بسم الله الرحمن الرحيم
(طسم* تلك آيات الكتاب المبين*
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين*
إن نشأ ننزل عليهم، من السماء، آية،
فظلت أعناقهم لها خاضعين*
وما يأتيهم من ذكر، من الرحمن، محدث،
إلا كانوا عنه معرضين* فقد كذبوا،
فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون)..
صدق الله العظيم.
المقدمة:-
هذا الكتاب عبارة عن محاضرة ألقيت على جمهور كبير بنادي السكة الحديد ببورتسودان، وذلك في يوم الثلاثاء 28ر5ر1974.. وقد كانت تلك المحاضرة مسجلة، فنقلت من الشريط، وطبعت..
لقد كانت حركتنا، في مدينة بورتسودان، في تلك الفترة المباركة، كلها، تحت عنوان: "الدعوة الإسلامية الجديدة".. وسيكون إسم هذا الكتاب: "الدعوة الإسلامية الجديدة".. وواضح أن هذا إنما هو اسم عموم الدعوة، بجميع كتبها، ونشاطها، وهو لا يطلق على هذا الكتاب إلا في معنى، ورجاء، أن يكون قد تعرض لجميع المسائل المهمة التي تحويها هذه الفكرة المتوجهة إلى بعث الإسلام من جديد..
عبارة: "الدعوة الإسلامية الجديدة" أسيء فهمها.. المعارضون، عن غرض حينا، وعن قصور فهم، في كثير من الأحيان، أثاروا حولها كثيرا من التشويه فزعموها تعني: الإسلام الجديد.. وواضح، من سياق النص نفسه، أن كلمة "الجديدة" إنما تقع صفة "للدعوة"، وليست "للإسلام".. فهي دعوة إسلامية جديدة، في معنى ما أنها غير دعوة الأخوان المسلمين، وغير دعوة أنصار السنة، وغير دعوة الطائفيين، على مختلف طوائفهم، بل هي غير جميع الدعوات، الإسلاميات، في العهود السابقات.. هي دعوة إسلامية جديدة بهذا المعنى الواضح، والبسيط، والذي يعطيه السياق، ولا يعطي معنى غيره..
هل هي دعوة إسلامية جديدة إلى إسلام جديد؟؟ كلا!! وإنما هي دعوة إسلامية جديدة إلى فهم جديد للإسلام..
هل هناك في الوجود إسلام جديد؟؟ كلا!! فإن الإسلام أقدم من الأكوان جميعها.. هناك الإسلام العام وهو عبارة عن إذعان، وانقياد، الأجساد للإرادة الإلهية المسيطرة.. وهناك الإسلام الخاص وهو عبارة عن إذعان، وانقياد، العقول للإرادة الإلهية المسيطرة.. وعن الإسلام العام قال تعالى: ((أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات، والأرض، طوعا، وكرها، وإليه يرجعون؟؟)).. وعن الإسلام الخاص قال تعالى: ((ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله، وهو محسن، واتبع ملة إبراهيم حنيفا؟؟ واتخذ الله إبراهيم خليلا..))
وليس الدين الخاص بجديد، وإنما هو قديم، قدم آدم، فإن الله تبارك وتعالى يقول: ((شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم، وموسى، وعيسى: أن أقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه.. كبر على المشركين ما تدعوهم إليه.. الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب..)) والمعصوم يقول: خير ما جئت به، أنا والنبيون من قبلي، "لا إله إلا الله".. كل الأنبياء، من لدن آدم وإلى محمد، جاءوا بالإسلام – لا إله إلا الله.. فهم لا يختلفون في الإسلام، وإنما يختلفون في الشرائع – كل يشرع حسب وقته، وحاجة، ومستوى أمته.. فالإسلام قديم، ولكن يتجدد فيه الفهم حسب حكم الوقت.. ولقد تحدثنا كثيرا عن حكم الوقت، فليلتمس في موطنه من كتبنا.. وبالفهم الجديد للإسلام يجيء التشريع الجديد، الذي يناسب الوقت الحاضر، الذي يختلف عن جميع الأوقات، اختلافا لا شبيه له في مدى تاريخ البشرية الطويل.. وهذا التشريع الجديد هو ما أسميناه في "الدعوة الإسلامية الجديدة" بتطوير التشريع، وذلك بارتفاعه من آيات الفروع في القرآن إلى آيات الأصول – هو يرتفع من نص في القرآن إلى نص فيه – لا يخرج عنه ولا يلتمس الحلول في سواه.. ولا يجد أحد سبيلا إلى الفهم الجديد إلا بإتباع حياة محمد، في عبادته، وفي عادته.. وذلك لأن حياة محمد هي مفتاح القرآن، ووسيلة العلم اللدني، قال تعالى في ذلك: ((قل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله))..
هذا هو جوهر "الدعوة الإسلامية الجديدة".. "فالدعوة الإسلامية الجديدة" تقوم على:-
1- تقليد وإتباع محمد بإتقان وتجويد.. هذا لا يكتفي بالسير خلفه فقط، وإنما يعنى بمحاولة وضع القدم على القدم، بضبط وتسديد، في سنة العبادة، وسنة العادة، حيث كان ذلك ممكنا، ومطلوبا.. هذه هي المحاولة على كل حال، وفي جميع الأوقات..
2- يتم هذا مع الوعي التام، والذهن المفتوح، بأن تقليد النبي الكريم ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة الوصول إلى الله – والوصول إلى الله هو عبارة عن الوصول إلى النفس العليا، وذلك بتحقيق فردية الفرد.. وإنما تتحقق فردية كل فرد بتوحيد القوى المودعة في بنيته – بتوحيد جسده، وعقله، وقلبه.. وهذا التوحيد هو "الأحدية" والأحدية فوق "الواحدية" وهي مطلب كل عابد "عبد"..
3- وقبل تحقيق فردية الفرد يتحقق تحصيل العلم اللدني، وهو الثمرة المباشرة لتقليد محمد بإتقان، وبذهن مفتوح.. والقاعدة فيه واردة في القرآن: ((واتقوا الله، ويعلمكم الله..)) وواردة في الحديث: ((من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم)).. وفيه أيضا: ((إنما أنا قاسم، والله يعطي، ومن يرد به الله خيرا يفقهه في الدين.. ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يجيء أمر الله..))..
4- كلما زاد العلم اللدني كلما برزت الفردية، ونضجت، وشارفت الاستواء.. وإنما يزيد العلم اللدني، كما سبق أن قررنا، بإتباع السنة بإتقان.. والسنة خلوة بالليل، وجلوة بالنهار – خلوة بالليل في خدمة الله، وجلوة بالنهار في خدمة الناس.. وأعلى خدمة الناس إبغاؤهم الخير، في السر والعلن.. وأعلى الخير "الإسلام".. فمن دعا الناس إلى الإسلام، على هدى وبصيرة، بلسان حاله قبل لسان مقاله، فقد أبغاهم الخير، كل الخير، ونصح لهم، ولم يأل.. وهذا هو صنيع "الدعوة الإسلامية الجديدة".. فما الذي ينكره الناس علينا؟؟ إنما يجيء إنكارهم علينا من الغفلة المستولية، ومن الغرة بالله، حيث ظن المنكرون أنهم قد علموا علم الله، فلم يبق لأحد غيرهم علم.. من هذا المقام نحن نهديهم حديث المعصوم، وكنا قد دللناهم عليه قبل الآن، ولكننا نعود فندلهم عليه ((لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا)).. قال: ((إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا أهل العلم بالله، فإذا تحدثوا به، لا ينكره إلا أهل الغرة بالله..))..
ونحن، من هذا المقام أيضا، نعيذ معارضينا، وخصومنا، أن يكونوا من أهل الغرة بالله.. فلينظروا هم حيث يضعون أنفسهم..
الله يتولى الجميع، فإنه نعم المولى، ونعم النصير..