إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

من دقائق حقائق الدين

بسم الله الرحمن الرحيم
أم درمان في 23 فبراير 1974م يوافق 30 محرم 1394هـ
ص.ب 1151

إلى حضرة الأخ العزيز الشيخ أبو زيد محمد الأمين الجعلي، زاده الله من نوامي البركة، وسوابغ الإحسان..

تحية طيبة...
أما بعد، فإني أحمد لك الله الذي لا إله غيره، وأشكره، ولا أكفره، وأسأله لي ولك، عافية الدين والدنيا ثم إن جوابك (بدون تاريخ) قد وردني ويجري نصه كالآتي:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الصديق القديم محمود أفندي محمد طه المحترم
السلام عليكم ورحمة الله.. وقع في يدي كتاب العبادلة للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي رضي الله عنه، ورأيت في رسائلك أنك ترتضي قوله وتستدل به علماً سديداً.. وإليك أُهدي كتابه هذا (العبادلة) لتطلع عليه إن لم يكن قد وصلك قبلاً، فإن وصل إليك فلله الحمد.. وإن كان مكرراً عندك فآسف أن ترده إليَّ ولك الشكر..
ولقد لقيت شخصية أتأكد أنها توصله إليك والله يجمعنا على الحق ويبصرنا به إنه سميع مجيب.. ولك الشوق والسلام عليكم ورحمة الله..
(أبو زيد محمد الأمين )..

لقد وصلني الكتاب المذكور أعلاه، وهو كتاب قيِّم، ولم يتفق لي أن رأيته قبل الآن، ولم أسمع به، فأنا، على ذلك، مأذون منك في الاحتفاظ به.. فجزاك الله عن صديقك القديم كل خير.. ولا زلتُ وفياً للأصدقاء كثير البر بهم، وإن تقادم عهدهم، كعهدي بك قديماً..
حقاً إنني لكثير الإعزاز للشيخ الأكبر إبن عربي وكثيره لجميع السلف الصالح، كبار الصوفية منهم، بشكل خاص..
ظننت أنك لا بد ترمي من وراء تقديم هذا الكتاب لصديقك القديم إلى معنى معين.. فأنت لا بدّ مشغول، كثيراً أو قليلاً بما تسمع عني.. عساك تريدني أن أطّلع، بشكل خاص، على ما ورد في صفحة 33 من كتاب (العبادلة) هذا، ويجري النص هكذا:-
(ومع هذا النزوع والطموح فهو بحكم التوفيق خاضع للحق لائذ بميزان الشرع من مغبة الانحراف وضلال الطريق)، وقد كُرّر هذا المعنى كثيراً في كتاب (العبادلة) وفي غيره من الكتب، وألحَّ على ضرورة القبض على ميزان الشرع والعضِّ عليه بالنواجز في كل حالٍ.. فزيادة على ما في العبادلة من ذلك يروي عنه ابن العماد قوله:-
(رأيت في واقعة وأنا ببغداد سنة ثمان وستمائة أن السماء قد فتحت، ونزلت خزائن المكر الإلهي مثل المطر العام، وسمعت ملكاً يقول: ماذا نزل إليه من المكر؟ فاستيقظت مرعوبا ونظرت في السلامة من ذلك فلم أجدها إلا في العلم بالميزان المشروع .. فمن أراد الله به خيراً وعصمه من غوائل المكر فلا يضع ميزان الشرع من يده)..
(ويحقق خضوعه لهذا الميزان مع نزوعه وسبق روحه إلى آفاق العلا، ما نقله عنه الشعراني فى اليواقيت نقلاً عن الفتوحات المكية 246 حيث يقول: إياك أن ترمي ميزان الشرع من يدك في العلم الرسمي، بل بادر إلى العمل بكل ما حكم وإن فهمت منه خلاف ما يفهمه الناس.. مما يحول بينك وبين إمضاء ظاهر الحكم به فلا تعوِّل عليه، فإنه مكر إلهي في صورة علم إلهي من حيث لا تشعر، واعلم أن تقديم الكشف على النص ليس بشئ عندنا لكثرة اللبس على أهله وإلا فالكشف الصحيح لا يأتي قط إلا موافقا لظاهر الشريعة، فمن قدم كشفه على النص فقد خرج عن الانتظام في سلك أهل الله، ولحق بالأخسرين أعمالاً)
انتهى كلام الشيخ الأكبر، وانتهى كلام محقق كتاب العبادلة..

علام يقومُ أمرُنا؟؟


وأبادر فأطمئنك على أمرين هامين: أولهما أني لم أضع ميزان الشرع من يدي.. وثانيهما أني لم أبن شيئا من أمري على كشف يخالف ظاهر النص.. أول ما تجب الإشارة إليه، هو أن أمرنا هذا يقوم على يقين لا يتزعزع بأن الإسلام عائد ليدخل في حياة الناس، فينظِّم أمر معاشهم، وأمر معادهم، ويبعث (لا إله إلا الله) في صدور الرجال، وصدور النساء، بعثا قويا، خلاقا، يعيد صياغة الأخلاق، وصياغة الأفكار، كالعهد بهذه الكلمة لدى أول نزولها، على نبينا الكريم، في القرن السابع الميلادي.. ومما لا شك فيه عندنا أن الإسلام لا يعود إلا بفهم جديد لنصوصه القديمة، في القرآن، وفي الحديث.. وهذا الفهم الجديد لا بد أن تصحبه غرابة تشبه الغرابة التي صحبت أول مجيئه.. فلقد وردت الإشارة إلى هذا الأمر في الحديث الكريم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ.. فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها!!)

الشرعُ شرعان، والنَّصُ نَصَّان:


ولقد يحسن بنا، في مقامنا هذا أن نطلعك على رأينا في ما هو الشرع؟؟ وما هو النص؟؟ فالشرع عندنا شرعان: شرع كان عليه النبيُّ، في خاصة نفسه، وشرع كانت عليه الأُمّة.. فأما الشرع الذي كان عليه النبي، في خاصة نفسه، فهو معروف بالسنة.. والسنة، عند الفقهاء، هي عمل النبي، وقوله، وإقراره.. فانتهى بذلك الأمر عندهم بألاّ فرق بين السنة والشريعة.. فشريعة النبي هي سنته.. والأمر عندنا بخلاف ذلك.. عندنا أن النبي كنبي قد كُلِّف بشرع لم تُكلَّف به الأُمّة.. ولقد قال في أمر نبوته، وأمر رسالته للأمة: (أدبني ربي فأحسن تأديبي، ثم قال: خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين..) فصدر هذا الحديث نبوَّة، وعجزه رسالة، والفرق بين النبوَّة وبين الرسالة كالفرق بين النبي والرجل من سائر أمته.. وعن هذا الفرق الشاسع وردت الإشارة بقوله: (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم..) وهذا يعني أن شريعة الرسالة تختلف، اختلاف مقدار عن شريعة النبوَّة (عن السنة).. شريعة الرسالة تنزُّل من شريعة النبوَّة لتخاطب الناس على قدر ما تطيق عقولهم، ولتكلفهم بالقدر الذي يستطيعون التزامه، من غير مشقة، ولا عنت، ولتحل مشاكلهم التي تواجههم، في معاشهم، وفي معادهم، حلا يحفز تقدمهم، من غير أن يشتط عليهم، أو يتوانى بهم..

شريعة النبوَّة، وشريعة الرسالة:


ومعلوم أن التداخل قائم بين شريعة النبوَّة وشريعة الرسالة.. وهناك نقطة في هذا التداخل، يقف عندها تكليف الأُمّة، ويستمر تكليف النبي "كنبي".. وهذا ما عنيناه باختلاف المقدار بين الشريعتين، وهو بعينه ما عنيناه حين قلنا، إن السنة هي عمل النبي، في خاصة نفسه.. وللأمثلة على ذلك نسوق ثلاثة نماذج:-
1) الصلاة المكتوبة هي شريعة، وهي سنة والتكليف بها يتوجه إلى الأُمّة، كما يتوجه إلى النبي، ويزيد تكليف النبي فيتعداها إلى صلاة الليل، فإنها، في حقه، فرض، وفى حق الأُمّة على الندب.. قال تعالى في حقه: (يا أيها المزمل* قم الليل إلا قليلا* نصفه أو انقص منه قليلا* أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا* إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا* إن ناشئة الليل هي أشد وطأً، وأقوم قيلا* إن لك في النهار سبحاً طويلا).. هي في حقه فرض، لم ينقطع عن أدائه، لا في السفر، ولا في الحضر، لا في الصحة ولا في المرض.. وكان إذا فاته يقضيه.. وهي في حق الأُمّة، على الندب، ومن باب التأسي بالنبي..
2) صيام المواصلة، فإن الصيام المكتوب يتوجه التكليف به إلى الأُمّة، كما يتوجه إلى النبي.. ولكن تكليف النبي يزيد عن هذا بصيام المواصلة في التطوع.. وهو ما عرف بالصيام (الصمدي) يصوم ثلاثة أيام، وليلتين، في اتِّصال لا يتخلله إفطار.. ولما أراد بعض الأصحاب أن يتأسّى به في ذلك نهاهم.. فقالوا: (إنا نراك تواصل، يا رسول الله!!) فقال: (إني لست كأحدكم، فإني أبيت عند ربي، يطعمني، ويسقيني..)
3) المال، فإن حق المال في الزكاة يقع في مستوى شريعة الأُمّة، ومستوى شريعة النبي.. والخطاب في الزكاة ذات المقادير المعروفة يتوجه إلى الأُمّة، ولا يتوجه إلى النبي.. فإن زكاة النبي تتعدّى التكليف العادي، الذي توجّب على أمته على قدر طاقتها، إلى تكليفه هو في مستوى طاقته.. فآية الأُمّة من كتاب الله: (خذ من أموالهم صدقة، تطهرهم، وتزكيهم بها، وصلِّ عليهم.. إن صلاتك سكن لهم.. والله سميع، عليم..) وآية النبي من كتاب الله: (ويسألونك ماذا ينفقون؟؟ قل العفو!!).. (والعفو) قد فسره النبي قولا، وعملا، بأنه ما زاد عن حاجته الحاضرة.. فإنه لم يكن يدَّخر رزق اليوم لغد.. ولو ادّخره لم يكن قد تزكى.. وقد ورد أنه أقبل، ذات يوم، يؤمُّ أصحابه في الصلاة، فلما رفع يديه، وهمّ بتكبيرة الإحرام، أمسك قبل أن يهوي بهما، وخرج مسرعا إلى الحجرة، فلما عاد ورأى الدهشة على وجوه بعض أصحابه، قال لهم: لعلكم قد راعكم ما فعلتُ؟ قالوا: نعم، يا رسول الله!! قال: فإني تذكرت أن في بيت آل محمد درهما فخشيت أن ألقى الله وأنا كانز..) وثابت، من غير أدنى ريب، أن النبي لم يزك الزكاة ذات المقادير.. فهي ليست من شريعته، في خاصة نفسه، وإنما هي شريعته لأمته.. فالزكاة ذات المقادير ليست الركن التعبدي المذكور في الحديث النبوي: (بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، لمن استطاع إليه سبيلا..) وإنما الركن التعبدي بالأصالة هو زكاة النبي.. وقد جُعلت الزكاة ذات المقادير ركنا تعبدياً، في حق الأُمّة، وذلك بمحض الفضل الإلهي، لأن الأُمّة لا تطيق أكثر منه.. وهذا من باب قوله تعالى: (لا يكلِّف الله نفسا إلا وسعها..).. ومن باب قول النبي: (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم..).. فالزكاة ذات المقادير تنزُّل من زكاة النبي ـ هي شريعة الرسالة متنزِّلة من شريعة النبوَّة..
هذه ثلاثة أمثلة نسوقها للتدليل على أن السنة غير الشريعة.. وتعريف العلماء بأن السنة هي عمل النبي، وقوله، وإقراره، تعريف خدم غرضه، وأصبح اليوم بحاجة إلى إعادة النظر، ابتغاء تصحيحه، لينفتح الطريق لتحديد معنى السنة، حتى نستطيع أن نحييها، ابتغاء بعث الإسلام، وذلك بمقتضى الحديث الذي أوردناه آنفا: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها..).. وأول ما ينبغي أن يقال، في هذا التصحيح، أن إقرار النبي كله شريعة، وليس بسنة، على الإطلاق.. وأما قوله فمنه ما هو شريعة، ومنه ما هو سنة.. فالقول المراد به إلى تعليم الأُمّة، وتنظيمها، والتشريع لها، هو شريعة.. مثال ذلك حديث المقابر المشهور: (كنت قد نهيتكم عن زيارة المقابر ألا فزوروها..).. وأما القول الرامي إلى تعليم الأُمّة، والدال على حالة قلب النبي من المعرفة بربه، فهو من السنة ولاحق بها.. مثال ذلك: (إن الله قد احتجب عن البصائر، كما احتجب عن الأبصار.. وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه..).. هذا الحديث إنما هو لاحق بالسنة لأنه نامُّ عن حالة قلب النبي ـ وحالة قلب النبي هي السنة في الحقيقة، ينمُّ عنها القول، وينمُّ عنها العمل، ولذلك فقد قلنا: إن السنة هي عمل النبي في خاصة نفسه..

مثاني القرآن:


هذا تصحيح ضروري لنصل إلى التعريف المحدد للسنة، لنستطيع أن نبعثها، لنعيد الإسلام إلى حياتنا الحاضرة.. إذا صح ما زعمناه من أن لدينا شريعتين: شريعة نبوَّة، وشريعة رسالة، فإنه يصح أيضا أن لدينا نصّين: نصّا ناسخا، ونصّا منسوخا، هذا، على أيسر تقدير، فيما نحن بصدده من الحديث عن النصّ الظاهر، وعن ميزان الشرع.. وإنما يجئ النصان من طبيعة القرآن.. قال تعالى: (الله نزّل أحسن الحديث كتابا متشابها، مثانيَ، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم، وقلوبهم، إلى ذكر الله ذلك هدى الله، يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد..) ومعنى أنه (مثاني)، أنه ذو معنيين، معنيين: معنى في الطرف البعيد، ومعنى في الطرف القريب.. وإنما يجئ ذلك من كون القرآن حديثا من الرب، في عليائه، تنزّل إلى العبد في الأرض.. ويجئ هذا المعنى في نص آخر: (حم* والكتاب المبين* إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون* وإنه، في أم الكتاب، لدينا، لعلي حكيم..).. فهناك نص في أم الكتاب، وهذا ما يعتبر نصا في الطرف البعيد.. وهناك نص في المصحف المخطوط، والمقروء باللغة العربية بين ظهرانينا اليوم، وهو نص يمكن أن يعتبر في الطرف القريب.. نورد هذا القول، على سبيل التمثيل، للتوضيح.. وإلا فإن المثاني هذه موجودة في المصحف، وباللغة العربية.. وأمثلتها كثيرة.. منها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا، اتقوا الله، حق تقاته، ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون..) هذه آية في المعنى البعيد.. ثم قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا، وأطيعوا، وأنفقوا خيرا لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون..).. هذه آية في المعنى القريب.. وآيتا الزكاة فقوله: (ويسألونك ماذا ينفقون؟؟ قل العفو!!) هذه في المعنى البعيد.. ثم قوله تعالى: (خذ، من أموالهم صدقة، تطهرهم، وتزكيهم بها، وصل عليهم.. إن صلاتك سكن لهم..).. هذه في المعنى القريب.. ومنها قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر..).. هذه في المعنى البعيد.. ثم قوله: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله.. فإن انتهوا، فلا عدوان إلا على الظالمين).. هذه في المعنى القريب..
وجملة الأمر فإن نصوص المعنى البعيد هي نصوص أصول، ونصوص المعنى القريب هي نصوص فروع.. وقرآن الأصول قرآن مكي، وقرآن الفروع قرآن مدني..
فإذا صح تقريرنا أن عندنا شريعتين اثنتين: شريعة النبوَّة، وشريعة الرسالة.. وإذا صح أيضا أن لدينا نصين اثنين: نصا في المعنى البعيد ـ القرآن المكي ـ ونصا في المعنى القريب ـ القرآن المدني ـ فإن أمورا كثيرة تنبني على هذا التقرير..

أمة المؤمنين، وأمة المسلمين:


من هذه الأمور أن هناك أمتين اثنتين: أمة المؤمنين، وأمة المسلمين.. فأما أمة المؤمنين فطليعتها، وعلى قمتها، أبو بكر الصديق، ويتبعه على ذلك سائر الأُمّة و إلى يوم الناس هذا.. وقد كانوا هم موضوع شريعة الرسالة.. وأما أمة المسلمين فطليعتها النبي الكريم.. ولم يكن معه يومئذ غيره.. فقد كان وحده المسلم، في أمة المؤمنين.. ويجب أن نقرر هنا أن الأُمّة المسلمة لم تدخل في التاريخ بعد.. وحين كان النبي وحده المسلم في أمة المؤمنين، فإنه قد اشتاق لأمة المسلمين، التي لم تكن حاضرة يومئذ.. فقال حديثه المشهور بحديث الإخوان: (وا شوقاه لإخواني الذين لمّا يأتوا بعد!! قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟؟ قال: بل أنتم أصحابي.. ثم واشوقاه لإخواني الذين لمّا يأتوا بعد!! قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟؟ قال: بل أنتم أصحابي.. ثم قال، للثالثة، واشوقاه لإخواني الذين لمّا يأتوا بعد!! قالوا: من إخوانك، يا رسول الله؟؟ قال: قوم يجيئون في آخر الزمان، للعامل منهم أجر سبعين منكم!! قالوا: منا، أم منهم؟ قال: بل منكم!! قالوا: لماذا؟ قال: لأنكم تجدون على الخير أعوانا، ولا يجدون على الخير أعوانا!!).. أمة المؤمنين هم الأصحاب، وأمة المسلمين هم الإخوان..
ومن الأمور التي تنشأ عن تقرير وجود الشريعتين، والنصّين، أن الإسلام إسلامان.. إسلام بدائي وإسلام نهائي.. فأما الإسلام البدائي فيعني الانقياد الظاهري، ومنه أخذت أمة المؤمنين اسمها الشائع عليها اليوم ـ المسلمين ـ وهو يقع في درجات ثلاث، حواها حديث جبريل المشهور، وروايته: (عن عمر بن الخطاب، قال: بينا كنا جلوسا عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد.. فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، فقال: يا محمد!! أخبرني عن الإسلام.. قال: الإسلام أن تشهد ألا اله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وأن تؤتي الزكاة، وأن تصوم الشهر، وأن تحج البيت، إذا استطعت إليه سبيلا.. قال: صدقت.. فعجبنا له، يسأله ويصدقه.. ثم قال: فأخبرني عن الإيمان.. قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر، خيره وشره، وباليوم الآخر.. قال: صدقت.. ثم قال: فأخبرني عن الإحسان.. قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. قال: صدقت.. ثم قال: أخبرني عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.. قال: فأخبرني عن علاماتها.. قال: أن تلد الأُمّة ربتها، وأن ترى الحفاة، العراة، رعاء الشاة، يتطاولون في البنيان.. ثم انصرف، فلبثنا مليّا.. ثم قال: يا عمر!! أتدري من السائل؟؟ قلت: الله، ورسوله أعلم قال: هذا جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم..)..

الإسلام إسلامان:


فأصبح الإسلام البدائي، وهو دين أمة المؤمنين، يقع في ثلاث درجات: الإسلام، والإيمان، والإحسان.. وهذه مرحلة عقيدة.. وأما الإسلام النهائي فيعني الاستسلام، والانقياد الكلي ظاهرا وباطنا.. ويعني الإذعان الكلي، لأمر الله، عن رضاً وطواعيةً.. وهو يقع أيضا في ثلاث درجات، تلي درجات الإسلام البدائي.. وهذه الدرجات الثلاث هي درجات: علم اليقين، وعلم عين اليقين، وعلم حق اليقين.. ثم تتوّج هذه الدرجات الست بالإسلام النهائي.. فكأن الصورة هكذا: الإسلام البدائي، ثم الإيمان، ثم الإحسان، ثم علم اليقين، ثم علم عين اليقين، ثم علم حق اليقين، ثم الإسلام.. وهذا الإسلام الأخير هو المعني بقوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام..) وهو المعني بقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين..) هذا، في حين وردت الإشارة إلى الإسلام البدائي، في قوله تعالى، عن الأعراب: (قالت الأعراب: آمنا.. قل: لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا، ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم..).. فالإسلام البدائي أقل من الإيمان.. والإسلام النهائي أكبر من الإيمان.. ويعتبر الإسلام البدائي مدخلاً على الإسلام النهائي.. وحين حوى درجات الإسلام البدائي حديث جبريل، حوى درجات الإسلام النهائي القرآن.. قال، عن علم اليقين، وعلم عين اليقين: (كلا!! لو تعلمون علم اليقين* لترون الجحيم* ثم لترونّها، عين اليقين* ثم لتسألُنّ يومئذ عن النعيم.. ) وقال عن علم حق اليقين: (إن هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم).. ولقد نزل إبراهيم الخليل منازل الإسلام، درجة، درجة.. وتطوّر في مراقيه طورا بعد طور.. ولقد قصَّ الله تعالى علينا من خبره، في مواضع كثيرة من القرآن.. فإنه، بعد أن قطع درجات الإيمان الثلاث (مرحلة العقيدة)، أراد أن يريَه إحياء الموتى، فجاءت حكاية القرآن عنه هكذا: (وإذ قال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى.. قال: أولم تؤمن؟؟ قال: بلى!! ولكن ليطمئن قلبي.. قال: فخذ أربعة من الطير، فصْرهنّ إليك، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا، ثم ادعهن.. يأتينك سعيا.. واعلم أن الله عزيز حكيم..).. قال: (بلى)، في الجواب على سؤال ربه: (أولم تؤمن؟؟)، وهذا يعني الاعتراف بالإيمان، ولكنه أراد الزيادة على الإيمان ـ أراد درجات الإيقان التي بها يكون اطمئنان القلوب ـ (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي).. وتطّرد حكاية ترقيه في القرآن، فيقول عنه جل من قائل، بعد الآية السابقة في ترتيب الترقي: (وكذلك نُرِي إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين).. قال: (وليكون من الموقنين)، ولم يقل وليكون من المؤمنين، لأن إيمانه، في تلك المرحلة، قد كان مفروغا منه.. وبعد ممارسات كثيرة، وتجارب كثيرة، قصها علينا القرآن، فقال: (فلما جنّ عليه الليل رأى كوكبا.. قال: هذا ربي!! فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين* فلما رأى القمر بازغا، قال: هذا ربي!! فلما أفل، قال: لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالين* فلما رأى الشمس بازغة، قال: هذا ربي!! هذا أكبر!! فلما أفلت قال: يا قوم إني برئ مما تشركون* إني وجهت وجهي للذي فطر السموات، والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين* وحاجّه قومه.. قال: أتحاجّوني في الله وقد هدان، ولا أخاف ما تشركون به؟؟ إلا أن يشاء ربي شيئا، وسع ربي كل شيء علما، أفلا تتذكرون* وكيف أخاف ما أشركتم، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا؟؟ فأيِّ الفريقين أحق بالأمن؟؟ إن كنتم تعلمون* الذين آمنوا، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون* وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، نرفع درجات من نشاء.. إن ربك حكيم عليم..).. ومنها قوله تعالى، في ذلك: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهنّ.. قال: إني جاعلك للناس إماما.. قال: ومن ذريتى قال: لا ينال عهدي الظالمين..).. وهذه الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم فأتمَّهُنَّ هي حادثة الحريق بالنار التي شبّها له النمروذ، وقذفه فيها، فأنجاه الله منها، بحسن توكله عليه.. وقصتها معروفة.. ومنها أخذ فرعون مصر زوجته سارة، فأمضت ليلتها في قصر فرعون، وبات إبراهيم آمنا مطمئنا على زوجته.. وذلك لحسن ثقته بالله، فأنجاها الله وأكرمها، وأخدمها وليدة هي هاجر.. وهذه قصة أيضا معروفة، فلا موجب للخوض في تفاصيلها.. ومن هذه الكلمات تركه هاجر، وطفله منها، إسماعيل، في موضع البيت الحرام، حيث لا زرع، ولا ضرع، ولا ماء، ولا أنيس، وذلك صدعا بأمر الله إياه بذلك.. فلما قالت له زوجه: لمن تتركنا في هذا المكان الموحش؟؟ قال: لله!! قالت: أالله أمرك بذلك؟؟ قال: نعم!! قالت: إذن لا يضيعنا!! وجرى من أمرها، وأمر طفلها، ما هو معلوم.. ومن هذه الكلمات تنفيذه أمر الله في ذبح ابنه إسماعيل، في غير تردد، حتى جاء النداء من قبل القدس.. ويجري السياق هكذا: (فلما أسلما، وتله للجبين * وناديناه: أن يا إبراهيم* قد صدّقت الرؤيا.. إنا كذلك نجزي المحسنين* إن هذا لهو البلاء المبين* وفديناه بذبح عظيم* وتركنا عليه في الآخرين* سلام على إبراهيم..) وبعد هذا الابتلاء، وهذا التجريب، وهذه الممارسة في صدق التوجه، والتوكل على الله، جاءه الأمر بالإسلام، بعد أن جاءه الإذن به: (إذ قال له ربه: أسلم!! قال أسلمت لرب العالمين..).. هذا هو الإسلام النهائي، وذاك هو الإسلام البدائي، فالإسلام إسلامان.. ومن الأمور التي تنشأ عن تقرير وجود الشريعتين، والنصين، أن الإسلام رسالتان..

الإسلام رسالتان:


رسالة أولى قامت على فروع القرآن ـ على القرآن المدني ـ وهذه موضوع رسالة الرسول محمد، ويدخل فيها تبليغ القرآن المقروء كله، وتفصيل ما يناسب أمة المؤمنين منه، وذلك بالتشريع، وبالتفسير.. قال تعالى في ذلك: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزّل إليهم.. ولعلهم يتفكرون..).. (وأنزلنا إليك الذكر) تعني القرآن كله.. وأما قوله (لتبين للناس ما نُزّل إليهم) فيعني لتبين للناس، بالتشريع، وبالتفسير، ما هو في مستوى حاجتهم، وفي مستوى عقولهم.. فيجب أن يكون واضحا، أن التبيين لا ينصب على القرآن كله.. ذلك يمتنع دينا.. ذلك بأن القرآن لا يتم تبيينه على الإطلاق.. وروح هذه الآية في الفاصلة: (ولعلهم يتفكرون) فإنهم، بالفكر المروّض، والمؤدب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة، يرتفعون من مستوى النص في المعنى القريب ـ القرآن المدني ـ إلى مستوى النص في المعنى البعيد ـ القرآن المكي.. والقرآن المكي هو قرآن الأصول.. وهو ما قامت عليه الرسالة الثانية من الإسلام.. وموضوع الرسالة الثانية من الإسلام هو نبوَّة النبي أحمد.. وهي شريعة الأُمّة المسلمة.. وهي الأُمّة التي لم تأت بعد.. قال تعالى في حقها: (يسبح لله ما في السموات، وما في الأرض، الملك، القدوس، العزيز، الحكيم* هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب، والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين* وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم* ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم..) ومن هاتين الآيتين أُخذ حديث الإخوان: (وا شوقاه لإخواني الذين لمّا يأتوا بعد! قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟؟ قال: بل أنتم أصحابي.. وا شوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!! قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟؟ قال: بل أنتم أصحابي.. فلما قال للثالثة: وا شوقاه لإخواني الذين لمّا يأتوا بعد!! قالوا: من إخوانك، يا رسول الله؟؟ قال: قوم يجيئون في آخر الزمان، للعامل منهم أجر سبعين منكم!! قالوا: منا، أم منهم؟ قال: بل منكم.. قالوا: لماذا؟؟ قال: لأنكم تجدون على الخير أعوانا، ولا يجدون على الخير أعوانا!!) إجابته على سؤالهم (لماذا؟؟) الواردة في آخر الحديث (لأنكم تجدون على الخير أعوانا، ولا يجدون على الخير أعوانا!!) مأخوذة من الآية: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم..).. ويلاحظ أنها لم ترد في اتجاه الآية، ولا في مستوى الآية، وإنما كان ذلك منه نزولا على مستوى البلاغة في التبليغ.. وقد عبر عنه بقوله: (نحن، معاشر الأنبياء، أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم..) وإنما قال لهم ما قال لئلا يثبِّطهم عن العمل.. الرسالة الأولى عمدتها قرآن الفروع ـ القرآن المدني ـ وقد فصّلها النبي تفصيلا، وحمل الأُمّة المؤمنة على تطبيقها حملا.. الرسالة الثانية عمدتها قرآن الأصول ـ القرآن المكي ـ وقد أجملها النبي إجمالا، ولم يقع في حقها التفصيل، إلا في القدر المتداخل بينها وبين الرسالة الأولى، وإلا في معنى، ما أنه عاشها، وطبقها في حياته الخاصة.. فرسول الرسالة الأولى محمد، ورسول الرسالة الثانية محمد.. فصل الأولى وحمل عليها الأُمّة، وأجمل الثانية وعاشها.. الأولى شريعته والثانية سنته ولا يعود الإسلام، من جديد، على مستوى شريعته، وإنما على مستوى سنته.. وهذا مقتضى الحديث الذي أوردناه آنفا، وهو قوله: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء، يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها..) ويجب أن يكون واضحا، فإنه لم يقل يحيون شريعتي، وإنما قال: (يحيون سنتي).. وهذا ما من أجله نُصِّر نحن على التمييز بين الشريعة والسنة..

الرسالة الأولى كالثابتة، والرسالة الثانية متحركة:


لازمة الرسالة الأولى العقيدة، وسمتها الثبات إلا قليلا.. فالسالك فيها إنما يتحرك في منطقة العقيدة، في الدرجات الثلاث: درجة الإسلام، ودرجة الإيمان، ودرجة الإحسان، وذلك قصاراه.. ولازمة الرسالة الثانية العلم، وسمتها الحركة، إلا قليلا.. فالسالك فيها ينطلق في ترقٍّ مستمر، ينتقل في سلم سباعي، درجاته الثلاث الأولى في حيز العقيدة ودرجاته الأربع الأخيرة في حيز العلم.. ذلك السلم السباعي هو الإسلام، فالإيمان، فالإحسان، فعلم اليقين، فعلم عين اليقين، فعلم حق اليقين، فالإسلام من جديد.. ثم تُكرِّر هذه الدرجات السبع نفسها، ولكنها في مستوى يلطف كل حين.. والسالك فيها يسير في طريق لولبي، كلما أتم دورة منه دخل في دورة جديدة، هي ألطف، وأرفع من سابقتها، وهكذا دواليك.. فهو يجدد علمه وحياته كل حين، تخلُّقاً في ذلك بأخلاق الله، تبارك وتعالى: (كل يوم هو في شأن)..

الصلاة وسيلة الحركة في المراقي:


وأوكد ما يكون هذا العمل في الترقي المستمر إنما هو بمنهاج الصلاة فالصلاة.. في الإسلام صلاتان، كما هو الأمر في كل الشئون القرآنية، والإسلامية كما سبق أن بيّنا.. صلاة في المعنى البعيد، وهي تلك التي فرضت يوم المعراج، بعد سدرة المنتهى، حيث تخلف جبريل، وسار النبي وتريا (من غير واسطة) إلى مقام ورد في القرآن وصفه هكذا: (إذ يغشى السدرة ما يغشى* ما زاغ البصر وما طغى..) هذا مقام أحدية، وترية.. وفي ذلك المقام لم يكن بين النبي وربه واسطة، ورُفع حجاب الفكر عن النبي، فتوقف، فلم يتجاذبه الماضي: (ما زاغ البصر)، ولم يتجاذبه المستقبل: (وما طغى)، وإنما توحد مكانُه، وزمانه، فعاش في لحظته، فكان وحدة ذاتية، في وحدة مكانية في وحدة زمانية حققت له الوحدة من جميع الوجوه، فرأى الواحد.. وقال عبارة عن هذا المقام: (ليلة عُرِجَ بي انتسخ بصري، في بصيرتي، فرأيت ربي..).. هذه هي الصلاة الأصلية، وهي المعبر عنها بـ (ذكر الله) من الآية الكريمة: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء، والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون..).. وقد عبر عنها المعصوم بقوله: الصلاة صلة بين العبد وربه.. وهناك الصلاة في المعنى القريب، وهي الصلاة الفرعية (الشرعية)، التي فرضت يوم المعراج، في مقام: (قاب قوسين، أو أدنى..).. وهذا المقام قد كان جبريل مرافقا للنبي فيه، وقد كان النبي، لمكان رفقة جبريل له (شفعيا) لم تتم له (الوترية) بعد.. وقد فرضت عليه الصلاة الفرعية ههنا ـ في مقام (الشفعية) هذا ـ وجاءه جبريل، في الأرض، بتفاصيلها ـ طهارتها، وهيئتها، وأوقاتها ـ وقد قال المعصوم عنها: (الصلاة معراج العبد إلى ربه).. وقد جعلت الصلاة المعراج هذه وسيلة إلى الصلاة الصلة.. وقد قيل للنبي الكريم في أمر التوسل بها، والعروج عليها، إلى المقامات العلا: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا..) والمقام المحمود هو المقام الذي ليس بينه وبين الله واسطة، وهو بين الله وبين جميع الخلائق.. وصاحب المقام المحمود هو أول قابل لتجليات الحقيقة الإلهية المطلقة.. ومنه امتدت جميع المخلوقات ـ علويها، وسفليها ـ هو مقام أحدية وترية.. هذا المقام هو مقام الصلاة الكبرى ـ الصلة ـ وإليه توصل الصلاة الصغرى ـ صلاة المعراج ـ إذا أحسن استعمالها..

إنما يبعث الإسلام ببعث الصلاة:


ما الذي نرمي إليه من وراء هذه الدعوة؟؟ لقد قررنا أننا نعمل لبعث الإسلام ليعود فينا خلاَّقا في صدور الرجال والنساء، كما كان العهد به في القرن السابع الميلادي، عندما انبعث في الناس جديدا من منجمه.. والحديث عن بعث الإسلام يفترض أنه غير موجود في الناس، أنه قد مات، وكونه قد مات حقيقة لا ريب فيها عندنا.. ولكنها تحتاج لأشد التوكيد عند الناس عامة، وعند علماء الفقه بخاصة، ذلك بأنهم يرون أن المسلمين يشهدون الشهادة، ويصلون، ويصومون، ويزكي كثير منهم، ويحجون، فهم تبعا لذلك يرون أن المسلمين بخير.. والحق أن المسلمين اليوم إنما يعيشون على قشرة الإسلام، دون لبته.. وهم لذلك يعيشون الجاهلية الثانية، وقد أدركتهم نذارة المعصوم التي قالها في أحاديث كثيرة، نذكر منها حديثين، هما: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كتداعي الأكلة على القصعة، قالوا: أومِن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير!! ولكنكم غثاء!! كغثاء السيل، لا يبالي الله بكم!!).. والحديث الآخر: (لتتبعُنَّ سَنَن من كان قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه!! قالوا: أأليهود والنصارى؟؟ قال: فمن؟؟).. إن هذه الحقيقة يجب أن تُقرر، وأن تكون واضحة، قبل كل شئ.. فإنّا، إن لم نستيقنها، فلا يمكن أن تكون هناك نهضة لتغيير الحال.. فإن الراضي عن نفسه لا يرى ضرورة للتغيير.. فإذا تقرَّر هذا، وتوكّد في الأذهان، فإن أول عملنا هو بعث (لا إله إلا الله) فينا.. ولا يكون بعثها إلا بعودة الروح إلى الصلاة، وإلى جميع أعمالنا، أعمال العبادة، وأعمال العادة.. وإنما تعود الروح في أعمالنا بأن يدخل الفكر فيها، وتخرج منها العادة، التي هي آفتنا اليوم.. فإنه، كما قيل، آفة كل عبادة أن تكون عادة.. وعلى التحقيق فإنه يمكن القول، بأن السنة إنما هي إعمال الفكر فيما نأتي وما ندع.. فالفكر روح السنة.. وهو غرض الدين، في المكان الأول.. قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون).. فالعلة وراء إنزال القرآن، وإرسال الرسول، وتشريع التشريع، وفرض التكليف، إنما هو الفكر.. (ولعلهم يتفكرون..).. وأول الفكر أن نعرف ما تؤديه إلينا الصلاة الشرعية من قيمة فكرية، وحياتية.. وهذا يقتضي أن نعلم جيدا أن الصلاة إنما هي وسيلة، وليست غاية.. هذا الأمر غير واضح في أذهان الناس، مع إنه مقرر بصريح النص، قال تعالى: (وأقم الصلاة لذكري..).. وقال تعالى أيضا: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة..).. وكون هذه الصلاة موصوفة بكلمة (المعراج) في حديث المعصوم: (الصلاة معراج العبد إلى ربه)، وحده يكفي في الدلالة على حقيقتها.. والمعراج السلم الذي على درجاته نرقى إلى المقامات.. وأول درجاته في مرتبة الشريعة الجماعية ـ شريعة الأُمّة المؤمنة ـ وأعلى درجاته في مرتبة الشريعة الفردية ـ شريعة الأُمّة المسلمة.. فنحن السالكون علينا أن نرتقي بكل صلاة نؤديها، بكل ركعة نعقدها ـ إن لم نقل بكل حركة، من كل ركعة ـ علينا أن نرتقي نحو مرتبة الشريعة الفردية، لأن تكليفنا إنما هو (العبودية) بوسيلة (العبادة) قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس، إلا ليعبدون..).. يعني ليكونوا لي (عبيدا) بوسيلة العبادة.. وأعلى (العبادة) الصلاة.. و(العبودية) إنما هي مرتبة فرديات.. وهي لا تتم إلا إذا سقطت الوسائط بين الرب والعبد.. وهي لم تتم لمحمد إلا بعد أن تخلف عنه جبريل، وسقطت من بينه وبين ربه، بهذا التخلف، الواسطة.. وتم في تلك اللحظة اللقاء بين الرب، والعبد.. والقرآن مستفيض بالدعوة إلى الشريعة الفردية قال تعالى: (إن كلٌ من في السموات، والأرض، إلا آتي الرحمن عبدا* لقد أحصاهم وعدّهم عدّا* وكلهم آتيه يوم القيامة فردا..).. وقال تعالى: (لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة..) وقال تعالى: (ونرثه ما يقول، ويأتينا فرداً).. وفي قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك، كدحاً، فملاقيه..).. إشارة صريحة إلى الفردية، لأن لقاء الله لا يكون في المكان، ولا في الزمان، وإنما يكون فينا.. وذلك بتقريب صفاتنا من صفاته.. وقد يظن ظانٌّ أن هذه الفرديات لا تتم إلا يوم القيامة.. وإنما يجيء هذا الظن من ضعف في تجويد التوحيد لدى من يظن هذا الظن، فإنّ كل ما هو كائنُ يوم القيامة هو كائنُ اليوم.. هذا شئ لا ريب فيه.. فإذا أراد أحدنا أن يبعث (لا إله إلا الله) فيه من جديد فإن عليه أن يقلِّد المعصوم، في أسلوب عبادته وفي ما يطيق من أسلوب عادته، وأن يتقن هذا التقليد إتقانا يخرج من اعتباره أي بدعة، مما سمي مؤخرا (بالبدع الحسنة).. فإن السنة لم تغادر صغيرة، ولا كبيرة نحتاجها في أمور عبادتنا، إلا أوسعتها تبيينا.. فإذا أتقنا تقليد المعصوم نعلم، بضرورة هذا الإتقان، أن التقليد ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة إلى الأصالة.. وعند الأصالة تزول واسطة النبي من بيننا وبين ربنا، وذلك لكمال تبليغه، ويرفع بزوالها عنا، الحجاب الأعظم، ونأخذ من الله بلا واسطة، ويكون الله هو مُعلِّمُنا العلم اللدُنَّي.. والقاعدة في ذلك من كتاب الله (واتقوا الله ويعلمكم الله..) ومن حديث المعصوم قوله: (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم..) وقوله أيضا: (إنما أنا قاسم والله يعطي، ومن يرد به الله خيرا يفقهه في الدين.. ولا تزال هذه الأُمّة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم حتى يجيء أمر الله..) قوله: (إنما أنا قاسم).. يعني أنا مرسل (بالشريعة).. قوله: (والله يعطي).. يعني يعلِّم (الحقيقة).. هذا نفسه هو معنى الحديث السابق، ومعنى الآية الكريمة.. (واتقوا الله).. يعني اعملوا بالشريعة.. (ويعلمكم الله).. يعني العلم اللدُنَّي..

يجب إتباع النبي في أعماله وفي أحواله:


وقد أمرنا الله باتباع نبيه، إن أردنا الفلاح: (قل إن كنتم تحبون الله، فاتَّبِعُوني يحببكم الله..) وإنما يجب اتِّباعه في أعماله وفي أحواله، لا في مجرد أعماله.. فنحن يجب أن نقلده في صلاته ليصبح لنا حظ من حاله.. فهو يعرج بصلاة معراجه، إلى صلاة صلته.. فحاله الفردية دائما.. ونحن حين نتقن تقليده في هذا المستوى، تتم لنا الجمعية، بعد التشتت، وتتم لنا السلامة الداخلية، بعد الانقسام.. فنكون بذلك قد جوَّدنا التقليد، حتى أدّى بنا إلى الأصالة.. وعند الأصالة يسقط عنا التقليد، ولا تسقط عنا الصلاة، لأن الصلاة الحاجة إليها قائمة قياما سرمديا، ولكنها تلطف وتَدِقُّ كل حين.. فإذا كان السير إلى الله في هذه الدار، وفي البرزخ وفي الدار الآخرة، لأهل النار، في النار، ولأهل الجنة، في الجنة، هو بالكلمة (لا إله إلا الله)، فإن الصلاة دائما طرف منها، بها تنمو، وتتسامى.. والقاعدة في ذلك: (إليه يصعد الكلم الطيب).. يعني (لا إله إلا الله).. (والعمل الصالح يرفعه).. يعني الصلاة، فإنها في قمة الأعمال، حين كانت (لا إله إلا الله) في قمة الأقوال.. إننا نحن ندعو الأفراد إلى تحقيق فردياتهم، بمنهاج الإسلام، ذلك المنهاج الذي يحقق لهم التسامي من مرتبة الشريعة الجماعية إلى مراتب الشرائع الفردية، كما يحقق لهم الارتفاع من مرحلة التقليد إلى مرتبة الأصالة.. فإن الأفراد، والأصلاء، هم وحدهم الرجال.. هذه دعوتنا في قمتها.. ونحن لنحقق هذه القمة، ندعو إلى إعداد المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد المرشحون لهذه المقامات إعدادا يعطي كل الفرص لبروز فرديات هؤلاء الأفراد.. وذلك المجتمع بالضرورة، يجب أن يكون مجتمعا حرا، يوفر الحرية الاقتصادية (بالاشتراكية)، ويوفر الحرية السياسية (بالديمقراطية).. وليست الاشتراكية، ولا الديمقراطية، في شريعة الرسالة الأولى.. هما ليستا في قرآن الفروع، وإنما هما أصل قرآن الأصول.. ومن ههنا جاءت دعوتنا إلى تطوير التشريع، من آيات الفروع إلى آيات الأصول، لتنبعث الآيات التي كانت في الرسالة الأولى منسوخة، لتصبح هي صاحبة الوقت اليوم.. وتُنْسخ، بدلا عنها، الآيات التي كانت صاحبة الوقت في القرن السابع.. ولقد قررنا في سياق كتابنا هذا إليك، أن آيات الأصول كانت ملزمة للنبي وحده، منسوخة في حق الأُمّة.. وذلك لمكان قصورها عن شأوها.. وقررنا أن هذه الآيات هي عمدة السنة النبوية، ونحن دعاة إلى بعث السنة..

لم ألق ميزان الشرع من يدي:


فأنت ترى إذن أنني لم أُلقِ ميزان الشرع من يدي، وإنما فهمت الشريعة في مستواها الجماعي، وفي مستواها الفردي.. فأنا صاحب شريعة فردية، اقتداء بالنبي، وتأسيا بحاله، وأنت ترى أيضا أني لا أتبع كشفا يخالف ظاهر النص، وإنما فهمت النصوص على مستويين على نحو ما أوردت لك في هذا الكتاب..
أما بعد، فإن هذا القول غريب، ولم يقل به أحد من الأُمّة، من لدن نزول القرآن، وإلى اليوم.. ولكنه صحيح.. وهو حق.. بل ليس غيره حق اليوم.. وغرابته توجب على العلماء التزامه، على أيسر تقدير إلى أن يبين لهم حقه من باطله، لأن الغرابة أصل في عودة الدين بمقتضى حديث المعصوم، الذي كثيرا ما أشرنا إليه في كتابنا هذا: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، كما بدأ، فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء، يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها.. أو قال في رواية أخرى عن الغرباء: هم فئة قليلة مهتدية، في فئة كبيرة ضالة)..
ثم أما بعد، فإن هذا الكتاب قد طال، ولا يزال في النفس شئ يتوق إلى أن يقال، ولكن لا بد من قبض عنان القلم خوف الإملال.. وأنت مدعو أيها الصديق العزيز، إلى مراجعة كتبنا، وبصورة خاصة (الرسالة الثانية من الإسلام) فإنك لا بد واجد فيها القول الثابت، الذي به تطمئن القلوب، وتَقرُّ الأعين..

وفي الختام لك مني جزيل السلام.
أخوك المخلص
محمود محمد طه