فذلك مما يتنافى مع المألوف والمرعى من الإجراءات السليمة في التشريع كما يتنافى مع مبادئ العدالة وحكم القانون.
على أنه يجمل أن نقرر هنا أنه، وحتى إذا كان في المادة 325 ما يحتمل مثل هذا التفسير، فإننا في هذه الدائرة، لن نتردد في الالتفات عنه لغيره نظرا الى عقيدتنا الراسخة في أنه ما من تشريع إجرائي ينبغي أن يحول بين هذه المحكمة والنفاذ الى الحقوق الموضوعي للمواطنين، الاّ ما كان منه صريحا وآمرا يرقى تجاوزه الى تجاوز الحدود الدستورية المقررة للمحكمة العليا بموجب المادة 125 من الدستور الانتقالي، فالنصوص الإجرائية لا تتعدى في هدفها تنظيم الوسائل التي تتحقق بها كفالة الحقوق الموضوعية، ولذلك فإنها ينبغي أن تنأى عن فرض قيود تنتقص من تلك الحقوق أو تحول دون اقتضائها.
ان القضاء ملاذ الجميع وحق الالتجاء اليه حق مطلق فيما تنص عليه المادة 26 من الدستور الانتقالي، أما حق الدعوى فهو، وان كان مرتبطا بالحقوق الموضوعية، الاّ أنه لا يتقيّد بشكل محدد من الرابطة بتلك الحقوق بما يحصر الصفة في صاحبها دون غيره، فإذا أخذت المادة 32 من الدستور الانتقالي على أطلاقها، لأتسع حق التقاضي في حماية الحقوق الدستورية بما يشمل أي شخص دون تحديد، الا أننا نرى أن المادة 32 تلك لم تقصد أن يرد الحق مطلقا وإنما أن يرتبط بالحقوق الموضوعية بحيث لا تتوفر الصفة في إقامة الدعوى الاّ لمن كانت له مصلحة قانونية في تلك الحقوق الموضوعية أو في حمايتها.
وترتيبا على ذلك، فإننا نقرر أن ما يتلافى التضييق الجائر من تفسير المادة 325 من قانون الإجراءات المدنية، والتوّسع غير المعقول الذي يرد في المادة 32 من الدستور الانتقالي، هو أن صفة إقامة الدعوى إنما تتحقق بمصلحة جدية وحقيقية في موضوع الدعوى. ولا يلزم لإثبات ذلك أن يكون المدّعى هو صاحب الحق الدستوري نفسه، بل يكفي أن تكون له مصلحة مباشرة في ذلك الحق تبيح له عدالة أن يدّعى لنفسه حقا في أن يقوم مقام صاحب الحق الأصلي.
وإننا لندرك تماما، وبطبيعة الحال، ما يتصف به هذا المعيار من عمومية، الاّ أن ذلك مرده استحالة وضع معيار شامل الاّ بصفة عامة، فالقرار في طبيعة المصلحة المباشرة المطلوبة يعتمد بالضرورة على اعتبارات دقيقة تختلف من حالة لأخرى ولا يتسنى التقرير فيها بمعزل عن ظروف كل مصلحة مدّعى بها على حداها.
وعلى هدى من هذا النظر، فإننا نرى أن حق المدعيين في إقامة هذه الدعوى ثابت، لا لأن لهما مصلحة مباشرة في الحقوق المدّعى بإهدارها فحسب وإنما أيضا لأن تلك الحقوق ذاتها تشكل حقوقا شخصية لهما.
فالمدعية الأولى، وبحكم أنها ابنة محمود محمد طه الذي تم إعدامه تملك حقا شرعيا وقانونيا في حياة والدها، تلك الحياة التي تشكل جوهر هذه الدعوى التي تقوم على أن الإجراءات التي تمخّض عنها ذلك الإعدام كانت مشوبة ببطلان سببه انتهاك حقوق قانونية ودستورية.
ثم أن للمدعية الولي حقا مباشرا في كل الحقوق التي كانت قد نشأت لوالدها قبل إعدامه طالما كانت تلك الحقوق هي السبب القانوني لحقها ذلك أو ذات أثر مباشر في حقوقها الشخصية الخالصة التي يمكن تأسيسها على الضرر الذي أصابها نتيجة لحرمانها من والدها كشخص لها حق الرجوع عليه في إعالتها فضلا عن الاستظلال بأبوته بكل ما في ذلك من معاني إنسانية.
أما المدعى الثاني، فقد وقع الإهدّار المدّعى به على حقوقه الشخصية مباشرة نظرا الى أنه واحد من الذين شملتهم الإجراءات المطعون في سلامتها. ولا يقدح في هذا النظر أن ثمة إجراءات عرفت بالاستتابة تمت فيما بعد وتمخّض عنها إلغاء حكم الإعدام الذي كان قد صدر في حقه مما أنقذه من المصير الذي لقيه زميله محمود محمد طه، إذ أن تلك الإجراءات ذاتها محل طعن في هذه الدعوى بحجة أنها وقعت دون سند من القانون وبقهر يبطل آثارها القانونية. وإزاء هذا، فإن ما صدر في إجراءات الاستتابة من قرار لا يصلح للرد على الدعوى، اذ من شأن القول بذلك ما يضفي شرعية على تلك الإجراءات خلافا لما تقوم عليه الدعوى من طعن فيها. ولما كان الأمر كذلك، فانه ما من طريق غير إخضاع موضوع الدعوى، بما في ذلك أمر الاستتابة، للتحقيق بغرض التقرير في سلامة كل ذلك، قبل أن يكون من الجائز ترتيب نتيجة على قرار الاستتابة.
على أنه، وحتى إذا سلمنا بصحة إجراءات الاستتابة، فإن القرار الصادر فيها، وإن كان يلغى حكم الإدانة بالردة وعقوبة الإعدام عنها في مواجهة المدّعى الثاني وبقية رفاقه، الاّ أنه لا يلغى الإدانة بجرائم أخرى شملها الحكم، ولا صدور الحكم، على أي حال كواقعة، بكل ما انطوت عليه من مخالفات مدعى بها للدستور والقانون وما ترتبت على ذلك من أضرار مادية ومعنوية. ثم أن القرار لا يلغى ما وقع على المدعى الثاني كواحد من الجمهوريين مما ورد في الحكم من حظر النظر الحرفية للقانون – سيفا مسلطا على رقاب الجمهوريين فيما لو فكروا في معاودة نشاطهم طالما ظل هذا الحكم أو مجرد مضمونه قائما.
وحيث أنه من الثابت مما سبق بيانه أن للمدعيين حقا في إقامة هذه الدعوى، فانه يتعين النظر فيها موضوعيا.
وفى هذا الشأن، فإن جوهر الدعوى هو أن إجراءات محاكمة والد المدعية الأولى والمدعى الثاني وآخرين اتصفت بمخالفات عديدة للقانون والدستور الساري وقتئذ على الوجه المفصّل في المذكرات المقدمة من هيئة الادعاء والتي أوردنا ملخصا وافيا لها في صدر هذا الحكم، ويترتب على ذلك، في تقدير الادعاء، إهدار لحقوق كفلها ذلك الدستور ومنها الحق في محاكمة عادلة طبقا لنص المادة 64، والحق في عدم رجعية التجريم والعقوبات فيما نصت عليه المادة 70 وعدم تكرار المحاكمة بذات التهمة طبقا لنص المادة 71.
وقبل أن نتناول المسائل التفصيلية التي تشتمل عليها هذه الدعوى، فإنه يلزم أن نقرر أنه من الخطأ في تقديرنا النظر الى هذه الدعوى على اعتبار انها دعوى في مواجهة شخص بذاته أو أشخاص بأعينهم، فعلى الرغم مما يرد في مواضع مبعثرة في عريضة الدعوى من عبارات تنطوي على اتهامات للبعض ممن كانوا في مواقع المسئولية وعاصروا الإجراءات محل هذه الدعوى بالتآمر وما الى ذلك مما يصلح سببا لدعاوى جنائية، الا أن الدعوى فيما قامت عليه من شكل في مواجهة السلطة في وصفها الرسمي، وما حملت عليه من أسانيد موضوعية هدفها حماية حقوق دستورية مدّعى بإهدارها، تصبح قائمة على قاعدة من الإجراءات محددة في طبيعتها ونتائجها مما اقتضى قانونا إعلان النائب العام كممثل قانوني للسلطة التنفيذية طبقا لنص المادة 329 من قانون الإجراءات المدنية، دون أن تقوم حاجة في نفس الوقت الى اختصام جهات أخرى لا شأن لها بالمسائل الدستورية التي تحمل هذه الدعوى والتي تستقل هذه المحكمة بالفصل فيها فيما أكدته في معرض رفضها بتاريخ 8/5/1986 للطلب المقدم من هيئة الادعاء لإصدار حكم على إقرارات النائب العام.
وتجدر الإشارة أيضا الى أن النائب العام قد أقرّ بالدعوى في كافة تفاصيلها، الاّ أن المحكمة قد أعلنت في وضوح قرارها في عدم سلامة التعويل على تلك الإقرارات أو ترتيب آثار مطلقة عليها. وليس في هذا جحود بحق النائب العام في تمثيل المدّعى عليها وما ينشأ له عن ذلك من سلطة في التصرّف يقع قيدا على المدّعى عليها، وإنما لأن طبيعة الدعوى، بما تثيره من مسائل دستورية وقانونية، تجعل الفصل فيها من صميم اختصاصات المحكمة والتي تطلع بها بمعزل عن اقرارات وآراء الخصوم أو ممثليهم.
وإذا كان هذا هو تكييف المحكمة لوضع الإقرارات في المسائل الدستورية والقانونية، فإن لإقرارات النائب العام فيما يتعلق بالوقائع تخضع في تقدير المحكمة لقاعدة مماثلة هي أنه لا يجوز للنائب العام الإقرار بمسألة لا تتعلّق بالمدّعى عليها التي يمثلها، فإذا تبيّن أن الواقعة محل الإقرار مما تنتج أثرا في مواجهة شخص غير الحكومة، فإنه لزم أن تلتفت عنها المحكمة.
وترتيبا على ذلك، فقد عوّلت المحكمة على الثابت من الوقائع بالمستندات الرسمية من ملفات القضايا ومحتوياتها، وما جاز قانونا للمحكمة أن تأخذ به علما قضائيا، ثم ما صدر عن النائب العام من إقرارات في حدود سلطته في ذلك كممثل قانوني للمدعى عليها.
وعلى هدى من كل ذلك تتناول المحكمة أسانيد المدعيين في تفاصيلها كما يلي: -
أن أول ما تثيره عريضة الدعوى هو أن تشكيل المحكمة الجنائية رقم (4) التي أصدرت حكم الإعدام وقع باطلا لما أتصف به قرار التشكيل من تجاوز للقانون الذي صدر ذلك القرار بموجبه. وفى بيان ذلك تقول العريضة ان قرار التشكيل (وهو القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405 هـ) استند الى المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هـ، بينما تلك المادة، وان كانت تضفي على رئيس الجمهورية السابق سلطة تشكيل المحاكم، الا انها لم تخوّله سلطة تعيين القضاة الجالسين فيها حيث أن التعيينات القضائية مما تنظمها مواد أخرى في القانون هي المواد من 20 الى 29 شاملة.
وما تذهب اليه هيئة الادعاء في هذا الشأن صحيح بلا ريب فيما لو كان محل الاعتبار هو الشكل دون غيره، الاّ أنه، وبالنظر الى ما أشتمل عليه قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هـ من سلطات استثنائية لرئيس الجمهورية السابق في التعيينات القضائية كالمادة 29 (ب)، فان تعيين أحد القضاة العاملين في الهيئة القضائية في محكمة بذاتها يصبح مخالفة شكلية لا تمس جوهر السلطات التي استأثر بها رئيس الجمهورية السابق بنصوص صريحة في القانون. ويترتب على ذلك أن تصبح الإشارة في القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405 هـ للمادة 16 (أ) خطأ شكليا ينبغي عدم إضفاء وزن عليه. ولعل هيئة الادعاء قد تبينت ذلك منذ البداية، اذ أنها استطردت بحجة بديلة قوامها أنه حتى إذا كان تعيين القاضي الجالس في المحكمة رقم (4) صحيحا، فإن هناك ما يدل على أنه، حين قام بتوجيه تهمة بموجب المادة 3 من قانون أصول الأحكام، فعل ذلك بتوجيه خارجي، مما يلقى ظلالا على حيدته، ومن ثمّ، ينعكس على إجراءات المحاكمة وما تمخّض عنها من حكم ويضيف مخالفة جديدة الى المخالفات التي انطوت عليها تلك المحاكمة.
وأننا وان كنا نرى مع هيئة الادعاء في الاضطراب الذي يكشف عنه محضر الدعوى الجنائية وفى الأسلوب الذي تم به تعيين قاضى المحكمة ما لا يدعو للاطمئنان على تجرّد تلك المحكمة، الاّ اننا، وفى ذات الوقت، لا نجد سندا قانونيا لما انتهت اليه هيئة الادعاء من نتيجة، اذ أن ما تدّعيه الهيئة في هذا الصدد أمر يتعلّق بالوقائع التي لا أثر في المحضر لأدلة تثبتها ولا يكفي بشأنها إقرار النائب العام طالما كانت تلك الوقائع مما يرتب أثرا على أشخاص لا يدخلون في نطاق من يمثلهم النائب العام في هذه الدعوى. وعلى ذلك فان اقراره يكون مردودا عليه بانعدام صفته القانونية في إطلاق مثل هذا القرار.
يبقى من عريضة الدعوى فيما تعيبه على المحكمة الجنائية أن تلك المحكمة قامت بإضافة المادة 3 من قانون أصول الأحكام الى المواد التي وجهت تهما جنائية بموجبها. وترى هيئة الادعاء في هذا أولا، انه، ونظرا الى أن قانون أصول الأحكام ليس قانونا عقابيا، فإن المحكمة تكون قد أضفت على نفسها صفة تشريعية لم تكن تتمتع بها بطبيعة الحال، وثانيا، انه، ومهما كان وجه الرأي فيما تقدّم، فإن المحكمة، وفيما انتهى اليه حكمها باستتابة المحكوم عليهم، تكون قد أوحت بأن المحكوم عليهم أدينوا بتهمة الردة بينما لم توجه إليهم تهمة كهذه في واقع الأمر.
ولما كان هذا الذي في شقه الأول هو جوهر ما تستند اليه الدعوى فيما يتعلّق بواقعة توجيه تهمة الردة صراحة في مرحلة التأييد في محكمة الاستئناف فانه من غير المناسب أن نتصدى للمسألة في هذه المرحلة حيث يكون النظر فيه أكثر ملاءمة في ضوء الأسباب التفصيلية التي وردت حول الأخطاء التي وقعت في مرحلة التأييد. أما فيما يتعلّق بالشق الثاني، فإنه يكفي للفصل فيه أن نحيل هيئة الادعاء الى ما قررته بنفسها من أن ما صدر عن المحكمة الجنائية لا يعدو أن يكون مجرّد تضمين للمادة 3 المشار اليها في مواد الاتهامات دون توجيه تهمة محدّدة بموجبها. وفى ذلك في تقديرنا ما يجعل الإشارة الى الاستتابة في نهاية حكم تلك المحكمة مجرد تزّيد لا معنى له طالما وردت الإدانة بموجب مواد في قانون العقوبات وقانون أمن الدولة وحدهما، فالقول بغير ذلك فيه تحميل للحكم بما لا يتضمنه صراحة، إهدارا للقواعد القانونية والمألوفة في اصدار الأحكام والتي تسري على وجه الخصوص على الأحكام الجنائية التي تقوم على قرينة البراءة ومبدأ تفسير الشك لمصلحة المتهم.
وحيث أن الأمر كذلك، وعلى الرغم مما شاب إجراءات المحكمة الجنائية من أخطاء بدأت بتعيين القاضي الجالس فيها، والاضطراب الذي أعتوّر محضر المحاكمة في الشكل وفى المضمون على حد سواء، فان هذه الدائرة – وبعدما أرجأت النظر فيه من مسألة – لا ترى في ذلك ما يرقى الى إهدار ظاهر وكامل لأي حل دستوري لأي من المدّعيين.
ومن ثم تنتقل المحكمة الى تناول إجراءات التأييد في محكمة الاستئناف على اعتبار أنها تشكل جوهر العيوب التي تقوم عليها هذه الدعوى مما يحتاج الى تقرير مفصّل.
على أنه يجمل القول، ومهما كان وجه الرأي فيما يتعلّق بتلك العيوب، انه يبين من مطالعة إجراءات محكمة الاستئناف تلك، انها انتهجت نهجا غير مألوف واسلوبا يغلب عليه التحامل مما جعل الاطمئنان الى عدالة حكمها أمرا غير ميسور وعرضة للمعايير السياسية التي لا شأن لها بالأحكام القضائية.
لقد تم تشكيل محكمة الاستئناف الجنائية بموجب القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405 هـ ذاته الذي شكلت بموجبه المحاكم الجنائية وقد استند القرار فيما أوضحنا من قبل، على المادة 16 (أ) من قانون الهيئة لسنة 1405 هـ وذلك على الرغم من ان تلك المادة خالية من أية اشارة الى سلطة في تشكيل محاكم استئناف واقتصرت على المحاكم الجنائية دون غيرها. بيد أن هذا الخطأ أيضا لا يعدو أن يكون شكليا إذا راعينا أن القانون لم يسكت عن سلطة تشكيل محاكم الاستئناف وانما نص على تلك السلطة ولكن في مادة أخرى هي المادة 18. وفى ذات الوقت لا نرى في خروج تشكيل المحكمة عن النهج السائد حينئذ في تكوين المحاكم من قاض فرد ما يبطل ذلك التشكيل اذ أن المتصور في الظروف العادية أن يكون في زيادة عدد القضاة الجالسين في المحكمة الواحدة ما يضفي ضمانا إضافيا لفرص العدالة.
على أننا لا نرى مناصا من الاتفاق مع هيئة الادعاء في أن محكمة الاستئناف، وخلافا لكل ما كان مأمولا في تشكيلها، انحدرت الى درك من الإجراءات المستحدثة انتهت بها في نهاية الأمر الى إصدار حكم جديد لا صلة له بالحكم الذي عرض عليها للتأييد.
وقبل أن نبين وجه ذلك، فانه يجمل أن نقرر أن محكمة الاستئناف لم تغتصب سلطة التأييد بنفسها، وانما مارست سلطة اضفاها عليها قرار إنشائها، وهو قرار يقع وزر ما اعتوره من خطأ – ان كان هناك ثمة خطأ – على من أصدره دون أن يمتد ذلك الى من قام بتنفيذه طالما كان القرار نافذا وملزما وقتئذ.
على أن محكمة الاستئناف، وفيما نوهنا به، اشتطت في ممارسة سلطتها على نحو كان يستحيل معه الوصول الى حكم عادل تسنده الوقائع الثابتة وفقا لمقتضيات القانون. ويبين ذلك جليا مما استهلت به المحكمة حكمها حين قالت: -
"ثبت لدى محكمة الموضوع من أقوال المتهمين ومن المستند المعروض أمامها وهو عبارة عن منشور صادر من الأخوان الجمهوريين أن المتهمين يدّعون فهما جديدا للإسلام غير الذي عليه المسلمون اليوم... الخ"
وبمراجعة المستند المشار اليه وأقوال المتهمين التي أدلوا بها أمام المحكمة الجنائية لا نجد سندا لهذه النتيجة الخطيرة التي نفذت اليها محكمة الاستئناف مما يكشف عن حقيقة واضحة هي أن المحكمة قد قررت منذ البداية أن تتصدى بحكمها لفكر المتهمين وليس لما طرح أمامها من إجراءات قامت على مواد محددة في قانون العقوبات وأمن الدولة وأدى الى تحريكها صدور منشور محرر في عبارات واضحة لا تقبل كثيرا من التأويل.
وسرعان ما أنكشف أمر المحكمة، حين وقعت عينها على ما ورد في حكم المحكمة الجنائية من إشارة الى "التوبة" فاعتبرت ذلك "إشكالا" لا بد لها من أن توجد له حلا، "لأن التوبة ليس منصوصا عليها في العقوبة المذكورة (تعنى عقوبة الإعدام التي أصدرتها المحكمة الجنائية) ولعل محكمة الموضوع جعلتها من قبيل المسكوت عنه الذي يجوز الحكم به وفق المادة 3 من قانون أصول الأحكام لما لاحظت في المنشورات (هكذا بالجمع) موضوع البلاغ من العبارات الموجبة للردة فحكمت عليهم بالعقوبة الشاملة لحد الردة مع إعطائهم فرصة التوبة والرجوع الى الصراط المستقيم.
واستطردت المحكمة بقولها: "ولكي نقوّم هذا القرار التقويم الصحيح لا بد من الإجابة على سؤالين: الأول: هل الردة معاقب عليها في القانون؟ والثاني، هل كان فعل محمود ومن معه يشكّل ردة وخروجا على الدين؟"
وفى الإجابة على السؤال الأول خلصت المحكمة الى أن المادة 3 من قانون أصول الأحكام "تعطى حق الحكم في الأمور المسكوت عنها" وأن الردة جريمة ثابتة بالكتاب والسنة والاجتهاد، وان المادة 458 (3) من قانون العقوبات تبيح توقيع العقوبة الشرعية ولما كانت الردة حدا شرعيا فانه يلزم توقيع عقوبتها.
أما بالنسبة للسؤال الثاني، فقد استهلت المحكمة الإجابة عليه بقرار جازم بأن "المحكوم عليه محمود محمد طه (هكذا وحده) مرتد بأقواله وأفعاله في يومية التحري التي أقر بها أمام المحكمة وأقواله المدونة المعروفة لدى الناس عامة وأفعاله الكفرية الظاهرة فهو تارك للصلاة لا يركع ولا يسجد.. الخ"
ثم استشهدت المحكمة بحكم محكمة الاستئناف الشرعية بالخرطوم الذي صدر في عام 1968 بإعلان ردة محمود محمد طه واستعرضت بعضا مما جاء في كتب صدرت عن الجمهوريين وما صدر عن المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي من تأييد لحكم عام 1968 وما صدر عن مجمع البحوث الإسلامية بجمهورية مصر العربية من وصف لفكر محمود محمد طه "بالفكر الملحد" وخلصت محكمة الاستئناف الجنائية من كل ذلك الى أنه "مما تقدم يتضح أن محمود محمد طه مرتد عن الدين ليس فقط ردة فكرية فردية وإنما هو مرتد بالقول والفعل داعية الى الكفر معارض لتحكيم كتاب الله.."
ولعلنا لا نكون في حاجة الى الاستطراد كثيرا في وصف هذا الحكم فقد تجاوز كل قيم العدالة سواء ما كان منها موروثا ومتعارفا عليه، أو ما حرصت قوانين الإجراءات الجنائية المتعاقبة على النص عليها صراحة، أو أنطوى عليه دستور 1973 (الملغى) رغم ما يحيط به من جدل.
ففي المقام الأول أخطأت محكمة الاستئناف فيما ذهبت اليه من أن المادة 3 من قانون أصول الأحكام لسنة 1983 كانت تبيح لها – أو لأي محكمة أخرى – توجيه تهمة الردة. وان كان ثمة ما يفرّق في هذا بين محكمة الاستئناف وأية محكمة أخرى، فإن ذلك هو أن محكمة الاستئناف كانت مقيدة كسلطة تأييد بقيود اضافية أخرى على ما سنتناوله من تفصيل فيما بعد – على أننا نرى حاجة ملحة في هذه المرحلة، الى بيان وجه الخطأ في التأويل الذي أوردته محكمة الاستئناف بشأن المادة 3 المشار اليها نظرا لما يبدو لنا من أن هذا المفهوم الخاطئ ليس قصرا على تلك المحكمة ونظرا للخطورة البينة في كل ذلك. ورغم أن المادة 3 – على أي معنى أخذت – لم تعد تسري على المسائل الجنائية (أنظر التعديل الصادر فيها بتاريخ 24/4/1986) الاّ أن الحاجة الى تحديد اطارها ما زالت قائمة لا بشأن آثارها محل النظر أمامنا فحسب، وإنما لأغراض الفقه والسياسات التشريعية في المستقبل.