مولده ونشأته
ولد الأستاذ محمود محمد طه في مدينة رفاعة بوسط السودان حوالي عام 1909م لأب من منطقة مورة بشمال السودان، وأم من رفاعة بوسط السودان، ويعود نسبه إلى قبيلة الركابية، فرع البليلاب نسبة إلى الشيخ المتصوف حسن ود بليل وهو من كبار متصوفة السودان.
توفيت والدته – فاطمة بنت محمود - وهو لمّا يزل في بواكير طفولته وذلك في حوالي عام 1915م ، فعاش الأستاذ محمود وإخوته الثلاثة: بتول وكلتوم ومختار، تحت رعاية والدهم، وعملوا معه بالزراعة، في قرية الهجيليج بالقرب من رفاعة، غير أن والده لم يلبث أن التحق بوالدته في حوالي العام 1920م، فانتقل الأستاذ محمود وإخوته للعيش بمنزل عمتهم برفاعة.
الخلوة
بدأ الأستاذ محمود تعليمه في الخلوة، كما كان يفعل سائر أترابه في ذلك الزمان، حيث يحفّظون جزءاً من القرآن الكريم، ويتعلمون شيئاً من قواعد اللغة العربية، غير أن عمّة الأستاذ محمود كانت حريصة على إلحاقه وإخوته بالمدارس النظامية، فتلقى تعليمه الأوّلي والمتوسط بمدينة رفاعة، وأظهر منذ سنيّى طفولته الباكرة، كثيراًً من ملامح الاختلاف والتميز عن أقرانه، من حيث التعلق بمكارم الأخلاق والقيم الرفيعة، مما لفت إليه أنظار الكثيرين ممن عاشوا حوله.
كلية غردون ودراسة الهندسة
انتقل الأستاذ محمود في عام 1932م، بعد إتمامه دراسته الوسطى بمدينة رفاعة، إلى الخرطوم، عاصمة السودان، الذي كان تحت سيطرة الاستعمار البريطاني، ليتسنّى له الالتحاق بكلية غُردون التذكارية، وكانت تقبل الصفوة من الطلاب السودانيين ممن أتمّوا تعليمهم المتوسط، فدرس هندسة المساحة، وكان تأثيره قوياً على محيطه من زملائه الطلبة في الكلية، وقد عبر عن ذلك التأثير أحد كبار الأدباء السودانيين بقوله:
((كان الأستاذ محمود كثير التأمل لدرجة تجعلك تثق في كل كلمة يقولها!
))
السكك الحديدية والنضال السياسى
تخرج الأستاذ محمود في عام 1936م وعمل مهندسًا بمصلحة السكك الحديدية، وكانت رئاستها بمدينة عطبرة، عند ملتقى نهر النيل ونهر عطبرة. أظهر الأستاذ محمود انحيازاً إلى الطبقة الكادحة من العمال وصغار الموظفين، كما أثرى الحركة الثقافية والسياسية بالمدينة من خلال نشاطه في نادي الخريجين، فضاقت السلطات الاستعمارية ذرعاً بنشاطه، فنقل إلى مدينة كسلا في شرق السودان في العام 1937م، غير أن الأستاذ محمود تقدم باستقالته من العمل في عام 1941م، واختار أن يعمل في القطاع الحر كمهندس ومقاول.
كان الأستاذ محمود في تلك الفترة المحتشدة من تاريخ السودان، علماً بارزاً في النضال السياسي والثقافي ضد الاستعمار، من خلال كتاباته في الصحف، ومن خلال جهره بالرأي، غير أنّه كان مناضلاً من طراز مختلف، عما عرف عن السياسيين، حيث كان يمتاز بشجاعة لافتة، لا تقيدها حسابات السياسة وتقلباتها، وقد أدرك الإنجليز منذ وقت مبكر ما يمثله هذا النموذج الجديد من خطورة على سلطتهم الاستعمارية، فظلت عيونهم مفتوحة لمراقبة نشاطه.
زواجه وأبناؤه
تزوج من السيدة آمنة لطفي عبد الله، وهى من أسرة تنتمى لفرع الركابية الصادقاب. وقد كان زواجهما في أوائل الأربعينيات من القرن الماضى. كان أول أبنائه، محمد، قد نشأ في كنف أبويه متفردا بين أترابه، غير أنه لم يكد يخطو نحو سني الصبا حتى غرق في النيل الأزرق عند مدينة رفاعة في حوالى عام 1954م، ولمّا يتجاوز العاشرة من عمره، وقد صبرت والدته السيدة آمنة على فقده صبراً عظيماً. وكان الأستاذ محمود وقتها خارج رفاعة، فعاد إليها عندما بلغه الخبر، وتلقى العزاء في ابنه، قائلاً لمن حوله: لقد ذهب ابني لكنف أبٍ أرحم مني! له من الأبناء بعد ابنه (محمد) (أسماء) و(سمية).
نشأة الحزب الجمهورى
في يوم الجمعة 26 أكتوبر 1945م أنشأ الأستاذ محمود وثلة من رفاقه هم: أمين مصطفى التني، وعبد القادر المرضي، ومنصور عبد الحميد، ومحمود المغربي، وإسماعيل محمد بخيت حبّة، حزباً سياسياً أسموه (الحزب الجمهوري)، حيث اقترح التسمية أمين مصطفى التّنى، في إشارة إلى مطالبتهم بقيام جمهورية سودانية مستقلة عن دولتي الحكم الثنائي، واختير الأستاذ محمود رئيساً للحزب، وعبد القادر المرضى سكرتيراً له، وتفرد الحزب الجمهوري عن بقية الأحزاب في المطالبة بالحكم الجمهورى، وفي المطالبة بالاستقلال التام، في الوقت الذي كانت فيه الحركة الوطنية السودانية، ممثلة في الحزبين الكبيرين، تنادي بالاتحاد مع مصر أو الاستقلال تحت التاج البريطاني. وأشار الجمهوريون الي ذلك في بيان لهم صدر في 18 فبراير عام 1946م بقولهم: "... أنتم تريدون إبقاء المصريين، وأنتم تريدون إبقاء الإنجليز، فإذا اجتمعت كلمتكم فإنما تجتمع على إبقاء المصريين والإنجليز معا..." .. وقد عبّر هذا الموقف التاريخي عن مصير السودان، أصدق تعبير، برؤية ثاقبة، وبصيرة نافذة صارت سمة الحركة الجمهورية التي أنشأها ورعاها الأستاذ محمود محمد طه. انتسب إلى الحزب الجمهوري في تلك الفترة من الأربعينيات كل من: أمين محمد صديق، محمد فضل الصديق، ذو النون جبارة، عوض لطفي، مهدي أبوبكر، أحمد المبارك عيسى، محمد المهدي مجذوب، منير صالح، مكاوي المرضي، سعد صالح عبد القادر، عثمان عتباني، أحمد يوسف قِوَيْ، يحيى صالح عبد القادر، ومحمد صالح التوم.
أول سجين سياسى فى الحركة الوطنية!
نشأ الحزب الجمهورى أول ما نشأ على المصادمة المباشرة للاستعمار، دون أن تقعده الرهبة، أو يصرفه اليأس، فحفظ التاريخ للأستاذ محمود صوراً ناصعة من الإخلاص المتجرد من الخوف والطمع، في مواجهات مكشوفة مع الاستعمار، ومع الطائفية السياسية التي كانت تحرك الشعب لمصلحة قادتها. ورغم أن الحزب الوليد اتخذ من الإسلام مذهبيةً له، غير أنه لم يكن يملك، في تلك الفترة، من تفاصيل المذهبية ما يمكن أن يقدمه للشعب، فانصرف أفراده إلى ملء فراغ الحماس، متخذين من سياسة الاستعمار تجاه الجنوب، وقضايا مزارعي مشروع الجزيرة مواضيع للنضال وتحريك الشعب، فضرب رجال الحزب الجمهوري الأمثال في شجاعة المواجهة، حيث كان الحزب يطبع المنشورات المناهضة للاستعمار، ويحرص أفراده على توقيع أسمائهم عليها، وتوزيعها، في عمل فريد من أعمال المواجهة العلنية، إضافة إلى قيامهم بالخطابة في الأماكن العامة، حتى استشعرت السلطات الاستعمارية الخطر، فاعتقلت الأستاذ محمود في يونيو من عام 1946م وقدمته إلى المحاكمة، ووضعته أمام خيارين: السجن لمدة عام، أو إمضاء تعهد بعدم ممارسة العمل السياسي، فاختار السجن دون تردد. وكان بذلك أول سجين سياسي في تاريخ الحركة الوطنية السودانية. واصل الاستاذ محمود مقاومته للمستعمر بعدم تنفيذ أوامر السجن، في حين واصل رفاقه في الحزب مقاومتهم خارج السجن، فأضطُرت سلطات الاستعمار إلى إطلاق سراحه بعد خمسين يوماً. وقد أدى نبأ إطلاق سراحه، مثلما أدي نبأ سجنه، إلى تجاوب واسع من قطاعات الشعب، أظهرته برقيات التأييد التي انهمرت على الحزب من كافة محافظات السودان.
ثورة رفاعة
بعد إطلاق سراح الأستاذ محمود واصل الحزب الجمهورى نضاله ضد الإنجليز، حتى حانت في سبتمبر 1946م فرصة أخرى لتصعيد المقاومة، عندما سجنت السلطة الاستعمارية، على خلفية قانون منع الخفاض الفرعونى الذي كان قد صدر في ديسمبر من عام 1945م، امرأة سودانية، في مدينة رفاعة، خفضت ابنتها خفاضا فرعونيا. فنهض الأستاذ محمود إلى التصدي لحادثة الاعتقال باعتبار أن العادات لا تحارب بالقوانين، من ناحية، وباعتبار أن الاستعمار إنما يرمي إلى إظهار السودانيين كشعب بدائي غير متحضر مستحق للوصاية من ناحية أخرى. خطب الأستاذ محمود خطبة قوية في مسجد رفاعة مستنهضاً الشعب للدفاع عن المرأة التي نزعت من بيتها وأودعت ظلمات السجن. فتوحدت المدينة خلفه في ثورةٍ عارمة تصاعدت إلى اقتحام السجن، وإطلاق سراح المرأة، رغم المواجهة العنيفة التي وصلت إلى حد إطلاق النار على الشعب من قبل السلطات. وقد تجلت في ثورة رفاعة جسارة الأستاذ محمود في مواجهة المستعمر والتزامه جانب المستضعفين من شعبه، مما خلب ألباب الأحرار، فعبّر أحد شعراء السودان عن ذلك في مقدمة قصيدة له في تمجيد ثورة رفاعة بقوله :
((من المنبر في مسجد رفاعة انبعثت الصيحة ، وخرج المسلمون - كالمسلمين الأوائل - في لحظة إلهية يندفعون إلى الكافر، ولقيهم هذا خلف صف من العساكر، وانطلق الرصاص، وتقدم الرجال يمشون على خطى محمود !
))
تمخضت ثورة رفاعة عن سجن الأستاذ محمود لمدة سنتين، قضى بعضها في سجن مدني ثم أتم باقى المدة في سجن كوبر الشهير بمدينة الخرطوم بحرى.
السجن، والخلوة، والمذهبية الجديدة
في السجن الثانى بدأت تتضح للأستاذ محمود تفاصيل المذهبية الإسلامية التي وقف حياته للدعوة إليها، حيث أخذ نفسه بالعبادة ، وبخاصة الصيام الصمدى ، والصلاة ، فتهيأ لأداء المهمة التي أدرك أن الله إنما يعده لها. وبعد إتمامه مدة سجنه في العام 1948م خرج الأستاذ محمود إلى مدينة رفاعة حيث اعتكف مدة ثلاث سنوات في خلوة عن الناس، أتم ما كان قد بدأه في سجنه من تهيؤ لدعوته الإسلامية. كانت أيام خلوته واعتكافه عامرة بالإشراقات الروحية، والسمو النفسى، وقد بدا واضحاً أن الأستاذ محمود قد أقبل على موضوع كبير وخطير، وكان الحزب الجمهورى قد توقف نشاطه طوال فترة الاعتكاف.
الحزب الجمهورى يخرج من جديد
خرج الأستاذ محمود من اعتكافه في أكتوبر 1951م ودعا الحزب الجمهورى إلى اجتماع عام عقد في 30 اكتوبر 1951م . في هذا الاجتماع طرح الأستاذ محمود المذهبية الإسلامية الجديدة، التي تقوم على الحرية الفردية المطلقة، والعدالة الاجتماعية الشاملة، ليتجه الحزب الجمهورى من ملء فراغ الحماس إلى ملء فراغ الفكر.
الاسلام والدعوة للسلام
في عام 1952م صدر كتاب
((قل هذه سبيلى
))وصدر منشور بالإنجليزية هو
((Islam, The Way out
)) ، وبدأت بذلك حركة واسعة لتأليف الكتب التي تتولى شرح فكرة الدعوة الإسلامية الجديدة وتفصيل مذهبيتها.
دعا الأستاذ محمود إلى الإسلام كمذهبية تبشّر بتحقيق إنسانية الانسان، عن طريق تقديم المنهاج الذي يحقق السلام في كل نفس بشرية، وعلى مستوى الكوكب، حيث يُقدم الإسلام في مستواه العلمي كدعوة عالمية للسلام. وقد ظلت قضايا الفكر، والحرية، والاستقراء العلمي للحضارة الغربية ولواقع المسلمين قضايا مطروحة بإلحاح منذ أن تناولها الأستاذ محمود في المنشور الأول وحتى اليوم.
صدر كتاب
((أسس دستور السودان
)) في ديسمبر 1955م ليشرح أسس الدستور الذي دعا له الجمهوريون، ثم توالى إصدار الكتب فصدر كتاب
((الإسلام
)) في عام 1960م، ثم كتابا
((رسالة الصلاة
)) و
((طريق محمد
)) في عام 1966م. وتوجت حركة البعث الاسلامى هذه في يناير 1967م بكتاب
((الرسالة الثانية من الإسلام
)) والذى ُيعد الكتاب الأم للفكرة الجمهورية. ثم توالت بعد ذلك، الكتب التي تتولى تنزيل دقائق العلم بالدعوة إلى الإسلام في مستوى الرسالة الثانية، وذلك في كافة مناحي المعرفة، فصدر ما يفوق الثلاثين كتاباً، على مدى يمتد قرابة العشرين عاماً، هذا فضلا عن الكتيبات والمنشورات التي كانت تواكب مستجدات الأحداث برأي فكري وسياسي سمته الدقة، والإخلاص، وقد صدر في هذا الباب ما زاد على المئتي كتيب ومنشور.
الدعوة لطريق محمد وتطوير التشريع
دعا الاستاذ محمود الى تقليد النبى محمد صلى الله عليه وسلم كمنهاج للسلوك الدينى بهدف توحيد القوى المودعة فى الانسان ، من قلب وعقل وجسد ، والتى وزعها الخوف الموروث والمكتسب ، ثم الى تطوير التشريع الاسلامى بالانتقال من الآيات المدنية التى قامت عليها بعض صور الشريعة ، الى الآيات المكية التى نسخت فى ذلك الوقت لعدم تهيؤ المجتمع لها ، حيث الدعوة الى الديمقراطية والاشتركية والمساواة الاجتماعية ، المدخرة فى أصول الدين ، وقد بسط الاستاذ محمود فكرته فى آفاقها الدينية والسياسية والمعرفية بعلمٍ واسعٍ ، وحجةٍ ناصعةٍ ، وصبرٍ على سوء الفهم وسوء التخريج وسوء القصد الذى قوبلت به فكرته من معارضيها ، حتى ذهب يقينه بفكرته واخلاصه لها ، والتزامه ايّاها فى اجمال حياته وتفصيلها، مثلا فريداً فى الدعاة والدعوات.
المساواة الاجتماعية وحقوق النساء
كان موضوع المرأة من اهم المواضيع التى عالجها الاستاذ محمود فى فكرته ، حيث دعا الى تطوير التشريع فيما يختص بشريعة الأحوال الشخصية ، والى وضع المرأة من حيث التشريع فى موضعها الصحيح ، بعد أن تعلمت وتسنمت الوظائف الرفيعة ، متجاوزا بذلك القصور الفكرى الذى ظل ملازما للفكر الاسلامى السلفى تجاه وضع المرأة فى التشريع الدينى ، ومتجاوزا دعوات تحرير المرأة التى هدفت لمحاكاة الغرب، ومقدما فهما جديدا مستمداً من اصول الدين ، يقوم على مساواة الرجال والنساء أمام القانون وفى النظام الاجتماعى ، انطلاقا من فكرة تطوير التشريع الاسلامى ، واستلهاماً أكبر لغرض الدين فى الحياة الحرة الكريمة للنساء والرجال على قدم المساواة. وقد كان أكبر تجسيد لدعوة الاستاذ محمود الى تطوير وضع المرأة الدينى هو المرأة الجمهورية نفسها ، فقد دخلت تلميذات الاستاذ محمود من الجمهوريات التاريخ كأول طليعة من النساء تخرج للدعوة الى الدين بصورة جماعية ومنظمة ، فى ظاهرة فريدة ظللتها قوة الفكر وسداد السيرة وسمو الخلق.
الثورة الثقافية وحركة الحوار والنشر
أسس الاستاذ محمود بحركة التأليف ، والنشر ، ومنابر الحوار ، وأركان النقاش التى تقام فى الطرقات العامة والميادين والحدائق ودور العلم والأحياء ، ثورةً فكريةً لم ُيعرف لها ضريب فى تاريخ الأديان والافكار! حيث حمل هو وتلاميذه الفكرة الجمهورية الى كل صقع ناءٍ من أصقاع السودان يذهبون الى الشعب حيث يعيش ، يحدثونه عن الدين ، ويحاورونه وينقلون له النموذج الحى للاسلام المجسّد الذى يمشى على قدمين! وقد كانت حركة الحوار الفكرى هذه معالم بارزة فى حياة الشعب السودانى حيث كانت كثير من أركان النقاش فى الجامعات ، وفى الطرقات والأماكن العامة مدارس تعلم فيهل الشعب أدب الحوار ، وأدب الدعوة الى الدين. وقد كان أساليب الدعوة الفريدة حملات الدعوة الخاصة ، حيث كان الجمهوريون يذهبون الى لقاء المثقفين ورجال الدين والمفكرين فى مقابلات خاصة يتم فيها الحوار الفكرى وتعرض الدعوة الى الرسالة الثانية من الاسلام وتقدم لهم فيها نسخاً من كتب الفكرة الجمهورية .
كان شعار ثورة التغيير هذه هو الكلمة (لا اله الا الله) بعد أن رفعها الاستاذ محمود فى دعوته الجديدة الى مستوً من التحقيق جعلها منهاجا ً لتغيير النفوس. وقد قامت هذه الحركة الشاملة فى مداها ، و المنضبطة فى أدائها ، والفاعلة فى تأثيرها ، على موارد الجمهوريين الذاتية ، والتى يقتطعونها من دخولهم الشخصية ، وعلى العمل التطوعى الذى يكرّس له الاعضاء اجازاتهم وأوقات راحتهم ، وعلى ريع الكتب التى يوزعونها بعد أن يقوموا بطباعتها يدويا ً، فكانت بذلك ثورة شاملة فى معناها ومبناها ، وارهاصا كبيرا بالثورة الثقافية المنتظرة و التى تعيد صياغة الأفراد والجماعات .
المجتمع الجمهورى
حرص الاستاذ محمود على تربية تلاميذه على معيشة ما يدعون اليه من قيم الدين ، وكان نهج الفرد الجمهورى فى ذلك هو المعيشة فى (الهنا والآن) ، فى اللحظة الحاضرة ، مشتغلا بتجويد أداء الواجب المباشر جهد الطاقة ، ثم الرضا بالنتيجة أيا كانت ، اذ أنها من الله ، على قاعدة من المراقبة والمحاسبة للنفس ، تنقية وترقية لها نحو معالى المعرفة والسلوك. وقد كانت حركة الجمهوريين اليومية فى الدعوة الى فكرتهم تتم تحت أعين الاستاذ محمود ووفقا لارشاده المتصل ، فى حركة يومية لا تفتر من الجلسات الصباحية والمسائية التى تعقد لتدارس المعانى السلوكية و العرفانية ، ومن حلقات الانشاد العرفانى ، والذكر والقرآن ، ومن الندوات التى تعقد فى منازل الاخوان الجمهوريين ، فضلا عن حركتهم الخارجية.
المؤامرة!
لم تتوقف محاولات القوى الدينية التقليدية التى استشعرت الخطر من تنامى تأثير الحركة الجمهورية وسط الشعب السودانى عن الكيد لها بمختلف السبل ، وقد كان القاسم المشترك لكل مؤامرات قوى الهوس الدينى هو محاولة استغلال السلطة لتصفية الحركة الجمهورية واسكات صوتها ، فسعت لدى قادة انقلاب 1958م لايقاف نشاط الاستاذ محمود ، فكان أن استجابت السلطة بقرار ايقاف الاستاذ عن القاء المحاضرات فى الاندية ، غير أن الحركة استمرت فى شكل ندوات مصغرة تعقد فى المنازل ، ويؤمها جمهور كثير ، حتى الغت السلطة القرار لاحقا ، وعاد الاستاذ محمود الى المحاضرات العامة.
محكمة الرّدة !
بعد ثورة اكتوبر 1964 م وعودة القوى الطائفية الى السلطة ، تجددت محاولات قوى الهوس الدينى لضرب الحركة الجمهورية ، حيث دبرت مهزلة محكمة الردة فى نوفمبر 1968م ، والتى حكمت على الاستاذ محمود بالردة بعد محاكمة صورية سريعة استغرقت نصف الساعة ! ، ولم يمثل الاستاذ أمامها ، ولم يستأنف حكمها ، تأكيدا لعدم اعترافه بشرعية المحكمة المزعومة ، غير أنه استثمر المحاكمة كفرصة جديدة لمزيد من حملات التوعية عن خطر الهوس الدينى على حرية الشعب ، وعلى حياته أيضاً.
اصطلحوا مع اسرائيل
دعا الاستاذ محمود محمد طه ، وفى قمة فوران المد القومى العربى الذى قاده الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، الى الصلح مع اسرائيل على أساس الاعتراف المتبادل ، وحل قضية فلسطين عبر التفاوض ! ، مذكرا العرب بأن قضيتهم ليست اسرائيل ، وانما هى اقامتهم على قشور من الدين وقشور من حضارة الغرب ، مما جلب عليهم الخسران المبين. وقد كان هذا الرأى غريبا على كل العرب! اذ أنه قد انبنى على قراءة دقيقةٍ للتاريخ وبصيرةٍ ثاقبةٍ بالمستقبل ، جعلت صاحبه وكأنه آت للعرب من مستقبلهم الذى هم عن رؤيته قاصرون ، غير أن الأحداث قد أيدت رأيه ، وأبانت صدق بصيرته لكل من يرى!
حادثة الاعتداء على الاستاذ محمود
فى الثانى والعشرين من مايو 1969م وبمدينة الابيض بغرب السودان ، وبينما كان الاستاذ محمود يحاضر عن الصلاة فى أحد الاندية كدأبه فى حركته المتصلة وسط شعبه ، قام أحد المغرر بهم من المهوسين بالاعتداء عليه بضربه فى رأسه بعصاة كان يحملها ، وقد نقل الاستاذ محمود على اثر الضربة الى المستشفى لتلقى العلاج ، وكان فى هذا الاعتداء دلالة جديدة على النهج الذى اختارته قوى الظلام من أجل النيل من الاستاذ محمود وفكرته ، ويجدر بالذكر أن الاستاذ محمود قد عفا عن الشخص الذى قام بهذا الاعتداء عليه.
الدستور الاسلامى المزيف وقيام مايو
فى 25 مايو 1969م قامت حركة مايو المعروفة ، فى لحظة تاريخية دقيقة كانت الاحزاب الطائفية وقوى الهوس الدينى تتهيأ فيها لفرض دستور يسمى "الدستور الإسلامي" ، ويهدف لتمكين تلك الاحزاب من فرض حكم شمولى يتلفح برداء الاسلام ، ليصادر حرية الشعب ويهدد وحدته الوطنية ، فأعلن الجمهوريون تأييدهم لحركة مايو باعتبارها قد حالت بين الشعب وبين فتنة كبرى كانت لتودى باستقرار الوطن والشعب ، رغم ادراك الاستاذ محمود للطبيعة المرحلية لمايو ، ولقصورها عن شأو الحكم الصالح الذى ظل يدعو له طوال حياته. وقد ظل تأييده لمايو ملتزما بهذه المرجعية التى تاسست عند قيامها ، لم ينحرف منه الى الدخول فى أجهزة مايو ، او مشاركتها فى تقلباتها السياسية.
لم تتوقف محاولات الكيد للاستاذ محمود بقيام حركة مايو ، بل ظلت تجرى فى الخفاء ، ففى عام 1975م أصدر مجلس الأمن القومى لنظام مايو قرارا بمنع الاستاذ محمود من القاء المحاضرات العامة، وان ظل تلاميذه الجمهوريون يقدمون المحاضرات وأركان النقاش فى كل مكان دون توقف.
السجن مرة أخرى!
فى ديسمبر 1976م واثر اصدار الاخوان الجمهوريون لكتاب
((اسمهم الوهابية ، وليس اسمهم أنصار السنّة
)) والذى أثار غضب السلطات الدينية السعودية ، قامت سلطة مايو باعتقال الاستاذ محمود وعددٍ من قادة الأخوان الجمهوريين ، وقامت بايداعهم سجن كوبر ، وكانت تلك هى المرة الأولى التى يسجن فيها الاستاذ محمود فى عهد حكم وطنى بعد سجون الاستعمار.
المصالحة الوطنية وسقوط مايو!
بدأت سلطة مايو تتجه شيئاً فشيئاً الى أحضان القوى الدينية التقليدية .. وبعد دخولها فى المصالحة الوطنية فى العام 1977م اجتاحت القوى الطائفية وحركة الاخوان المسلمين عددًا من أجهزة الحكم المايوى ، وقد أيّد الاستاذ محمود المصالحة باعتبارها حقناً لدماء السودانيين بعد اقتتال ، رغما عن ادراكه للطبيعة الجديدة لمايو بعد دخول قوى الهوس الدينى ، فقد قال عقب المصالحة
((بالمصالحة الوطنية انتهت المرحلة الاولى من مايو ، وبدأت المرحلة الثانية والاخيرة
)).
حل مشكلة الجنوب فى حل مشكلة الشمال!
كانت مشكلة جنوب السودان من أهم القضايا التى اهتم بها الاستاذ محمود فى فكره السياسى ، اذ كانت مشكلة الجنوب احدى قضيتين أخرج من أجلهما الحزب الجمهورى منشوراته التى واجهت الانجليز فى عام 1946 م ، والتى على اثرها تم سجن الاستاذ سجنه الأوّل ، ثم كانت مشكلة الجنوب أيضا هى أحدى القضايا التى من أجلها أخرج الجمهوريون منشورهم الشهير
(هذا! أو الطوفان!) والذى واجه سلطة الهوس الدينى المايوى ، والذى تصاعد الى محاكمة الاستاذ محمود فى يناير من العام 1985م ، وقد ذهبت كلمة الاستاذ محمود الشهيرة (حل مشكلة الجنوب فى حل مشكلة الشمال) مثلا على استواء البصيرة السياسية على جادة الحكمة التى تزن الأمور بميزان التوحيد ، وذلك بالاشارة الصائبة الى أن مشكلة الجنوب انما هى بنت افتقار القوى السياسية السودانية الى المذهبية الفكرية الرشيدة ، وركونها الى الفساد السياسى والمكايدة الحزبية ، وهى عين مشكلة الشمال ، ولم ينفك الجنوب عن التأرجح تحت عجلة الاتفاقات التى لا تعقد الا لتنقض بيد القصور السياسى والتخبط الحزبى ، فى تأكيد متصل على مقولة الاستاذ محمود سالفة الذكر.
الهوس الدينى يثير الفتنة ليصل الى السلطة!
فى مايو 1983م أصدر الأخوان الجمهوريون كتاب
((الهوس الدينى يثير الفتنة ليصل الى السلطة
)) والذى واجه النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس جهاز الأمن عمر محمد الطيب بنقد قوى لقيامه بالسماح لجماعات مهووسة ، ودعاة مشبوهين من خارج القطر ، باستغلال مسجد يتبع له ، وباستغلال أجهزة الاعلام ، فى القيام بحملة رأى الجمهوريون أنها تفتح الباب أمام فتنة دينية لا تبقى ولا تذر ، فقامت السلطة باعتقال الأستاذ محمود، وعددٍ من الجمهوريين من غير أن توجه لهم تهمة، وظلوا فى المعتقل حتى صدرت قوانين سبتمبر 1983م ، والتى نسبت زورا الى الشريعة الاسلامية ، فعارضها الاستاذ محمود وتلاميذه من داخل المعتقل ، ومن خارجه ، ثم تصاعدت وتيرة الأحداث الى اعلان حالة الطوارئ واقامة المحاكم الايجازية العشوائية فى أبريل 1984م لتطبيق تلك القوانين السيئة الاخراج والقصد .
المؤامرة من جديد !
فى تدبير مبّيت ومكشوف قامت السلطة باطلاق سراح الاستاذ محمود وتلاميذه فى ديسمبر من عام 1984م ، فى مقدمة لتدبير مؤامرة ضدهم ، ورغم علم الاستاذ محمود بالمؤامرة وحديثه عنها ، الا أنه لم يتردد فى 25 ديسمبر 1984م وبعد اسبوع فقط من مغادرته للمعتقل ، فى اصدار منشوره الشهير
(هذا! أو الطوفان!) والذى طالب فيه بالغاء قوانين سبتمبر 1983 م تنقيةً للدين من التشويه الذى ألحقته به ، ودرءاَ للفتنة الدينية ، وطالب السلطة ومعارضيها فى الجنوب الى التفاوض لحل مشكلة الجنوب ، والى ايقاف الاقتتال ، صونا لوحدة الوطن ، وحقنا لدماء أبنائه .. ولم يفت على الاستاذ محمود أن السلطة انما كانت تتربص به ، وتنتظر فرصة كهذه لتقديمه لمحاكمها الجائرة ، غير أن الأمر عنده قد كان ، كما كان طوال سيرته ، امر دين لا مساومة فيه .. و لما كان الدين عنده هو نصرة المستضعفين من شعبه ، فقد نهض الى واجبه الدينى دون التفات للحسابات السياسية ، او الاعتبارات الدنيوية.
فى يناير من العام 1985م أقام الجمهوريون مؤتمر الاستقلال بدار الاستاذ محمود بأم درمان ، وفى ختامه مساء 4 يناير تحدث الاستاذ محمود عن ضرورة أن يفدى الجمهوريون الشعب السودانى حتى يرفعوا عن كاهله اصر الظلم الذى وقع عليه ، مقدما نماذج من تأريخ التصوف لصور من فداء كبار المتصوفة لشعبهم.
الكيد السياسى والمحكمة المهزلة
فى صباح الخامس من يناير 1985م اعتقلت سلطات النظام المايوى الاستاذ محمود محمد طه بعد أن كانت قد اعتقلت عددا من الجمهوريين قبله ، ليتم بذلك تنفيذ التدبير المعد سلفاً لمحاكمة الاستاذ محمود والجمهوريين أمام المحاكم التى شكلها النظام من خصوم الجمهوريين من قوى الهوس الدينى.
فى يوم الاثنين 7 يناير 1985م قُدّم الاستاذ محمود وأربعة من تلاميذه للمحاكمة أمام محكمة الطوارئ ، برئأسة حسن ابراهيم المهلاوى ، فأعلن الاستاذ محمود محمد طه رفضه التعاون مع المحكمة ،
بعبارات خلّدها التأريخ فى سجل الشرف ، واضعا المحكمة ، والقانون الذى تحاكم به ، والسلطة التى تأتمر بأمرها فى موضعها الصحيح من أنها مجرد أدوات لقمع الشعب وأسكات صوت الأحرار من أبنائه.
في يوم الثلاثاء 8 يناير 1985م أصدرت المحكمة المهزلة حكمها المعد سلفا بالإعدام على الأستاذ محمود وتلاميذه الأربعة، فغطت سماء البلاد موجة من الحزن والذهول.
في يوم 15 يناير 1985م أصدرت محكمة الاستئناف المزعومة برئاسة القاضي المكاشفى طه الكبّاشى حكمها المتوقع بتأييد حكم المحكمة المهزلة، بعد أن قامت بتحويل الحكم من إثارة الكراهية ضد الدولة، إلى اتهام بالردة، لتتضح ملامح المؤامرة أكثر.
فى يوم الخميس 17 يناير 1985م صادق الرئيس جعفر نميرى على حكم الاعدام ، بعد أن أوسع الفكرة الجمهورية تشويهاً ، ونصب نفسه قاضيا على أفكارها ، فاتجهت الانظار الى سجن كوبر بالخرطوم بحرى فى انتظار تنفيذ الحكم.
ابتسامة على حبل المشنقة!
عند الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة الثامن عشر من يناير 1985م، الموافق للسادس والعشرين من ربيع الآخرة من عام 1405هـ، صعد الأستاذ محمود درجات السلم إلى المشنقة تحت سمع وبصر الآلاف من الناس، وعند ما رفع الغطاء الذي كان علي رأسه قبيل التنفيذ، أسفر وجهه عن ابتسامة وضيئة لفتت الأنظار، فانفتحت، بهذا الموقف الأسطوري، وبهذه الابتسامة، دورة جديدة من دورات انتصار الإنسانية على الخوف من الموت.
فى السادس من أبريل 1985م سقطت سلطة مايو أمام انتفاضة الشعب السودانى ، وفى 18 نوفمبر 1986م أصدرت المحكمة العليا السودانية حكمها بابطال أحكام المحكمة المهزلة ومحكمة الاستئناف المزعومة بحق الاستاذ محمود. وقد أعلنت منظمة حقوق الإنسان فيما بعد يوم 18 يناير يوما لحقوق الإنسان العربي ..