إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الإسلام

الناس مخفف عليهم كلما عقلوا


وحين بلغ الإسلام طور رسالة محمد الأولى قال تعالى: ((قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه، إلا أن يكون ميتة، أو دما مسفوحا، أو لحم خنزير فإنه رجس، أو فسقا أهل لغير الله بـه.. فمن اضطر، غير باغ ولا عاد، فإن ربك غفور رحيم))..
وقال تعالى: ((يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم، ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيما..))
فقد رد المحرمات على الأمة المحمدية، إلى أربعة، كلها خبيث، ثم تجاوز، حتى عن هذه الأربعة للمضطر، إذا لم يكن باغيا، ولا عاديا، في حين أنه شدد على اليهود، حتى في الطيبات.. وقال للأمة المحمدية: ((ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيما..)) في حين أنه قال تعالى لليهود: ((فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم..)) والمقصود، بالطبع، القتل الحسي..

الحرمة الحسية مجاز لتنقية السلوك


ثم يطَّرد هذا التفاوت، بين التشديد والتضييق في القاعدة، والترخيص والتوسيع في القمة، حين يبلغ الإسلام بالناس طور رسالة محمد الثانية، وهي قمة الإسلام، ونهاية المطاف، تقريبا، فينتقل التحريم، من الأعيان المحسوسة، إلى صـور السلوك المعنـوية.. فاسمع القرآن الكريم يقول ((يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا، واشربوا، ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين * قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون * قل إنما حرم ربي الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن، والإثم، والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون..)) ويقول: ((وذروا ظاهر الإثم، وباطنه، إن الذين يكسبون الإثم سيُجزون بما كانوا يقترفون..)) فإذا المحرم حقا، وفي آخر الأمر، هو عيب السلوك، ونقص الأخلاق، وإنما حرم المحسوس كوسيلة إلى تحريم عيوب السلوك المعنوية، وذلك على القاعدة الحكيمة في التربية، والتعليم التي تطالعنا بها الآية الكريمة: ((سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحـق، أولم يكف بربـك أنـه على كل شيء شهيد؟))..
ولقد سبق القـول بأن رسالة محمد الثانية تجئ أقرب إلى جانب النهاية، منها إلى جانب البداية، أو هي مما يلي النصرانية.. والآيات الكثيرة التي تُعنى بعيوب السلوك، والتي أوردت لكم منها نموذجا هنا، أدخل في رسالة محمد الثانية، منها في رسالته الأولى، وهي تذكرنا بآيات من أقوال المسيح.. فقد قال في الإصحاح الخامس، من إنجيل متى ما يلي،: ((قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن، وأما أنا فأقول لكـم أن كل من ينظـر إلى امرأة ليشتهيـها فقـد زنى بها في قلبـه..)) وقال أيضا لتلاميـذه: ((اسمعوا، وافهمـوا، ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الفم، هذا ينجس الإنسان..)) يشير إلى أن النجاسة الحسية، من التبول، والتغـوط، لا تنجس الإنسان، وإنما تنجسه أخطاء اللسان.. ((وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)) كما يقول القرآن، في الآية الماضية. أو ((إذ تلقونه بألسنتكم، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وتحسبونه هينا، وهو عند الله عظيم..)) كما يقول القرآن أيضا في موضع آخر.. وعندما ينسحب التحريم من الصور الحسية الغليظة، إلى الصور المعنوية الدقيقة، في عيوب السلوك والسيرة، يواصل هذا الانسحاب حتى يصل خفايا السريرة، وما يحوك فيها من خواطر الإثم، كما تحدثنا الآية الكريمة، التي سبقت الإشارة إليها: ((وذروا ظاهر الإثم وباطنه)).. ومع إن ترك ظاهر الإثم جاء بمكان الوسيلة، والغاية منه ترك باطن الإثم، إلا أن رسالة محمد الأولى قد تجاوزت عن باطن الإثم لأنه لم يكن الوقت يومئذ ناضجا لتحريمه، وفي حديث نبوي شريف أن النبي قال: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفوسهم، حتى يقولوا، أو يعملوا..)) أو كما قال..