إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
بداية فكرة هذه الورقة كانت بعد الاطلاع على مجلة "قضايا سودانية"، العدد الثامن عشر (يوليو 1998)، والتعرض من خلالها، بصورة غير مسبوقة بالنسبة لنا، لشكل الحوار الداخلي بين الشيوعيين السودانيين عن تجربتهم الماركسية في السودان، نظريا وعمليا، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، والذي كان مسبوقا بمراحل محسوبة من التدهور المتصل.. تأملنا صور النقد والنقد الذاتي التي اتسمت بها كتابات أهل اليسار الماركسي في السودان، واليسار عموما، في هذه المجلة، وفي كتابات سابقة اطلعنا عليها، وهي على درجة محترمة من مواجهة الذات وتقييم التجربة (مع تحفظات سيأتي أوانها في سياق الورقة).. وقد شدنا لكتابة هذه الورقة سببان:
1. لفت النظر إلى حجم التجارب والأزمان التي احتاجها ماركسيو السودان ليصلوا لمثل هذه المرحلة من الشجاعة الأدبية، مقارنة بكتابات نقدية أخرى تؤرخ لقبل هذه الحقبة الزمنية، وبالتخصيص كتاب "الماركسية في الميزان" للأستاذ محمود محمد طه، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1973، وهو متن محاضرة ألقيت في عام 1968.
2. تقييم معنى الديلكتيك في تجليه الذي يجعلنا نتعلم من مر تجاربنا كيف لا نكررها، وكيف نقرأ واقعنا ومستقبلنا بصورة أفضل، وكيف نحترم الإنتاج الفكري لمن أثبت التاريخ قدرتهم على قراءة الواقع والمستقبل بكفاءة أكبر.
كانت قد جرت عدة نقاشات لمواضيع هذه الورقة من قبل، من جانبنا ومن جانب أقلام لها وزنها وتاريخها في تجربة اليسار عموما واليسار الماركسي خصوصا، ولعل هذه الورقة ستقدم تلخيصات كثيرة لآراء وتحليلات قد جرى ذكرها من قبل، غير أن مبرر التلخيص والتجميع في صورة ورقة كهذه يكمن في تسهيل البحث، وإجمال القول، والتكرار المفصل لتعميمات سابقة، لدفع عجلة الحوار وتنويع مشاهده.
هل الماركسية منهج أم فلسفة؟
بطبيعة الحال، ورغم كثرة التعاريف وتداخلاتها للمصطلحين (المنهج والفلسفة)، فلا بد لنا من أن نفصح عن نظرتنا للماركسية على ضوء تعريفين واضحين للمصطلحين، أقله فيما يختص هذه الورقة.. نعني بـ"المنهج" الأداة الفكرية المُعِينة على قراءة الأحداث وتحليلها، سواء كانت سياسية، اقتصادية، هندسية، ثقافية، وما إلى ذلك، وسواء كانت حاضرة، مستقبلية، أم تاريخية.. أما "الفلسفة" فهي النظرة ذات الرأي العتيد في القضايا الأساسية في مشكل الوجود البشري، بمعنى أنها تملك تفسيرات وتعليلات وتعريفات لمسائل الهم الإنساني الكبير.. من الوهلة الأولى يمكن أن نربط بديهيا بين التعريفين لندرك أن الأول (المنهج) يعتمد على الثاني (الفلسفة).. المنهج لا بد له من فلسفة تدعمه، أما الفلسفة فهي قد تكون أحيانا بلا منهج (تكون فلسفة ناقصة بطبيعة الحال، ولكنها فلسفة)، وفي واقع الأمر فالمدارس الفلسفية صاحبة المناهج قليلة في التاريخ، أما المناهج التي ليس لها فلسفة، فهذه قد تكون، ولكنها مهزومة منذ ولادتها، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج، فكيف حين لا عود أصلا؟
وأحيانا فإن المدرسة الفلسفية قد تنتج منهجا ناجعا، رغم كون هذه الفلسفة غير ناجعة في مجموعها.. كيف؟ يكون ذلك حين تكون المرتكزات الفكرية التي يعتمد عليها منهج هذه المدرسة ناجعة، ولو كانت المرتكزات الأخرى غير كذلك، فالفلسفات لها جوانب عدة، تسقط بعضها بسهولة وتصمد الأخرى عبر الزمن.. ما زلنا لليوم، مثلا، نتعلم من الفلسفة الأفلاطونية، رغم تباعد الأزمان، لكن هذا لا يعني أنّا حين نقرأ اليوم لأفلاطون لا نستطيع بسهولة أن ندرك الثغرات في أمور تجاوزها الزمن وأبان خللها بصورة بديهية اليوم، كما لا يمنعنا ذلك من رؤية صلاحية الكثير من ركائز أفلاطون لليوم، على الأقل في اطار المداولة والترجيح.
هنا نتسائل.. هل الماركسية منهج أم فلسفة؟ والدافع لهذا السؤال هو ما اطلعنا عليه من كتابات عدة، لماركسيين قدماء، مقيمين ومتحولين، تشير ببساطة إلى أن الماركسية إنما هي المنهج المادي الديلكتيكي (وليس "الجدلي"، وهذا خطأ ترجمي شائع [1]).. هذه الإشارة، رغم حسن نواياها في كثير من الأحيان، إلا أنها مجحفة للماركسية في واقع الأمر.. ذلك أن الماركسية ليست مجرد منهج، وإنما هي فلسفة متكاملة البنيان، وتستعمل منهجها كدعامة من دعائم هذا البنيان، لا كالبنيان نفسه وكله.. يمكن القول إن المادية الديلكتيكية هي هيكل الماركسية، ونحن نلحظ بديهيا أن الهيكل هو دعامة الجسد الأساسية (أي جسد، سواء كان جسد كائن حي أو حتى جسد آلة)، ولكنه ليس كل الجسد، فالجسد أكثر تعقيدا من مجرد هيكل، لأنه يشمل القلب والعقل والأعصاب وخلافه (أو المحرك ونظام التحكم وخلافه بالنسبة للآلة).. يقف الهيكل داعما لهذا الجسد، غير أن صلاح الهيكل وصلابته لا يكفيان كدليل على صلاح الجسد ككل، وهذه بديهة من تجاربنا المعاشة.
في مجلة "قضايا سودانية" سالفة الذكر أعلاه، كثر الحديث من جانب كتاب عدة عن أن الماركسية إنما هي المنهج المادي الديلكتيكي، وأنها دليل للعمل، وليست عقيدة جامدة ومسبقة في تصور ما يجب أن تكون عليه الأمور (والعدد المشار إليه من المجلة يحمل تلخيصا للكتابات التي وردت في الأعداد السابقة، منذ الأول وحتى الخامس عشر).. أحقا؟ الماركسية لها تصور مسبق لماهية الوجود والبيئة ومكان الإنسان فيهما، ولها تصور لاحق لمآلات الأمور، ومنهجها مبني على أساس هذا التصور المسبق وفي سبيل ذلك التصور اللاحق. فكيف تكون منهجا – أودليل عمل – فقط؟ بل وكيف يكون هناك منهج بدون أسس فلسفية تدعمه، وبدون غايات ومقاصد منشودة، وبدون فهم عتيد للمسألة الوجودية؟
نرى أن إصرار هؤلاء الماركسيين اليوم على الماركسية كمنهج إنما هو مكابرة واضحة، ذلك أنهم إنما يتمسكون بالمنهج الذي قدمته الماركسية، وليس بها ككل، وبحسنات أساليب الدراسة الاقتصادية لماركس وإنجلز وخلفهما، لا كل نتائجها وتطبيقاتها.. في المقابل فإن الماركسية، كفلسفة متكاملة تعود حقوقها الفكرية لماركس وإنجلز، قد لقيت الكثير من التعديل والتبديل، منذ عهد لينين (والذي يحسب كثيرا كثالث الثلاثة)، ولهذا كانت "الماركسية اللينينية" (وهنا نشير لأن المجلة سالفة الذكر أوردت آراء وجدت الكثير من التأييد تدعو إلى تجاوز اللينينية، لأن مفاهيمها تتناقض مع الماركسية (صفحة 9)! ولنا أن نتسائل، هل لم يكتشف الشيوعيون، بعد كل هذه العقود "اللينينية"، مناقضتها للماركسية إلا في الفترة الأخيرة؟ فهل كانوا إذنً ماركسيين طيلة تلك الفترة الماضية أم ماذا؟).
حين الحديث عن "الماركسية"، صاحبة الاسم، فنحن لا نملك أن نضع بقية الماركسية جانبا ونبقى مع منهجها فقط، فاستنتاجات ماركس وإنجلز، ونظرتهما لقضايا الوجود الأخرى، هي جزء أصيل من الماركسية.. الحديث عن أنّا، حين ننظر لتراث ماركس، يجب أن نعتبر منهجه قبل أن نعتبر نتائجه التي توصل لها بواسطة ذلك المنهج، والتي قد أظهر التاريخ ضعفها، هو حديث هلامي جدا، إذ كيف نميز بين منهج الشخص التفكيري والنتائج التي وصل لها باستخدام ذلك المنهج (خصوصا وهو صاحب المنهج ومقدمه، فالمنهج ونتائجه خرجا من نفس العقل)؟ وماذا يتبقى من قيمة في ذلك المنهج إذا فقدت نتائجه قيمتها؟ خصوصا وهي حديثة العهد نسبيا، ولم يمض على خروجها للناس سوى القليل من عمر التاريخ؟
الإجابة هنا تكمن في تقييم الفلسفة الماركسية ككل، ومن ثم تقييم صلاحية معطياتها التي ما زالت فاعلة، وفي مثل هذا الفعل، فنحن، من الوهلة الأولى، نبني على الإرث الماركسي، ولكنّا لا نتبناه، وهناك فرق كبير بين "البناء" و"التبني".. المتبني للماركسية يؤثرها بكل ما فيها، وهذا هو الماركسي، أما الباني على الماركسية فهو يستفيد منها كإرث فكري له حسناته وسيئاته، فيجدد صلاحية حسناتها ويتعظ من سيئاتها، وبهذا البناء تكون مسيرة التطور الفكري مستمرة، أما بالتبني فالأمر أصعب، إلا لو كانت الماركسية نفسها مفتوحة على التطور ولم يثبت بعد خللها في أي نتيجة قدمتها، وهذا غير صحيح، كما سيجري تبيانه هنا.
على سبيل المثال، كان يشير ماركس إلى المدرسة الاشتراكية الأوينية السابقة للماركسية إلى الوجود (من روبرت أوين الانجليزي)، ويسميها وأخريات بـ"الاشتراكية المثالية"، في حين سمى اشتراكيته هو "الاشتراكية العلمية".. ماركس أيضا وضع استنتاجات أساسية تقود إلى أن بداية ثورة البروليتاريا ستظهر في انجلترا، وذلك بسبب تطور المناخ الصناعي في انجلترا على جميع رصفائه في أوروبا الرأسمالية في ذلك الزمان، ما يهيء فرص تنظيم ووعي أكبر لدى الطبقة العاملة هناك.. حين يثبت لنا التاريخ خلل هذا الاستنتاج، بعد ميل الطبقة العاملة في انجلترا إلى اشتراكية الفابيين وروبرت أوين (حزب العمال البريطاني) التي سماها ماركس من قبل بالمثالية، وبعد تحقيق عمال انجلترا انتصارات أعظم في أوروبا اليوم من أندادهم في البلدان التي انتهجت خط ماركس من قبل وتركته بعد حين (خصوصا وأن ماركس قد أخذ أحيانا يشكك في بعض أسس منهجه، بصورة قد تدعو لزعزعة النظرية التاريخية الماركسية كلها، كقوله في 1872 إن العمال في انجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، وربما هولندا، قد يصلوا للسلطة بدون ثورة، بسبب الطبيعة الديمقراطية لهذه الدول [2])، كيف سنقيّم موقف ماركس هذا؟ وحين تقييم موقفه هذا، بم يمكننا الحكم على هذا الجزء الأصيل من الفلسفة الماركسية؟ وكيف يمكننا بعد ذلك النظر للماركسية، كجسد متكامل، دون إداراك النقص فيها؟ ومن ثم فكيف نظل ماركسيين والتاريخ يصدح لنا بنقص الماركسية، بيانا بالعمل؟
إن من الاحترام لذكرى ماركس أن لا ننسب له اليوم نتائجنا التي تعلمناها من أخطائه، وأن نضعه في اطاره التاريخي دون مزايدة، ومن أجل المادية الديلكتيكية نفسها – والتي نحن من المؤمنين بصلاحيتها لليوم، كمنهج تحليل في الاطار العميم (Macro) لحركة المادة والمجتمعات، مع التحفظ على قدرتها في الاطار التفصيلي المركب (Micro) – لا بد من أن نتعلم كيف نستفيد من تاريخ الإنتاج الفكري للمدارس الفلسفية، وكيف نبني عليها، مع إعادة تقييم صلاحيتها في الجوانب المتعددة بصورة مستمرة.. من أجل المنهج الديلكتيكي لا بد من إعادة تقييم جادة للفلسفة الماركسية ككل، لنعرف مالها وما عليها، ومن ثم نبني على حسناتها، ونتجنب مزالق سيئاتها.