إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

من أجل الإشتراكية
الماركسية في السودان بين زمنين

قصي همرور


من أجل الاشتراكية
الماركسية في السودان بين زمنين


ليت قومي يعلمون


لقد أشرنا من قبل هنا إلى ما ورد في مجلة "قضايا سودانية"، من دعوة للالتفات للتراث واستنباط اشتراكية من واقع سوداني.. نشير هنا لانتقاد الأستاذ محمود للحركات الثورية الماركسية في افريقيا من أن الأجدى لها كان في العودة للموروث الافريقي في نظم الحكم قبل الاستعمار، بدل الشخوص لماركسية الاتحاد السوفيتي – والصين، بدرجة أقل – التي لا تلائم نظمها نظم المجتمعات الافريقية بسبب الفرق الواضح في صيغ المجتمع وفي علاقات الإنتاج.. تعلم ماركسيو افريقيا الدرس، وما زالوا، شيئا فشيئا، عن طريق مشوار طويل من التجارب والإخفاقات التي كلفت خسائرا مادية ومعنوية، عسيرة الإحصاء، على عاتق القارة التي لم تكن بحاجة للمزيد من الخسائر وضياع الزمن.. نحن هنا، بطبيعة الحال، لا نتهم هذه الحركات الثورية، في مجملها، بسوء النية، بل نعرف لها أهدافها النبيلة والخالصة التي قامت من أجلها، والتي تجسدت في كثير من تجارب أهلها، واضمحلت وتنكرت لتاريخها، بفعل السلطة أحيانا كثيرة، في تجارب آخرين منهم.. لكن من المعروف أن الهدف النبيل لا يكفي لإحداث التغيير المطلوب للأفضل في أوضاع المجتمعات، ما لم يتوفر على الفكرة الوجيهة.. لنا مثال ساطع في دولة الهند، التي استطاعت توليد ثورة وطنية مرتكزة على التراث الهندي العريق، بقيادة المهاتما غاندي، فأضحت بذلك مثالا لأكبر حالات النجاح السياسي لدولة من دول العالم الثالث الخارجة من نير الاستعمار.. وُلدت الهند المستقلة الحديثة دولة محترمة الكيان والتأسيس، بسبب أن تاريخ نضالها ضد الاستعمار كان مركوزا على قيم هندية، جعل الشعب الهندي بعد جلاء الاستعمار يحترم تلك القيم ويبني عليها، ما جعل الكيان الوطني متماسكا ليتولى دفة الحكم المستقل بنجاح نسبي متفوق بصورة كبيرة على بقية تجارب الدول المستقلة حديثا.. نركز هنا على عبارة "بنجاح نسبي"، إذ إنّا بالطبع لا نغفل هنا عن الخسائر التي أصابت الحركة الوطنية الهندية في مشوار استقلالها وبعده، من انقسام باكستان وصور الآلام الاقتصادية والاجتماعية التي ما تزال الهند تناهض فيها، لكن يكون من قصور النظر أن لا نرى تفوق مثال الهند على الأمثلة الشبيهة، برغم كل مثالبه التي لم يتجاهلها الهنود، وما زالوا يعملون على تجاوزها بخطى محترمة.. هذا، كما ذكرنا، في سبيل المقارنات النسبية، فالحق أن الصورة التي ننشدها للدولة الاشتراكية الديمقراطية لم تولد بعد، وإنما هناك خطوات تقدمت، في ميادين متعددة حول العالم، نحوها، وللمشوار بقية لا يستهان بها.

وبعد.. في هذه الورقة لم نهدف للجنوح للنقد التعسفي للماركسية والماركسيين السودانيين، أو لليسار السوداني عموما، فنحن، بكل تأكيد، نعي ضرورة المرحلة التاريخية التي خدمتها الماركسية عالميا وخدمها ماركسيو السودان ويساريوه محليا ومنطقيا، ونعي محاسن الماركسية التي ليس من مصلحة البشرية تجاهلها، ونعي أن الإرث الماركسي قد أصبح اليوم جزءا لا يتجزأ من ثقافة عصرنا بكل أوجهها، وخصوصا الثقافة الاشتراكية، بكافة مدارسها التي تتفق أحيانا وتختلف أحيانا مع الماركسية ومع بعضها البعض، ونعي أن العالم بعد ماركس وتيار الماركسية، بكافة تجلياته وشخوصه، لم يعد كما كان قبلهما.. هدفنا هنا هو المساهمة في عملية النقد البناء لسيرورة التاريخ، من أجل تصحيح المواقف الآن وفي المستقبل.. وكما هو واضح فإن من أهم ما توجهنا إليه في هذه الورقة هو لفت النظر لمنجز فكري أصيل ومتميز من تراثنا السوداني، لم يوله يساريونا حقه من الانتباه والاعتبار، وهو المتمثل في المدرسة الفكرية الجمهورية، برائدها الأستاذ محمود محمد طه.. كيف يمكن لحركتنا الوطنية أن تبني أسس دولة مدنية حديثة، ديمقراطية اشتراكية، تستوعب طاقات وطموحات الشعب السوداني المتنوعة، لتخلق بها وطنا مستقرا متناميا خلاقا، يصون ويطور حريات أفراده ومصالح جماعته، إذا جهلنا، أو تجاهلنا وهمشنا، طرح الفكرة الجمهورية؟ ونحن هنا لا نتحدث عن الموجة الرومانسية التي اجتاحت منابر الحركة اليسارية في السودان اليوم تجاه إرث الأستاذ محمود، من تخليد لذكراه رمزيا فقط، حين الحديث عن تاريخه وتاريخ تلاميذه في امتثال القيم الإنسانية في البذل والتسامح، متوجة بوقفة الأستاذ الجبارة في 18 يناير، 1985.. ذلك لأن هذه الصورة الرمزية، المحببة للوجدان النبيل، إنما هي نتيجة لما تم تأسيسها عليه، وهي البناء الفكري القوي، المتسق، الذي قدمته هذه المدرسة الفكرية، والذي لا يمكن تجاوزه بصور من التناول قد تكون حسنة النية لكنها تقترب أكثر من صور المدح الهجائي حينما يشار بها لمدرسة عتيدة كهذه (كمقولات – أو تصورات – ان الأستاذ محمود كان رمزا لحرية الفكر والتسامح والوقوف على المبادئ، ولكن طرحه مثالي بصورة عامة، ولا يقترب من حلول عملية واقعية للأزمات المعاصرة).

هذه دعوة عامة لأهل اليسار السوداني عموما، بماركسييه وغيرهم، للالتفات كما التفت أبو يزيد البسطامي، الذي خرج من بلدته لطلب العلم، في بدايات مشواره الطويل نحو المعرفة، فناداه المنادي: "يا أبا يزيد.. إن الذي خرجت تطلبه قد تركته وراءك ببسطام".

هوامش وإحالات


[1] هناك تعاريف ثلاثة لمعنى كلمة الديلكتيك (Dialectic) في الانجليزية، أكثرهما قربا للمعنى المطروح في استعمال المصطلح الفلسفي – منذ بداياته عند هيقل – هو التعريف: "العملية التي من خلالها يتفاعل متضادان ليشكلا حقيقة أكبر" (قاموس أكسفورد للجيب في الانجليزية المعاصرة، 1996، ترجمة الكاتب)، ومن الواضح جدا أن استعمال هيقل وماركس للمصطلح متعلق بصراع الأضداد من أجل التطور، لا الجدل (والجدل والصراع ليسا نفس الشيء في اللغة العربية).
[2] ديفيد كوت (David Caute). 1967. "الكتابات الجوهرية لكارل ماركس" (Essential Writings of Karl Marx)؛ مختارات مبوبة مع التقديم والتعليق. لندن. صفحة 197
[3] اسم الكتاب المشهور هو (How Europe Underdeveloped Africa)، ولنا علم بترجمة عربية له، بعنوان "أوروبا والتخلف في افريقيا"، ترجمة د. احمد القصير.
[4] ZDNet Research, October 2005
[5] Mercury News, October 2004
[6] InformationWeek, October 2005
[7] International Monetary Fund, July 2005
[8] قد تفيد الإشارة هنا إلى أن الديمقراطية نفسها، كنظام حكم متطور ومتنامي الأساليب، هي من "أبغض الحلال" للنظام الرأسمالي عموما، وليست جزءا أصيلا منه، إنما اضطرت وتضطر لها أنظمة الحكم التي تحمي المصالح الطبقية، اضطرارا، أمام قوة الطبقات المستغـَـلة المتنامية، ومحاولة مساومتها وإرضائها، أو تخديرها لبعض الوقت إن أمكن.. فالديمقراطية لا ننظر لها كحسنة من حسنات الرأسمالية، وإنما كهزيمة من هزائمها.. وهكذا فإن سيرورة الشعوب نحو التحرر تشمل الأوجه الثلاثة، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، أي الاشتراكي والديمقراطي والعدالة الاجتماعية الناجمة عنهما، في إصلاح تدريجي "ثوري" (وليست الثورة مقابلا، في الأصل، للعجلة والتغيير السريع بالضرورة، وإنما هي مقابل للتغيير الجوهري المؤسس، سواء كان سريعا أو تدريجيا، في النواحي والوتيرات المتعددة).
[9] الحزب الشيوعي السوداني/ سكرتارية اللجنة المركزية. 1996 (يناير). "19 يوليو 1971". صفحة 3
[10] الحديث هنا عن اتجاه الحزب ككل، حتى لا يحتج علينا البعض بأن عددا بسيطا من قيادات الحزب فطنت مبكرا لعدم جدوى الانقلابات العسكرية، مثل الأستاذ عبدالخالق محجوب، فالشاهد تاريخيا أن نظرة هذه القيادات، لو صحت المزاعم، لم تكن نظرة التيار العام للحزب، ولهذا لم تترجم لمواقف الحزب المعلنة ونحن هنا ننتقد الحزب ككل لا بعض الأفراد فقط.
[11] كتاب "مشكلة الشرق الأوسط" ومجموعة الكتب الأساسية الأخرى للأستاذ محمود، موجودة في الموقع الالكتروني للفكرة الجمهورية (alfikra.org).
[12] نتحفظ هنا على التصنيف "العربي" لهذه الحركات، لأن السودان فيها! واليسار السوداني كان يفترض به، على أقل تقدير، الارتباط بجميع حركات اليسار في المنطقة، افريقا وعربا، لكنه آثر التنكر لإحدى أهم مبادئ الاشتراكية وتحيز للعنصر المتوهم، وهذه قضية أخرى لم نرغب سوى في مجرد الإشارة إليها الآن، كما لم نرغب في تناول قضية تصنيف الجمهوريين كأهل حركة يسارية بعيدة عن التصنيف العرفي لليسار في السودان.
[13] يرى إنجلز، والماركسيون من بعده، عموما عن مسألة الغيرة الجنسية، ورغبة الاستحواذ بالشريك الجنسي دون الآخرين، أنها ظهرت في المجتمعات البشرية بعد ظهور الطبقات والصراع على وسائل الإنتاج، ما أدى لإنتاج نظم اجتماعية تنظم العلاقة الجنسية بصورة أكثر حزما مما كانت عليه في المجتمعات المشاعية، وذلك لغرض حفظ المصالح المادية للطبقات والفصائل المتناحرة، والتحكم في الإنتاج البيولوجي للمرأة من قبل مؤسسي المجتمع الأبوي.. حقيقة الأمر أن الغيرة الجنسية ظهرت قبل المجتمعات البشرية بكثير، منذ مرحلة المجتمعات الحيوانية (والتي تطورت بدورها من مرحلة المعيشة الفردية، والشبه منعزلة، في عالم الحيوان، وحتى هذه لم تسلم من صور الغيرة الجنسية)، وصور الغيرة الجنسية واضحة جدا في المجتمعات الحيوانية، خصوصا تلك القريبة للإنسان في سلم التطور (كالقردة العليا والحيوانات الداجنة، ثم الثديات عموما)، وقد ورثها البشر، متأصلة فيهم، بمجرد ظهورهم على سطح المعمورة، رجالا ونساء، ولهذا كانت أهم أسس تشكيل قوانين مجتمعاتهم (ولكل مجتمع قانون، حتى في الغابة)، منذ بداياتها، لأن تنظيمها كان السبيل الوحيد لقيام المجتمع، والتاريخ يرينا صورا متعددة في أشكال هذا التنظيم، مما لا ينفي وجود التنظيم ولكن يشير إلى تنوعه واختلافه بحسب البيئة والتجارب الموروثة المتعددة التجليات (حتى في نفس مراحل الإنتاج المجتمعية، بخلاف ما يشير له إنجلز من أن تعدد شكل التنظيم الجنسي يعود أصلا إلى المرحلة التاريخية الإنتاجية للمجتمع).. إن الحديث عن الغيرة الجنسية، وعلاقتها الأصيلة بالغريزة الجنسية، كحادث على أصل تكويننا البشري في المجتمع، هو حديث يفتقد لدقة القراءة العلمية لسيرة التطور التاريخي، وكان يفترض بالصيغة الماركسية في قراءة التطور أن تلتفت جيدا لمجتمعات الحيوان منذ بدايتها، كأصل سابق لمجتمع الإنسان، خصوصا وأنها كانت من أول المؤيدين لطروحات دارون، في عمومها، عند ظهورها أيام ماركس وإنجلز.
[14] فكرة المجتمع نفسها، كما ذكرنا عاليه، هي فكرة قامت لخدمة الأغراض الأنانية لأفراد المجتمع، وهنا نحن لا نعيب الأنانية البشرية بإطلاقها، وإنما ندين الأنانية الدنيا فيها، والتي يتطور عنها الإنسان باستمرار، كما ورد في حديث الأستاذ محمود أعلاه عن علاقة الفرد والمجتمع.. مشكلة ماركس هنا أنه ينكر حقيقة جوهرية ماثلة فينا بكل وضوح، وبهذا يشارك بفعالية في عملية تغريب الإنسان عن جوهره.. يقول في كتابه "الأيديولوجيا الألمانية" على سبيل المثال، في نقد فيورباخ: "ولكن جوهر الإنسان ليس هو الاستخلاص الموروث في كل فرد متفرد. إنما هو في الحقيقة المجموع الإجمالي للعلاقات الاجتماعية (...) وعليه فإن جوهر الإنسان يمكن أن يفهم فقط كـ"عنصر" – المجموع الداخلي الساذج الذي يوحد الأفراد العديدين طبيعيا" (ترجمة الكاتب من الانجليزية، وكل ترجمة وردت في هذه الورقة للكاتب هي من الانجليزية).
[15] في أكبر موقع الكتروني للماركسية على الشبكة الدولية، (Marxists.org)، بلغ التبرؤ من إرث ستالين، وماوتسي تونغ أيضا، حدا عجيبا.. في تصنيف أعمال الكتاب المعروضة في ذلك الموقع، هناك "كتاب ماركسيون" وهناك "كتاب آخرون" (القسم العربي للموقع).. إذا أردت البحث عن كتابات ستالين وماوتسي، فعليك الذهاب إلى صفحة "كتاب آخرون"!
[16] كارل ماركس. 1843. "نقد فلسفة الحق عند هيقل" (Critique of Hegel’s Philosophy of Right). مطبعة جامعة كامبريدج، 1970، في مقدمة الكتاب.
[17] ديفيد كوت. مصدر سابق، الصفحات من 25 إلى 31
[18] ديفيد كوت. مصدر سابق، صفحة 44
[19] ديفيد كوت. مصدر سابق، صفحة 50
[20] حيدر إبراهيم علي. 2006 (ديسمبر). "اليسار جنوبا. السلفية شرقا". جريدة الصحافة
[21] والتر رودني (Walter Rodney). 1972. "كيف قوضت أوروبا تنمية افريقيا"(How Europe Underdeveloped Africa). دار السلام. الفصل الأول.
[22] في سبيل تفصيل هذا الأمر، نقترح قراءات مثل ورقة "التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها"، بمناسبة الذكرى العشرين لاستشهاد الأستاذ محمود محمد طه، يناير 2005. قصي همرور. مجلة احترام. العدد الأول، موقع "سودان للجميع".
[23] حيدر إبراهيم علي. مصدر سابق.
[24] عمر القراي. 2003. "الدين ورجال الدين عبر السنين"؛ مجموعة مقالات نشرت في صحيفة سودانايل وموجودة الآن في موقع الفكرة الجمهورية الالكتروني، في قسم الكتابات.
[25] عبد الله علي ابراهيم. "في يوم المرأة العالمي: الماركسية والمرأة في السودان". موقع "سودان للجميع"، صفحة "كتابات نقدية".