إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الإسلام

الفرد الحر حرية فردية مطلقة


وليس هناك أدنى شك أنه، بعد كل ما يُقال عن المجتمع، ومساعدته للفرد، فإن الفرد، في آخر المطاف، لا يمكن أن يتحـرر إلا بمجهوده الفـردي، ذلك بأنك يمكنك أن تؤمّن حياة الفرد من الخـوف، ومن الفقر، ومن الجهل، ومن المرض، وستبقى بعد كل هذا العقد النفسية الموروثة والمكتسبة – العقـد الموروثة منذ فجـر الحياة الإنسانية، حيـن بـدأ المجتمع، وأوجبـت على الأفـراد الواجبات - وهي عقـد لا حـد لها، وإن كانت حدتـها تقـل كلما ارتقى المجتمع وقلّت، تبعا لرقيه، العقد المكتسبة في حياة الفـرد البشري.. فإن هذه العقد النفسية، بنوعيها هي غول الحرية، لأنها قسمت الشخصية البشرية إلى ظاهر، يُرْضِي مقاييس المجتمع، وإلى باطن، لو اطّلع عليه الناس لتقاطعـوا، وتدابـروا.. فهـذه القسمة المنكـرة، في الشخصية البشرية، هي التي تحتاج إلى المجهـود الفـردي لتلتئم، وتكـون بالتئامها كلا واحـدا، متكاملا، فإنـه، كما قال المسيح، ((البيت المنقسم لا يقوم))..
وقد سلف القول بأن القرآن، والعبادات المأثـورة عن المعصوم، هي وسيلة تنفيس هذه العقـد، فإن تقليد النبي في أسلوب حياته، تقليداً متقناً، يفتح مغاليق القرآن.. وفهـم القرآن يرسل النور في سراديب العقل الباطن، حيث تكبّـل الرغائب السجينة من ملايين السنين، بعيـدة عـن النور، والحرارة، والحياة، وكلما تغلغل النور في تـلك السراديب، كلما انبعثـت الشخصية البشرية، حرة، طليقة، كأنما نشطت من عقال.. ويجب أن يكون مفهوما، أن تقليدنا محمدا ليس نهاية القـوة الخلاقـة، المـودعة فينا، وإنما تقليدنا إياه، تقليـدا متقنا، وسيلتنا للتحـرر عن التقليـد، لأن عبادتنا إن هي إلا وسيلة لتحقيـق فرديتنا، التي لا يشابهنا فيها أي فـرد، من أفـراد القطيع البشري، والتقليد، في أرفع صوره، وعلى خير ما يكون، إنما هو إنكار للفردية.. ولا تحقـق الفردية بإنكارها، بالطبع.. فكما أن الكبت، في أول أطوار النشوء البشري، وسيلة إلى التحـرر من الكبت، في أعلى مراقي هـذا النشوء، فكذلك التقليد، في أول طـريق السالك المجـود، وسيلة إلى التحرر عن التقليد، عند الاستواء..
وكل سالك طريق الحرية يبدأ بالإسلام، ثم يرتفع إلى الإيمان، ثم يرقى في مراقي الإحسان المختلفة، كما بينا ذلك قبل حين، حتى ينتهي إلى الإسلام، مرة ثانية.. والقرآن يخاطبه، في كل مقام من مقامات سيره، خطابا فرديا، فمثلا عندما يقرأ السالك المجود قـوله تعالى ((لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله، رب العالمين)) يفهم منها، في أول الطريق، أن له مشيئة مستقلة بالاستقامة، أو الالتواء، فيجتهد في الاستقامة، في تشمير، وجد، فإذا نضجت تجربته، واستوى، يعلم، يقينا، أنه لا يملك، مع الله مشيئة، ويصبح الخطاب في حقه ((وما تشاءون إلا أن يشاء الله، رب العالمين)) مع فهم أكيد للحكمة في قوله تعالى ((لمن شاء منكم أن يستقيم)) وتصبح هذه القولة، في حقه، منسوخة بالقولة الثانية..