النبي ليس غائبا اليوم
ثم نعود مع الأستاذ محمود محمد طه إلى كتاب "طريق محمد" حيث يحدثنا قائلا: (إن محمدا ليس غايبا اليوم، وإنما نحن غافلون عنه لجهلنا به، ولذلك، فقد دعونا مشايخ الطرق المعاصرين أن يكونوا مرشدين لأتباعهم إلى سيرة النبي، في عبادته، وفي عادته، بأفعالهم، وبأقوالهم فقلنا ((إن على مشايخ الطرق، منذ اليوم أن يخرجوا أنفسهم من بين الناس ومحمد)) وأردنا بذلك إلى دعوتهم أن يحيلوا أتباعهم على النبي، فيكون شيخ الجميع، ومرشد الجميع، وأن تنشأ بينهم، من علائق المحبة المتبادلة، والاحترام المتبادل، ما يكون بين زملاء الطريق، ورفقاء السفر إلى الحج الأكبر.
إن هذه الدعوة، إلى العودة إلى محمد، التي نقدمها تحقق، في أول الأمر، وحدة الأمة، وتحررها من الطائفية، التي هي آفة الآفات، وذلك بجمعها على تقليد رجل واحد، هو مثلنا الأعلى.. ثم إنها، في آخر الأمر، تجعل ((لا إله إلا الله)) ثورة فعالة، في صدور الرجال والنساء، كما كانت في العهد الأول، حين نادى بها محمد في المجتمع المكي.. ويومئذ تتوحد الأمة باجتماعها على الله عن معرفة ويقين.
إننا قد استيقنا من أنه بتقليد محمد تتوحد الأمة ويتجدد دينها، ولذلك فإنا قد جعلنا وكدنا تعميق هذه الدعوة، ونقدم فيما يلي نموذجا يعين كل من يريد أن يتخذ إلى الله سبيلا)..
ثم يمضي كتاب "طريق محمد" يقدم النماذج الحية في الصلاة – صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكيفية حركات صلاته – وعن صومه وشمائله على نحو يأخذ بألباب القلوب.. وها نحن نقترح على القارئ أن يرافقنا على ثلاث أو أربع صفحات من الكتاب ليقف بنفسه على ما يوجهه الأستاذ محمود محمد طه للسالكين على طريق محمد حيث يقول تحت عنوان صلاة محمد: -
(وقد كانت عبادة النبي الصلاة بالقرآن، في المكتوبة، وفي الثلث الأخير من الليل، وكان يصلي مع المكتوبة عشر ركعات.. ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر، كما كان يدمن صلاة أربع ركعات عند زوال الشمس، وكان أحب شيء إليه أن يصلي في بيته، إلا المكتوبة وقال لا تجعلوا بيوتكم قبورا.
وكان ينام على ذكر وفكر، ويصحو كذلك.. ما هب من نوم إلا انشغل بالاستغفار والقراءة.. وكان أول ما يبدأ به السواك، وكان يصلي صلاة القيام في الثلث الأخير من الليل، فقد روي أن النبي استيقظ في منتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، فجعل يمسح النوم عن وجهه، وقرأ العشر الآيات الخواتم، من آل عمران ((إن في خلق السموات والأرض.. الآيات)) ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام يصلي.. فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين.. ست مرات، ثم أوتر، ثم اضطجع، حتى جاءه المؤذن، فقام، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح.. هذه كيفية من كيفيات تهجده.. وفي كيفية أخرى، كان يصلى ركعتين خفيفتين، ثم ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم ركعتين أقل، فأقل، حتى تمت صلاته اثنتي عشرة ركعة، أوتر بواحدة.. وروت عائشة من صور تهجده أنه كان يصلي أربعا لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى ثلاثا.. كما روي عنه أنه لما دخل في صلاة التهجد قال: الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم قرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه، فكان قيامه نحوا من ركوعه، وكان يقول: لربي الحمد، لربي الحمد، ثم سجد، فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، ثم رفع رأسه، فكان ما بين السجدتين نحوا من السجود، وكان يقول: ربي اغفر لي، ربي اغفر لي.. حتى قرأ في تهجده في تلك الليلة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام.. ومما كان يدعو به في التهجد ((اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق.. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. ثم يأخذ في القراءة.. وكان يدعو في السجود بأدعية مأثورة.. ومما روي عن مقدار سجوده أنه كان مقدار خمسين آية..) ثم يذهب كتاب طريق محمد يتحدث عن كيفيات صلاته صلى الله عليه وسلم حتى يقول (إن هذا يعين المقلد، ويتيح له سياسة نفسه، ويصونه من العادة بهذا التنويع، فإن صلى ببعض هذه الكيفيات أجزته، وإن صلى بكل الكيفيات، في أوقات متفرقة فذلك أتم وأحسن، وبذلك يدرج نفسه حسب طاقتها، ويستعين على الصلاة بالاختيار في القيد، ويحارب العادة بالتنويع.) ثم يذهب الأستاذ محمود محمد طه يحدثنا في كتابه "طريق محمد" عن حركات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيقول (أما كيفيات حركات صلاته فمما روي فيها أنه إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه، وفي الركوع يمكن يديه من ركبتيه ثم يهصر ظهره فإذا رفع استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، وإذا جلس في الركعتين، جلس على رجله اليسرى، ونصب رجله اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة، قدّم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته، وإذا كان في وتر من صلاته [ يعني بعد الركعة الأولى من صلاته أو بعد الركعة الثالثة من صلاته الرباعية ] لم ينهض حتى يستوي قاعدا، وكان يقبض في صلاته، ثم سدل.
وكذلك وضوء النبي، لم يكن صورة مكررة، وإنما كان يتوضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، وكان أول أمره يجدد الوضوء لكل فريضة)..
وتحت عنوان صيام محمد يذهب الأستاذ محمود محمد طه ليحدثنا في كتابه "طريق محمد" فيقول: (وكان النبي يستعين على تجويد الصلاة بالصوم، كما كان يستعين على تصحيح حاله في الرضا بالصلاة، كما أمر تعالى ((واستعينوا بالصبر والصلاة)). وذلك لأن الصوم يصفي الخواطر، ويقلل النوم، ويزيد شفافية النفس لتستقبل أنوار الروح أثناء الصلاة، كما أنه يقوي أنوار الروح، فقد قال المعصوم ((الصوم ضياء والصلاة نور)) ولم يكن صومه عادة، وعلى صورة واحدة وإنما كان ينوعه أيضا، فقد كان يتحرى الاثنين والخميس، كما كان أكثر صيامه السبت والأحد، وكان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس، وكان لا يدع صوم الأيام البيض في سفر ولا حضر، وروي أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، لا يبالي من أيه صام.. من أوله أو أوسطه، أو آخره.. وفي غير الصوم، كان يقلل من الأكل، وقال ((نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع)).
هذه هي عبادات النبي، أما ما قاله لغيره من عبادات أو أدعية، فهي شريعة وليست سنة النبي التي هي سمته الذي لزمه في عاداته وفي عباداته، من لدن بعث وإلى أن لحق بربه.. وقد أمرنا باتباعه فيها فقال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، وصلاته كانت هيئة وحضورا، فمن أخذ الهيئة ولم يراقب الحضور فما رأى النبي، كما أنه لم يصل فقد ورد ((رب مصل لم يقم الصلاة)) وكان النبي يفرغ قلبه للصلاة من أي شاغل، حتى أنه نزع قبال نعله الجديد لذلك، كما نزع قميصه، وكانت صلاته مرقاة ومعراجا يفزع إليها كلما حزبه أمر، يرتاح بها، وفيها قرة عينه.. وآية إقامة الصلاة أن تنعكس في سيرة المصلي وفي سريرته فتؤثر على جميع معاملاته للناس، وعلى أخلاقه)..
وتحت عنوان شمائل محمد يمضي الأستاذ محمود محمد طه فيحدثنا في كتاب "طريق محمد" فيقول: (لقد قال النبي ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) وقال ((الدين المعاملة)).
وقد كانت حياة النبي كلها خيرا وحضورا وفكرا، في كل ما يأتي وما يدع، وكما كانت عبادته فكرا وتجديدا، لا عادة فيها، كذلك كانت عاداته بالفكر عبادة ووزنا بالقسط.. فقد كان يقدم الميامن على المياسر ويحب التيامن، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما.. وكان في جميع مضطربه على ذكر وفكر، فهو لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر، وكذلك كان نومه وأكله ولبسه، حتى كانت حركاته تجسيدا لمعاني القرآن، وكان من ثمرات صلاته وفكره وذكره في جميع حالاته، حلاوة شمائله التي حببته إلى النفوس، ووضعته مكان القدوة، إذ كان رؤوفا رحيما بكل المؤمنين، يواسيهم ويترفق بهم، وكان سموحا لا يغضب قط لنفسه، وكان دائم البِشْر سهل الخلق.. أرأف الناس بالناس، وأنفع الناس للناس، وخير الناس للناس، فكان يتلطف بخواطر أصحابه، ويتفقد من انقطع منهم عن المجلس، وكان كثيرا ما يقول لأحدهم ((يا أخي وجدت مني أو من إخواننا شيئا؟؟)) وكان يباسط أصحابه، حتى يظن كل منهم أنه أعز عليه من جميع أصحابه، وكان يعطي من يجلس إليه نصيبه من البشاشة، حتى يظن أنه أكرم الناس عليه وكان لا يواجه أحدا بما يكره، ولا يجفو على أحد مهما فعل، ويقبل عذر المعتذر مهما كان فعله. وقال أنس خادمه ((خدمت رسول الله عشر سنوات، فما قال لي لشيء فعلته، لمَ فعلته؟ ولا لشيء تركته، لمَ تركته؟)) ((وكان بعض أهله إذا لامني، يقول: دعوه فلو قضي شيء لكان)).
وكان يقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، ولم يكن يتميز على أصحابه أو يستخدمهم، ولا حتى يدعهم ينفردون بالخدمة بحضرته، وقد كان يعمل معهم في بناء المسجد، وفي حفر الخندق، ومشى على قدميه إلى بدر، حين كان يناوب بعض أصحابه على راحلته، وشارك أصحابه في إعداد الطعام بجمع الحطب، وحين قالوا له ((نكفيكه)) قال ((علمت أنكم تكفونيه، ولكني كرهت أن أتميز عليكم)) وحاول أحد أصحابه أن يحمل عنه متاعا كان يحمله من السوق لأهل بيته فأبى، وقال ((الرجل أولى بخدمة نفسه)) وكان يقول ((إن الله يكره من عبده أن يتميز على أصحابه)) وفي مرة قام بين يديه رجل، في بعض حاجته، فأخذته هيبته، فلجلج، فقال له ((هون عليك، فإني لست ملكا، وإنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد.)) فسكنت نفس الرجل، وأفصح عن حاجته، فقال المعصوم، ((أيها الناس، إني أوحي إليّ أن تواضعوا.. ألا فتواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد وكونوا عباد الله إخوانا))
هكذا كان يسير بين أصحابه، ويشعرهم بقيمتهم وبكرامتهم ويربيهم تربية الأحرار.. وقد آن للمسلمين أن يكرموا أنفسهم ويحترموا عقولهم ويتحرروا من رق الطائفية ومن الوسائل القواصر بالرجوع إلى الوسيلة الواسلة.. الرؤوف الرحيم.. فيلزموا سيرته وعبادته التي هي الصلاة بالقرآن، في المكتوبة وفي الثلث الأخير من الليل، وهي أمثل طريقة تغني عما يسمى بالبدع الحسنة، وعن المبالغات في مقادير العبادة، وعن استعمال السبح، وعن كل ما لم يفعله النبي.. فإن المسلمين، إن اتبعوا النبي على هذا النحو الواضح، تحررت ملايين الرؤوس المعطلة، والأيدي المستغلة، والنفوس المستعبدة، وعادت ((لا إله إلا الله)) جديدة طرية، فعالة في صدور الرجال والنساء، تبعث العزة والكرامة والحرية)..
ثم يذهب الأستاذ محمود محمد طه ليقول في ختام كتابه "طريق محمد" ما نصه: (ثم أما بعد، فإن هذه دعوة إلى الله، داعيها محمد، وهاديها محمد.. وهي دعوة وجبت الاستجابة لها أمس وتجب الاستجابة لها اليوم، كما وجبت أمس، وبقدر أكبر، إذ الحجة بها اليوم ألزم منها بالأمس. ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)) وإلا فلا.
يا أهل القرآن، لستم على شيء، حتى تقيموا القرآن. وإقامة القرآن كإقامة الصلاة، علم، وعمل بمقتضى العلم. وأول الأمر في الاقامتين، اتباع بإحسان، وبتجويد لعمل المعصوم.. أقام الله القرآن، وأقام الصلاة، وهدى إلى ذلك البصائر والأبصار، إنه سميع مجيب.)
وبعد،
فهذه هي دعوة الأستاذ محمود محمد طه، وها هو ذا رأيها في النبي المعصوم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. والآن!! فما رأى الشيخين بعد أن أطلعا على هذا الذي جرى في هذا الفصل من الكتاب؟؟ وهل أحدث فيهما موقفا جديدا، أم ما يزالان عند موقفهما ذاك؟؟ وسنرى!!