إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

من أجل الإشتراكية
الماركسية في السودان بين زمنين

قصي همرور


من أجل الاشتراكية
الماركسية في السودان بين زمنين


المادية الديلكتيكية واقتصاد ماركس


لم نفرغ من الحديث عن المادية الديلكتيكية بعد، وإنما كان ما قلناه أعلاه بداية تعليلية لكون الماركسية ليست المادية الديلكتيكية فقط.. نشير هنا إلى أنّا ندرك أن المادية الديلكتيكية معنية بحركة المادة ككل، لا حركة المجتمعات فقط، وأن الجانب المجتمعي للمادية الديلكتيكية إنما هو "المادية التاريخية"، لكنّا نؤثر استعمال اسم المادية الديلكتيكية في الإشارة للمجتمعات أيضا في هذه الورقة، حتى يكون التركيز واضحا على المنهج ككل، أكثر من مجرد جانبه المجتمعي.
نريد الآن أن نستهل الحديث هنا باقتباس مطول، ولكن جوهري، من الأستاذ محمود محمد طه، من كتاب "الماركسية في الميزان" (من محاضرة باللهجة السودانية).. يقول الأستاذ محمود:

"أنا أحب أن تكون عندنا، في ميزان حسنات الماركسية، الفكرة التطورية – كون الوجود في حركة مستمرة، لا يستقر إطلاقاً.. ودا ينطبق علينا نحن، كمجتمع، وينطبق علينا نحن، كأفراد.. دي حقيقة ناصعة جداً، وجيدة جداً ـ حقيقة التطور، والتحول المستمر (...) فيما يضيفه "للمادية الديلكتيكية" أن الفلسفة قديماً ورتنا العالم مكون من شنو، وهذا ليس مهماً ولكن المهم أننا نحن الآن عايزين نحدث التغيير في تكوين العالم. بمعنى آخر، المهم أن يكون عندنا أسلوب علمي ليحفز التطور – ليكون التطور قائم على ذكاء بشري، حتى يكون التطور موجه، وسريع التغيير.. أنا أفتكر دي، أعني المادية الديلكتيكية، من النقط التي نضعها، وعلى الفور، في ميزان حسنات كارل ماركس (...) الاشتراكية!! الحاجة النحب أنها تكون واضحة، ودي فيها لبس دائماً، أن كارل ماركس موش أول اشتراكي، وهو لن يكون آخر اشتراكي، لكنه صاحب مدرسة في الاشتراكية عتيدة، مدرسة مجيدة، مدرسة، يمكنك أن تقول، محترمة.. لقد درس ماركس المسألة الاقتصادية دراسة واعية.. لقد جعل المسألة الاشتراكية أمر دراسة تخضع للرصد، وللتخطيط، وللتطبيق.. ده مما يوضع في كفة ميزان حسناته.. هنا نجي لي اشتراكيته العلمية.. قد نرى أنه يمكنك أن تجد بعض المآخذ فيها، ولكن لا ضير.. فإنه جميل قوله إن مجرى التاريخ بتتحكم فيهو النظم الاقتصادية.. ده، بطيبعة الحال، حق، وواضح، عندك وعندي.. مجرى التاريخ بتتحكم فيهو النظم الاقتصادية، بمعنى العلاقات البتقوم بين المنتجين.. يعني النظام الرأسمالي، مثلا ً، يكاد يكون عنده تاريخ يختلف تماماً عن التاريخ البيصحب النظام الاشتراكي.. يتضح لك هذا إذا كان مثلا ً علمت أن النظام الرأسمالي من مساوئه الاستعمار.. ونحن، في بلدنا دي، بنعرف الاستعمار جيداً.. في العالم كله نحن بنعرف أن الاستعمار قائم على النظم الاقتصادية الرأسمالية (...) مثلا ً الهند!! استعمرتها شركة، كانت بداية ذهاب البريطانيين. الهند السميت، فيما بعد، البقرة الحلوب للامبراطورية البريطانية.. كانت بداية استعمارها شركة تجارية، هي شركة الهند الشرقية (...) فتلقى، إذن، أن التاريخ يظل قدامكم مفتوح، النظام الاقتصادي بيتحكم فيهو، بل يصنعه.. إذا كان مشيت لمسألة الصراع الطبقي بتلقى أن التاريخ تقريباً سجل ليهو.. دا حق (...) نقطته الثالثة هي مسألة الحكومة: فالحكومة عنده هي أداة في يد الطبقة المستغِـلة لتستغل بيها الطبقات المستغـَـلة.. ودي أفتكر أنت يمكنك أن تشوفها. فمثلا ً في البلاد الرأسمالية النظام الرأسمالي مسيطر. زي ما إنتو بتسمعوا عن الرئيس الأمريكي، مثلا ً عن كندي وعن جونسون، فإنه يقال إنه، (ودا رأي مؤكد أن فيه شئ من الصحة) يقال أنه ما حمله على مواطأة الإسرائيليين خوفه من النفوذ الموجود عند الصهاينة (عند اليهود) في أمريكا، فإنهم يستطيعون أن يسقطوه عندما يتقدم للانتخابات لرئاسة الجمهورية إذا كانوا ضده. هذا يعني أن اليهود عندهم وزن اقتصادي ومالي كبير. عندهم تأثير على وسائل الإعلام، وبعضها تحت ملكيتهم، ويمكنهم إذن أن يعملوا حملة ضده قد تسقطه.. فإذا كان رئيس الدولة يلقي بالا ً لنفوذ الطبقات الغنية ويخشاه فقد أصبح واضحاً لك، و يمكنك أن ترى أن الحكومة يمكن أن تكون أداة تنفيذ لأغراض الناس المستغِـلين (...) دي هي نقطته الثالثة، وهي، كما ترى، نقطة وجيهة، وعلمية، وواقعية".

لم يفرغ تعليق الأستاذ محمود على نقاط المادية التاريخية بعد، غير انّا ندخره لما سيأتي من سياق هذه الورقة.. وكما نرى فإن عموم نظرة ماركس في قضية المادية الديلكتيكية لا يحتاج المرء ليكون ماركسيا ليتفق معها ويبني عليها، وإلا لكان الأستاذ محمود، بعد كلامه أعلاه، ماركسيا (رغم كل النقد الذي قدمه للماركسية وسلبياتها التي سنأتي عليها بعد قليل)! وللأستاذ محمود خبرة شخصية في مواجهة الرأسمالية، في صورتها الاستعمارية، وهو أول سجين سياسي في تاريخ السودان الحديث، ومن القلة التي فطنت منذ البدايات إلى أحاييل الاستعمار وأطماعه، وذلك حين كان الكثير من مثقفي السودان وافريقيا يظنون أن الاستعمار "له حسناته وسيئاته" وبالإمكان التعاطي معه ليعمل أكثر من أجل مصلحة الشعوب المستعمَرة.. كل هذه المواقف، والمحاضرة أعلاه، كانت قبل صدور الكتاب العظيم المشهور للدكتور والتر رودني "كيف قوضت أوروبا تنمية افريقيا"[3]، في أول سبعينات القرن المنصرم، والذي أظهر فيه حقيقة المطامع الاستغلالية البحتة للاستعمار، بتوثيق وتحليل ماهر، حتى فيما ظهر منها، لبعض الناس، أنه بسبيل حسن نية من جانب المستعمِـر، ولمصلحة سكان القارة عموما.

وبطبيعة الحال فهذا المنهج – المادية الديلكتيكية – له متطلبات معرفية لا يقوم إلا بها، وبما أن هذه المتطلبات تلقى تفاوتا في الاستيعاب لدى الناس، لهذا لم تكن كل نتائج المادية الديلكتيكية سليمة، حسب نسبة تلك الاستنتاجات لأصحابها.. رغم نجاعة المنهج فهذا لا يعني تلقائيا نجاعة كل النتائج المستمدة منه، حتى نتائج ماركس نفسه.. نجاعة المنهج لا تغني عن ضرورة تهذيب متطلباته، من سعة اطلاع وأفق وذكاء تحليلي وانتباه للتفاصيل، وفي مثل هذا يتنافس المتنافسون، فتظهر الحصافات وأيضا الكبوات، كبيرها وصغيرها.. نعرج أدناه على أمثلة لهذا الأمر.

مثال منهجي أول: الاقتصاد العالمي المعاصر

رغم صحة الصورة العامة لعلاقات الاستغلال الطبقي للمجتمعات المعاصرة، فإن تفاصيل تصور ماركس للموضوع أثبتت خللها، في كثير من الأوجه، ويعزى ذلك في معظمه لكون ماركس قد اشتط في سحب قوانين التاريخ على تفاعلات الحاضر والمستقبل، دون أن يعطي الفرصة لأن تخلق حركة التاريخ قوانينها الجديدة عبر هذه التفاعلات (ولنا عودة لهذه النقطة).. اليوم لم تعد طبقة العمال، كما وصفها ماركس، عالية النسبة في أي مجتمع صناعي، بشكل يؤهلها لقيادة حركة ثورية باسمها الطبقي المتميز، بل وأكثر من ذلك فإن عددها آخذ في التناقص والتماهي في الطبقات الأخرى يوميا، بفعل المنجزات المستمرة في تكنولوجيا الصناعة الآلية (Industrial Automation)، والتي استغنت، وما زالت كل يوم أكثر، عن الأعداد الكبيرة للعمال لإدارة العملية الصناعية.. عملية الإنتاج لم تعد محتاجة للعمالة أكثر من احتياجها للطاقة والمادة الخام وللسوق المستهلك (وهذه أهمهمن).. أصبح من غير النادر اليوم أن تكون هناك مصانع مستمرة في الإنتاج على مدار اليوم دون توقف، وفي ورديات الليل المتأخر مثلا، فإن باحة المصنع لا تجد فيها عمالا يتجاوز عددهم أصابع اليد، وظيفتهم الأساسية هي مراقبة السير التلقائي المبرمج لآلات المصنع، والتدخل فقط في حالة حصول خلل آلي غير متوقع، كما أن العدد أثناء النهار لا يكون كثيرا جدا، برغم أن هذه المصانع تنتج إنتاجا ضخما بمقاييس السوق العالمية، كما ونوعا.

وفي القديم (في عهد ماركس وبعده إلى نهاية الثمانينات من القرن المنصرم) كانت المصانع تعمل بنظام الدفع الإنتاجي (Push System)، حيث يتضاعف الربح كلما تضاعف الإنتاج المجود، أما اليوم، فإن كبرى الشركات الإنتاجية (والصغرى تأسيا، وكلما كبرت)، في شتى مجالات الإنتاج، تحولت، أو أصبحت تتحول نحو نظام السحب الإنتاجي (Pull System)، حيث يعتمد معدل الإنتاج على معدل الطلب في السوق قبل المباشرة في الإنتاج.. الشركات أصبحت تقيم حجم الطلب في السوق (عن طريق الإحصائيات واستلام الطلبات المباشرة) قبل أن تقوم بعملية الإنتاج، من أجل عدم الإسراف في الخام، والذي سيعود بخسارة كبيرة إذا تم الصرف عليه لتحويله لسلعة جاهزة للاستهلاك بدون أن يجد مستهلكا.. لهذا أصبح يحدث كثيرا أن كثافة الإنتاج، وزيادة العمالة، تؤدي للخسارة، في مقابل تقليله ليناسب رغبة السوق ويوفر المادة الخام.. والعامل أصبح أيضا، في ظل هذا الواقع، يحتاج لمهارته الفكرية أكثر من مهارته الجسدية، المكتسبة من العادة (أو يحتاجهما بالتساوي، على أقل تقدير، في بعض الظروف).. هذا الأمر يجعل الفرق السلوكي الإنتاجي بين العامل الفني، الحرفي، والموظف المكتبي (أو المهندس النظري، أو الباحث المعملي.. الخ) غير كبير، ويجعل قيمة العمل لكل هؤلاء تعتمد فقط على الحاجة المباشرة لنوع الخبرة المهنية في تشكيل الاقتصاد الوطني (مثلا، نحن في السودان ودول العالم الثالث نحتاج للفنيين أكثر من المهندسين النظريين والباحثين المعمليين في اقتصادنا، بعكس الغرب، وعليه فإن قيمة عمل الفني في مثل هذا الوضع تتفوق بأهميتها – وبالتالي وجوب الاستثمار فيها – على أهمية هؤلاء، باعتبار الأولويات).

وقد أصبح قطاع الخدمات، والقطاع الريعي عموما، بسبب هذه الثورة التكنولوجية الهادرة، صاحب النسبة الأعلى في الدول الصناعية الكبرى في مناصب العمل، وهو في تضخم مستمر في الدول النامية أيضا، كما أنه أصبح يستوعب كافة الخبرات التقنية، كأدوات مهمة لتحليل ودراسة وتطوير وتفعيل شكل الخدمات.. كل هذا يدخلنا لتساؤلات تضطرنا لمراجعات مهمة – لا تجاوزات – لنظرية فائض القيمة عند ماركس، حيث أصبح فائض القيمة في تضخم، في حين أن مجهود ووقت وعدد العمال الأجراء في تناقص، إذ لم تعد العلاقة بين الاثنين (فائض القيمة وقوة العمل) بذات الطردية النسبية التي كانت.. هذا وقد ساهمت التكنولوجيا تقريبا في إلغاء العقبات التي كان يسببها عامل المكان (والزمان أيضا، بنسبة أقل)، بحيث صار الموظف الهندي أو الإيرلندي في بلاده مساهما مباشرا في الاقتصاد الأمريكي، أو الألماني، أو غيره.. تشير إحصائيات أخيرة إلى أن 19% فقط من الشركات والمؤسسات الأمريكية لديها استراتيجية تصدير العمالة (الوظائف) إلى خارج البلاد (Outsourcing)، ولكن هذه النسبة تصعد إلى 95% إذا قصرنا النظر على أكبر ألف شركة أمريكية [4].. هناك دراسة صدرت في عام 2004 من جامعة كاليفورنيا (بيركلي) تحذر فيها من أن حوالي 14 مليون مواطن أمريكي سيفقدون وظائفهم بسبب تصدير العمالة [5].. وفي المقابل تشير الإحصائيات إلى أن الوظائف الجديدة التي أتاحتها شركات تكنولوجيا المعلومات، مثلا، في الهند في تصاعد عال ومستمر (ما يعادل 15% في أقل من سنة) [6].. في عام 2003 وصلت العائدات الإيرلندية والهندية من سياسة تصدير العمالة الأمريكية والأوروبية إلى 14.4 بليون و11.3 بليون دولارا، على التوالي [7].. هذه الإحصائيات مأخوذة في الغالب من عالم تكنولوجيا المعلومات، ولكن هذا لا يعني أن قطاع الصناعة غير مشارك، غير أن قطاع الصناعة أكثر تعقيدا، بسبب الحسابات اللوجستية المعنية بسيرورة المنتج منذ أن يكون خاما حتى يصل إلى أيدي المستهلك في السوق، وهي رحلة طويلة عابرة للقارات، وسببت في تطور المفاهيم اللوجستية بصورة غير مسبوقة، وأدت إلى ولادة طراز هندسي جديد من رحم الهندسة اللوجستية، ألا وهو "هندسة جنزير الإمداد" (Supply Chain Engineering).. هذا علاوة على أن هذه الصورة قد خلقت رؤوس أموال قوية في بلدان كثيرة، مرتبطة بشكل مباشر مع بعضها عالميا، وقدمت موازين قوى جديدة، ظهر فيها العملاق الصيني بصورة مخيفة لمعاقل الرأسمال الغربي، وظهرت فيها أيضا النمور الآسيوية، وكل هذا أثر هنا وهناك في السياسات الاقتصادية الداخلية والخارجية لهذه البلدان، وأثر على تكوين الطبقات فيها بشكل واضح.. هذه الصورة المعقدة والمتشابكة عالميا قد تجاوزت الصورة المبسطة لعلاقات الطبقات في قراءة ماركس، كما هو واضح، كما أن هناك صور من السياسات الإنتاجية تتبعها الشركات الكبرى اليوم، عالميا ومحليا، لم يحفل بأمثلتها ماركس وإنجلز كثيرا، في تأكيدهم على ضرورة العمل الثوري، غير الإصلاحي التدريجي المصطحب والمعتمد للتفعيل الديمقراطي [8].. أصبحت هناك سياسة في التعامل مع موظفي وعمال المصانع، مثلا، تشجعهم وتعينهم على شراء أسهم في شركات عملهم، وبالتالي يصبحون عمالا وأصحاب رؤوس أموال في نفس الوقت! ما يقوي علاقاتهم بشركاتهم وفي الحماس الإنتاجي لها، ويستمر هذا الحماس مدى الحياة، بعد التقاعد، ويعود أثره على وضعهم الطبقي بوضوح (ولا يعني هذا أن الاستغلال قد رُفع عنهم)، كما إن سياسات الضغط الواعي الموزون والمباشر من جانب الموظفين والعمال في هذه الشركات أتت على بعضهم بفوائد من طراز التأمينات الصحية والاجتماعية، وضمانات عدم الطرد، والتي تحظى بها مجموعة كبيرة من مؤجري قوة عملهم لرؤوس الأموال في بلدان العالم الأول، وهي نتيجة سيرورة وعيوية وتنظيمية متصلة من جانب الطبقات المستغـَـلة، تشبه ما دعا إليه الاشتراكيون الفابيون (ولنا على هؤلاء تحفظات ليس هذا مقام تناولها).. هذا، بطبيعة الحال، لا يعني أن صور الاستغلال البشع قد اختفت في جميع المجتمعات، على تفاوتها، وخصوصا في الدول النامية والأقل نموا، لكن هذا يعني أن التصور الماركسي لحل هذه المشكلة قد تجاوزه الزمن، وأصبح بذلك متطلبا لنظرية ثورية جديدة، عالميا ومحليا، تقود نضال المستغـَـلين بوعي مواكب لمجريات العصر.. من المهم أيضا أن تفهم الحركات الماركسية في الدول النامية أن مجتمعاتها لن تمر بنفس المراحل التي مرت بها المجتمعات الغربية على سبيل المثال، ذلك لأن التجربة الغربية لن تجعل هذه المجتمعات تمر بنفس مراحلها، وذلك بسبب منجزات التكنولوجيا الحديثة في إلغاء المكان، فليس من مصلحة أي طبقة رأسمالية، موجودة أو متوقعة قريبا في الدول النامية والأقل نموا، أن تمر بنفس مراحل أنماط الإنتاج التي مرت بها أوروبا مثلا، فهي لن تفكر في أن تبدأ أولا، على سبيل المثال، بالإنتاج عن طريق الآلات التي تتطلب عددا أكبر من العمالة، بخلاف تكنولوجيا الصناعة الآلية المتوفرة حاليا، بأسعار متقاربة وقدرة إنتاج أكبر (وهنا نشير لاستثناء يعبر عن حالات الشذوذ في القاعدة العامة، في الهند، حيث إن بعض الولايات الهندية تصنع الآلات والمعدات الزراعية الحديثة وتصدرها للخارج دون استعمالها في الزراعة المحلية، وذلك من أجل توفير فرص عمل أكثر لسكانها في حقل الزراعة، إذ أن إدخال الأساليب الحديثة في الزراعة سيفقد الكثير مصدر رزقهم، ما لا يعد في المصلحة العامة للاقتصاد الوطني، وللهند كما هو معلوم مشكلة كثافة سكانية كبيرة عطلت عجلة التنمية فيها بصورة واضحة، وهذا مثال غرضه إدراك أن المشكل الاقتصادي العالمي لا يمكن ابتساره في هيئة تكتيكية واحدة للحل، إذ أن لكل بلاد وبيئة مشكلاتها الخاصة التي تتطلب حلولا خاصة، ولكن، ورغم ذلك، لا يفوتنا هنا أن نؤكد على اهتمام الهند بالتكنولوجيا واستثمارها الكبير لطاقاتها البشرية والبحثية والزمنية في هذا المجال).. هكذا يفقد الاقتصاد الماركسي اليوم صلاحية مجموعة من أهم أسس فاعلية تصوره لسيرورة الثورة من أجل الاشتراكية.

هذا، وبما أن اهتمامنا الأساسي في هذه الورقة يتعلق بالماركسية في السودان، فلنا تعليقات على مثلالين من أمثلة القراءات القاصرة للواقع السوداني من جانب جماعات اليسار الماركسي في السودان، في سياق تدليلنا على أن "نجاعة المنهج لا تغني عن ضرورة تهذيب متطلباته"، كما ذكرنا أعلاه.

مثال منهجي ثاني: أخطاء سياسية في السودان

في مجلة "قضايا سودانية" سالفة الذكر، تحدثت الكثير من المقالات عن صور الجمود والتسلط في الحزب الشيوعي، ومثالب العمل السري، وغير ذلك مما سنعود له بصورة أكثر تفصيلا بعد قليل.. نريد الآن أن نتناول شهادة واحد من قيادات الحزب الشيوعي عبر تاريخه الطويل، وهو الأستاذ التجاني الطيب.. في تلخيص العدد الثاني من المجلة (سبتمبر 1993)، عرض مقال للأستاذ التجاني بعنوان "هاؤم اقرأوا كتابيا"، ينتقد فيها ما يرى أنها الأخطاء التي ارتكبها الحزب الشيوعي عبر سنين نضاله.. يلخص الأستاذ التجاني هذه الأخطاء في خمس مواقف، نذكر منها ثلاثة:

1. أن الحزب الشيوعي السوداني، رغم أنه نشأ مستقلا في بدايته، ولم تعترف به الحركة العالمية الشيوعية إلا عام 1958، إلا أنه كان "أسيرا للأفكار والممارسات السائدة في تلك الحركة بكل ما كان لها أو عليها".
2. خطأ آخر في "السكوت عن الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان في فترة تحالف الحزب الشيوعي القصيرة مع نظام مايو، بما في ذلك الاعتداء على جامعة الخرطوم.. وفي 19 يوليو تم اطلاق سراح المعتقلين الشيوعيين والديمقراطيين وتم التحفظ على الآخرين".
3. أما آخر هذه الأخطاء فهو موقف الحزب المؤيد لانقلاب 19 يوليو 1971.

بداية فالاعتراف بالخطأ محمدة ولا شك، وهو مما يدعو للاحترام، ولكنّا الآن بصدد تناول الأسباب وطبيعة أسلوب القراءة السياسية التي جعلت الحزب الشيوعي يرتكب هذه الأخطاء، فهذه لم يتناولها الأستاذ التجاني بالمواجهة المطلوبة، بل إنه بعد ذكر هذه الأخطاء أخذ يتحدث عن مواقف الحزب الشيوعي عموما "بالعمق والثبات والمثابرة من أجل انتزاع حق وحرية التنظيمات السياسية والنقابية وإلغاء القوانين القمعية".. بداية لا بد أن نقول إن الحزب الشيوعي لم يكن أسيرا للأفكار والممارسات السائدة في الحركة الشيوعية العالمية دونما سبب، وإنما لأن الحزب كان مستوردا للفكرة الماركسية من الأساس، استيرادا يفتقد لحصافة قراءة الواقع المجتمعي المخالف للواقع الذي نمت وترعرعت فيه الماركسية في أوروبا عموما، وفي تجربتها السوفيتية خصوصا، وحين كان الحزب الشيوعي مستوردا للفكرة فهو لم يستطع أن يكون أصيلا فيها على أرض وطنه، وعليه لم يكن يملك سوى أن يكون أسيرا لأفكار وممارسات الحركة الشيوعية العالمية! صحيح إن هناك محاولات قد أطلت بين الفينة والأخرى لتصحيح هذا الوضع في الحزب الشيوعي، وهو أمر مقدّر، ولكن الوضع منذ بدايته، وبرمته، لم يكن ليسمح بأن يكون الحزب الشيوعي السوداني غير صورة مشوهة لانعكاسات الواقع الأروبي الشرقي والسوفيتي على أرض السودان.. أما سكوت الشيوعيين عن "الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان" في فترة تحالفهم مع نظام مايو، فذلك لم يكن غير نتيجة تلقائية لسلسلة من الأخطاء المفهومية تبدأ من العلة الموجودة في الماركسية نفسها من تزييف معنى الديمقراطية وحقوق الأفراد في المجتمعات (ولهذه عودة).. الحزب الشيوعي في هذا الموقف إنما كان يتأسى بالإرث المفهومي والتطبيقي للماركسية في كافة تجلياتها العالمية، من الاتحاد السوفيتي لأوروبا الشرقية للصين، ولو كان مقدرا للحزب الشيوعي أن يبقى في حلفه مع نظام مايو لفترة أطول لكنا رأينا أكثر وأكثر من "السكوت عن الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان".. هذا علاوة على ان عبارة "السكوت عن الانتهاكات" هي من باب التصوير للنفس أنها لم تشارك في الفعل وإن سكتت عنه، وهذا لا ينطبق على مواقف الحزب الشيوعي في فترة تحالفه مع مايو.. أما علاقة الحزب الشيوعي السوداني بالانقلابات وانتزاع السلطة، فهي لم تبدأ مع مايو، ولم تكن 19 يوليو إلا هزة عنيفة جعلت الحزب يفكر أكثر من مرة في أي مغامرة أخرى من نفس الشكل.. لقد أيد وشارك الشيوعيون من قبل مايو في انقلابات عسكرية فاشلة لإسقاط الفريق عبود في مارس 1959، وفي مايو 1959، وفي نوفمبر 1959 [9]، ولسنا بصدد انتقاد الموقف التكتيكي للحزب الشيوعي من هذه الانقلابات الآن، ولكن لكي نشير في الأساس إلى أن الموقف الأخير الذائع المزعوم للحزب الشيوعي في عدم تأييد إسقاط السلطة عن طريق الانقلاب العسكري ليس نتيجة جهد فكري متزن منذ البداية، إنما نتيجة دروس وعبر متكررة اضطر الحزب لتجرع مراراتها عبر تاريخه بسبب إصراره على جدوى العمل العنيف في تغيير المجتمع وسياسات الدولة لصالح أجندته [10].. الحزب الشيوعي لم يكن ناجعا في استخدام منهجه الذي تبناه (المادية الديلكتيكية) لكي يدرك أن طريق الانقلابات العسكرية طريق لا يسوق لسلطة ديمقراطية، ولم يكن خلاف الحزب الشيوعي مع مايو ذو علاقة بانتهاك الديمقراطية وحقوق الإنسان، فالحزب قد شارك في هذه الانتهاكات مع مايو قبل خصومته معها، ومن ثم حاول أن يستعيد يده في السلطة عن طريق انقلاب 19 يوليو.. الحزب الشيوعي لم يؤيد مايو ويشارك فيها للأسباب الصحيحة، ومن ثم لم يغضب عليها ويحاول اقتلاعها للأسباب الصحيحة، وفي هذه وتلك كان الدرس مرا علقما، اضطر معه الحزب لأن يعيد ترتيب مواقفه من العمل العسكري الانقلابي (ونرجو أن لا يسرح الخيال بعيدا ببعض القراء هنا لنحو أن هذا الكلام به شماتة بمن طالتهم يد الإعدام إثر 22 يوليو.. عليهم الرحمة جميعا، ولهم الاحترام بقدر ما أخلصوا لقيتهم، وليحفظ التاريخ ما كان لهم وما عليهم).

لقد أيد الأستاذ محمود محمد طه والجمهوريون نظام مايو عند مجيئه لأسباب تختلف تماما عن تلك الأسباب التي أيده من أجلها الشيوعيون، واليساريون عموما، ولهذا كانت مواقف الجمهوريين مع مايو مختلفة جدا عبر تاريخها من مواقف الحزب الشيوعي معها، فالحزب الشيوعي انتقل من المشاركة الفعلية في مايو، إلى محاولة اقتلاعها بالقوة، إلى العمل السري في معارضتها بأساليب عدة (والعمل السري نفسه لم يكن قد تخلص من مساوئ الإقصاء الفكري للآخر، ومحاولة تحطيمه بشتى السبل، التي ورثها الشيوعيون السودانيون من الحركة الشيوعية العالمية)، أما الجمهوريون فبدأوا بالتأييد السلبي لمايو للمصلحة المرحلية للبلاد، والتي كان قادتها في الجمعية التأسيسية، قبل مايو، على خطى حثيثة لتقنين دولة حكم طائفي متوج بالهوس الديني وتحت قناع ديمقراطية ميكانيكية لا تغني من الديمقراطية الحقة شيئا، بعد أن ألغوا الديمقراطية عمليا بقرار حل الحزب الشيوعي والسعي لتصديق الدستور الإسلامي المزيف، باساليب لا تمت للدستورية بصلة.. أيد الجمهوريون مايو لأن مايو كانت في بدايتها قد أتت في لحظة الصفر وأيدت، عمليا، الحلول التي كان يدعو لها الجمهوريون قبلها، من إيقاف لمؤامرة الجمعية التأسيسية، وسعي جاد لتقديم حل سلمي محترم لمشكلة الجنوب، وفتح مجال أوسع لتداول الأفكار السياسية بعيدا عن ظل الإرهاب الديني، دون إخلال بالأمن العام (والتأييد السلبي يعني أن الجمهوريين لم يشاركوا في أجهزة مايو، بل ورفضوا المشاركة فيها حين عرضت عليهم في بعض المواقع، فبذلك لم تكن للجمهوريين أي فوائد خاصة أو شخصية يمكن أن تشوه نزاهة موقفهم)، ولكن حين بدأت مايو تحيد عن تلك الحلول والسياسات المرحلية المطلوبة (أي أنها بدأت تحيد عن مبادئها التي تبنتها في البداية وأيدها الجمهوريون مرحليا من أجلها)، بدأت المعارضة المبدئية من جانب الجمهوريين لسير السياسات في القصر الجمهوري، حتى وصلت إلى المعارضة التامة إثر إعلان قوانين سبتمبر 1983، والتي أدت إلى المواجهة السافرة بين الجمهوريين ومايو التي أدت إلى تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه في يناير 1985، واستتابة تلاميذه.. علاقة الجمهوريين بمايو بدأت علاقة أفكار ومواقف مبدئية، وانتهت كذلك، أما علاقة الحزب الشيوعي بمايو فكانت في معظمها نزاعا على السلطة، عبر مراحلها المتعددة.

مثال منهجي ثالث: مشكلة الشرق الأوسط

قبل الانتقال إلى باب آخر من أبواب هذه الورقة ندلف برهة إلى آخر مثال منهجي، يخص أهل اليسار السوداني كله أيضا، ومعه اليسار العربي برمته، باعتبار العلاقة التاريخية والمعاصرة بين حركات يسار المنطقة [11]، ألا وهو فيما يتعلق بمشكلة الشرق الأوسط، والماثلة في فلسطين واسرائيل.. بطبيعة الحال، كان اليسار السوداني، كيسار المنطقة العربية بكل توجهاته، منطويا تحت الراية الناصرية في سياستها مع دولة اسرائيل، من الوعيد الخاوي بـ"إلقاء اسرائيل في البحر" وما سواه من صور الإعلام العربي الرخيص.. وحين دعا الأستاذ محمود محمد طه، في سابقة مخالفة للقطيع في المنطقة، إلى إقامة سلام مع اسرائيل، يقوم على التفاوض المباشر بين العرب واسرائيل، بعيدا عن وساطات وتمثيلات الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في الأمم المتحدة، بدا هذا الأمر لأهل اليسار وكأنه الكفر عينه، أو دونه الكفر! لدرجة أن بعض منسوبي اليسار، في صورة سافرة، نظموا مظاهرات في أماكن محاضرات الأستاذ محمود، يهتفون فيها "محمود عميل صهيوني"! وفي حين كان العرب يتبعون صلف جمال عبدالناصر، وتنكره لحقائق الواقع، واستناده على دعم الاتحاد السوفيتي في وجه الولايات المتحدة التي استعداها في غير داع وبدون قوة تحميه، ما اضطره اضطرارا إلى اللجوء للاتحاد السوفيتي أكثر وأكثر، في ذلك الحين كان الأستاذ محمود يحاول أن يعلم يسار المنطقة، والجميع، كيفية القراءة السياسية الواقعية السليمة، فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد (أو لعلهم لم يستبينوه بعد).. وفي اطار المحاولة لفتح أنظار العرب ويسار المنطقة للمشكل الكبير في تحليلهم، صدر كتاب "مشكلة الشرق الأوسط" للأستاذ محمود، في أكتوبر 1967.. قام الأستاذ في هذا الكتاب بتحليل القضية إلى عناصرها الأولية، وبداياتها التاريخية، ومآلاتها المعاصرة، وأظهر فيها جهل منظومة يسار المنطقة في اعتمادهم على دعم الاتحاد السوفيتي الظاهر لهم، برغم أن الاتحاد السوفيتي كان من أول وأقوى المؤيدين – مع الولايات المتحدة، كنادرة اتفاق تاريخية بين الحكومتين – لقيام دولة اسرائيل في الشرق الأوسط، في هيئة الأمم المتحدة، وكيف أن العداء الغربي الذي كان للعرب لم يكن بسبب أن بعض الدول العربية، مثل مصر، أرادت أن تصبح اشتراكية، وإنما بسبب "أن مصر، حين أرادت أن تصبح اشتراكية، لم تعرف كيف تصبح اشتراكية بدون أن تصبح ماركسية، وخاضعة للنفوذ الروسى.. بمعنى آخر بدون أن تدخل في حلبة الحرب الباردة، وتصبح عظم نزاع بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية" (الكتاب، الفصل الثالث).. يروي الأستاذ محمود في كتابه هذا سلسلة الأخطاء الناصرية، منذ الطريقة غير المسؤولة التي أمم بها عبدالناصر قناة السويس، ما تداعى بالأحداث إلى استعدائه لقوى لا يملك لها قدرة مجابهة، وما جعله، بدل أن يتحمل مسؤولية مواقفه كالزعماء الحقيقيين، يلجأ للاتحاد السوفيتي كي ينقذه من الورطة التي تورط فيها، دون أن يعي أن الاتحاد السوفيتي هو قوة امبريالية أخرى، لها مصالح نفوذ وسيطرة على المنطقة، ومنافسة مع القوى الامبريالية الأخرى، وكيف كان انعكاس هذا الصلف على السياسة المتعسفة لعبدالناصر تجاه قضية اسرائيل، ومن ورائه بقية العرب، في حين كانت الأخيرة تبحث عن قنوات للتفاوض في ذلك الوقت مع العرب، ما أدى في النهاية إلى فقد العرب لفرصة حقيقية في تفاوض متكافئ نسبيا في ذلك الوقت من أجل السياسة المرحلية، وصاروا اليوم، كما هو واضح، يتفاوضون من كرسي الطرف الأضعف، الذي يبحث عن تسويات، رغم ما فيها من المهانة إلا أنها خير من لا شيء.. على العموم فإن هذا القول المبتسر لا يغني بتاتا عن الاطلاع على كتاب الأستاذ محمود المذكور أعلاه، وهو يتناول قضية حساسة ومؤثرة في المنطقة إلى اليوم، ما يوجب على المهتمين بهذه القضية، من الباحثين الجادين، قراءة مثل هذه الآراء التي مضت عليها عقود بدون أن تسلبها فاعليتها لليوم [12].. أردنا فقط، في هذا القول المبتسر، الإشارة الملخصة إلى صورة أخرى من صور الفشل في القراءة العلمية السليمة لعناصر اليسار في المنطقة، ومن ضمنهم، بالتأكيد، اليسار السوداني.