إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

من أجل الإشتراكية
الماركسية في السودان بين زمنين

قصي همرور


من أجل الاشتراكية
الماركسية في السودان بين زمنين


العنف وتزييف الديموقراطية


هنا نأتي للصور الشوهاء المضمنة في الفلسفة الماركسية لتصور العمل الثوري، وانعكاساتها النظرية والعملية في ممارسات اليسارالماركسي السوداني.. يواصل الأستاذ محمود محمد طه حديثه أعلاه في تناول نقاط ماركس، فيقول:

"نقطته الرابعة بتاعة: (العنف ، والقوة، هما الوسيلتان الوحيدتان لإحداث أي تغيير أساسي في المجتمع).. نقطته الخامسة بتاعة (دكتاتورية البروليتاريا). دي نقط كلها فيها ضعف.. وهي مما يمكنك أن تقول إنها مما وضع في ميزان سيئاته.. الموضوع وما فيه أنه هو ما بشوف، للخلف ولا للأمام، الوضع كله.. هناك في تطور جايي من الماضي ماشي للمستقبل بقوة، يمكنك أن تقول عنها إنها قوة صماء.. هذا التطور ماشي للإنسان.. الإنسان هو قمة التطور وليس للتطور في هذا المضمار نهاية (...) أنا أفتكر أن كارل ماركس، في جميع نقطه التي أسس عليها اشتراكيته العلمية، قد حجب عن كونها مرحلية، واتخذها كالمستديمة، وبنى عليها دراسة مستقبل التطور.. وهذا هو مكان الخطأ في فكره.. أما إن كانت دراسة لماضي التاريخ فإنها صحيحة.. ويمكنك أن تضعها في ميزان الحسنات.. لكن الماضي كونه ينسحب على المستقبل دا ما هو صحيح (...). أنا أحب أن يكون في تفريق في عبارته. هو قال: (العنف و القوة) ضروريتان. أما نحن فعندنا أن القوة ضرورية، لكن العنف ما ضروري.. أنا أفتكر أن ثورة أكتوبر تدينا مثل في ذلك. نحن في ثورة أكتوبر كنا قويين لكن ما كنا عنيفين.. القوة جاية من وحدة صفنا، حتى الإنسان الكان يمكن أن يكون عنيف ما استطاع أن يكون عنيفا.. فالقلة كانت بتملك السلاح، وكان يمكن أن توجهه ضد الشعب.. ولكن قوة الشعب أضعفتهم، وذهبت بعنفهم.. فإذا كان نحن ميزنا بين العنف والقوة، أنا أفتكر الطريق ينفتح قدامنا للتطور البشري الحقيقي (...) أنا أعتقد أن كارل ماركس ما كان عنده خيال كافي عن المستقبل. في نقص في فكرته عن المستقبل.. لقد كانت نظرته عملية، وكان يخاف من الخيال، ويتبرأ منه، بالصورة التي تركته يحاول أن يزحف على كل الأرض، بدون ما يكون عنده خيال واضح هو ماشي لي وين. اللهم إلا خيالا ً يستخلصه من الماضي. ودا هو أساس الضعف في جميع مسائله (...) هنا يقع وضع ماركس في الخطأ الكبير جداً، اللي هو ديمقراطية الطبقة المستغَلة، الطبقة العاملة.. أو ما أسماه باتحاد العمال، والمزارعين، والمثقفين الوطنيين.. دي فيها تزييف للديمقراطية مؤسف (...) التفكير المادي بقول إنو المادة سابقة على العقل في الوجود.. يعني المادة أكرم من العقل.. لاحظ أن النقطة دي هي الانبنى عليها كثير جداً.. كون العقل نتيجة للمادة دا معناهو أن المادة أكرم ما في الوجود.. المادة أكرم من العقل.. وهذا التفضيل ينسحب على الفرد.. المجتمع أهم من الفرد.. وتنسحب على مسألة الحرية الفردية.. وتجي معاها مسألة القطيع – مسألة الجماعة – ففي الماركسية الجماعة أهم من الفرد.. الحكاية بسيطة، وجات من ملابسات أنا أفتكر أنها سطحية جدا".

تجب الإشارة هنا إلى أن الأستاذ محمود قد علق في فقرة سابقة من محاضرته هذه على معلومة أن مفهوم "دكتاتورية البروليتاريا"، وتطبيقاته، أضافه لينين لقواعد الماركسية، لكن احتواء الماركسية على هذا المفهوم يكمن في أن أسسه قائمة في الفهم الماركسي قبل لينين، وما فعله لينين هو أنه أبرز هذا الفهم وبوّبه بصورة رسمية في المضمون الماركسي.. هذا لا يعني أن ماركس لم يذكر هذا المفهوم قط في حياته، فهو قد قال في رسالته "نقد برنامج قوتا" في العام 1875: "بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي هناك فترة من التمرحل الثوري من صورة مجتمعية لأخرى. استجابة لهذا، هناك أيضا مرحلة سياسية انتقالية لن تكون فيها الدولة غير الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا" (ترجمة الكاتب). من المهم جدا الانتباه لتفاصيل هذا الأمر، فالكثير من الشيوعيين اليوم يحاولون نسب هذا المفهوم للينين، كخطوة للتملص منه عن طريق البراءة من اللينينية، وهذا تكتيك فكري بائس، ويفتقد للشجاعة الأدبية.. ماركس لم يكن ينظر في مفهوم الدولة – حتى الديمقراطية – غير وسيلة تسيطر بها الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج على بقية الطبقات، كما انه كان يرفض فكرة تنظيم عمالي شامل، يجتمع فيه العمال لتدبر مصالحهم بكافة مشاربهم الأيديولوجية، ولينين لم يفعل هنا سوى أنه تشرب هذه الأفكار الماركسية، ومن ثم عرضها بصورة مبوّبة وواضحة في سياسة الدعوة لديكتاتورية البروليتاريا.. قد يقول البعض ان ماركس كان يؤيد العمل في داخل اطار القانون الديمقراطي للدولة للوصول لأهدافه الثورية، ولكن كيف يكون ديمقراطيا من يدعو للعمل في الاطار الديمقراطي من أجل الوصول لديكتاتورية، وإن كانت "ديكتاتورية البروليتاريا"؟

الديمقراطية فقدت معناها عند ماركس، لا لأنه لم يفهمها، لكن لأنه لم يتعرض لنموذج لها إلا من خلال التاريخ، والتاريخ لم تكن فيه ديمقراطية حقة في يوم من الأيام، في أثينا أو غيرها، عند النظر الدقيق، بيد أن الفكرة الديمقراطية هي فكرة تطورت تاريخيا بفضل العمل التخيلي المستمر للإنسان من أجل واقع أفضل في المستقبل، استنادا على قوانين ومظاهر من تجربته السابقة، لكن بدون التمترس خلف هذه القوانين والمظاهر بشكل مطبق.. لهذا ذكر الأستاذ محمود أن المشكل الرئيسي في ديلكتيك ماركس أنه يبني قواعده على قوانين حركة التاريخ دون السماح لمعادلات جديدة في التولد من رحم هذه الحركة (بعكس ديلكتيك هيقل)، رغم أن حركة التاريخ نفسها تفيد بان الخيال وإمكانية دخول معادلات جديدة في هذه الحركة هما عاملان أساسيان من عوامل معادلة التطور عبر التاريخ! والديمقراطية أيضا فقدت معناها عند ماركس لأنها مرتبطة أساسا بحق الفرد في المجتمع، وعند ماركس فإن المجتمع مقدم على الفرد تماما بشكل ليس منه فكاك، وفي هذا لم يفطن ماركس، في تحليله التاريخي، إلى أن الأفراد هم مخترعي المجتمع، وليس العكس، وهم قد اخترعوه ليستفيدوا منه، لا ليصبحوا مستعبدين له يد الدهر.. المجتمع عبارة عن "هدنة" يتواضع عليها أفراده، وبمقتضاها يتنازلون عن جزء من حرياتهم الشخصية في سبيل وضع نظام يحكم علاقاتهم ببعضهم في حيز زمكاني معين، وبذلك يستطيعون الاستفادة من فوائد هذه الهدنة في صور توفير الحماية وتخفيف أعباء الصراع من أجل حاجات وغرائز الجسد، من مأكل ومأوى وجنس (وللغريزة الجنسية – والغيرة الجنسية – أهمية قصوى في تنظيم المجتمعات، وقد أغفلتها الماركسية إغفالا يدل على قصور الرؤية [13])، وأيضا التمتع دون خوف بما تبقى من حرية لا يعارضها تنظيم المجتمع، وهي حرية تطورت وما زالت تتطور تدريجيا نحو السعة، في سعي متواصل للمزيد منها دون المساس بحقوق الآخرين في المجتمع (وهذه هي المعادلة التي أعيت الفلسفات الاجتماعية عبر الأزمان: كيف التوفيق بين حرية الفرد ومصلحة المجتمع).. من هذه البداية المنطقية لأسباب ظهور المجتمع (حتى من مرحلة الحيوانات الاجتماعية، كتطور على مرحلة الحيوانات ذات السعي الفردي)، أصبح التاريخ فيما بعد عبارة عن علاقة ديلكتيكية بين الفرد والمجتمع، يؤثر كلاهما فيها بالآخر ويتأثر به، في تطور مستمر، لم يزل.. والديمقراطية تُعنى أساسا بمدى حرية الفرد في المجتمع، وعند ماركس لا توجد حرية جوهرية للفرد في اطار المجتمع، لأن الكائن البشري عنده كائن مجتمعي في جوهره، لا يتعرف إلا بهويته الاجتماعية [14].. طريقة ماركس في التفكير المجتمعي، باختصار، تحمل في طياتها نفس مساوئ تغريب الإنسان التي عابها على المجتمع الطبقي ومفهوم الدين (ولهذه عودة).

أما عن تصور ماركس لضرورة "العنف الثوري"، وليس "القوة الثورية" فقط، فإن من العبث إنكاره، ومن العبث أيضا إنكار أن حركة التاريخ قد تجاوزته فعليا، وبأمثلة ناصعة من ثورة أكتوبر عندنا في السودان، ومن ثورة الشعب الهندي، بزعامة غاندي ومن حوله في حركة الساتياقراها، على الاستعمار البريطاني (وفي جنوب افريقيا أيضا قبل ذلك)، ومن ثورة الشعب الأمريكي الأسود بزعامة أمثال روزا باركس ومارتن لوثر كنق في أمريكا الشمالية، ومن ثورة سود جنوب افريقيا بقيادات من نوعية ستيف بيكو ونيلسون مانديلا وديسموند توتو (ورغم أن العنف لم يكن ملغيا تماما بعد في هذه الثورات، على تفاوته بينها، نظريا وفعليا، إلا أن تأثيره كان ثانويا، وكانت محصلة الانتصار من نصيب مجهود النضال السياسي المستمد قوته من التوحد الشعبي المستغني عن العنف).. لقد خلقت الحركة الثورية الإنسانية في المجتمع أساليب جديدة وفعالة، غير القديمة، في سبل النضال من أجل حقوقها، باستنادها على إرث إنساني طويل من التعامل مع خيارات العنف واللاعنف.

بعد هذا نأتي لانعكاسات هذه المفاهيم الماركسية المختلة على واقع الحركة الماركسية السودانية، بمتابعة صور من النقد الذاتي عند المنسوبين، تنظيميا أو فكريا، للحزب الشيوعي السوداني والماركسية، وردت في مجلة "قضايا سودانية" سالفة الذكر، وسنحاول عدم تكرير بعض الاستشهادات السابقة في هذه الورقة من المجلة المعنية والتي تصب في نفس مجرى ما نريد تناوله في هذه النقطة، لكن نتوقع أن يربط القارئ بينها، إذ أن الربط بينهما يسير وواضح، دون الحاجة للتكرار.

صور من قصة الماركسية في السودان

في صفحة 6 من المجلة المذكورة، يرد تلخيص لمقال في العدد الأول للدكتور محمد مراد، عن أسباب انهيار المعسكر الاشتراكي، وقد تلخصت في "غياب الديمقراطية كمنهج وأسلوب في الحكم وغياب الحرية واغتراب الجماهير"، وقد أشار فيه أيضا لأن بعض المفكرين والعلماء السوفيت "كانوا يدافعون عن القيم الرأسمالية وينظرون لمقدرة الرأسمالية على البقاء والتطور من منطلق التفكير السياسي الجديد والبروسترويكا"، كما أشار إلى مثال لكتاب آخرين في المعسكر الاشتراكي كانوا يتحدثون عن اضمحلال الطبقة العاملة، ويبشرون باشتراكية جديدة وأحزاب جديدة وتحالف مع الاشتراكية الديمقراطية.. في صفحة 9، في تلخيص لمقال نشر في العدد الثاني بعنوان "حول آفاق جديدة للاشتراكية"، من "عدد من الزملاء المقيمين ببولندا"، يدعون فيه – بعد الدعوة لتجاوز اللينينية لأنها "تناقض الماركسية" – إلى الوصول لنظرية ثورية جديدة، وأن ذلك "يستوجب الاستعانة بكل الوسائل والمناهج العلمية المتنورة في جميع العلوم، والانفتاح على التيارات اليسارية الأخرى، وتربية كادر علمي نقدي في الحزب".

يرد أيضا اقتراح "تغييرات في بنية الحزب التنظيمية تكفل تحوله إلى حزب جماهيري، كتقليص المركزية. وأن يكون أساس الانضمام للحزب هو قبول البرنامج وليس الأيدلوجية. والاعتراف بالتعددية الأيدلوجية داخل الحزب".. في صفحة 10، في تلخيص لحوار ورد مع الأستاذ يحيى صلاح الدين، أحد الباحثين في التاريخ السوداني، في العدد الثالث بعنوان "الموروث كرافد لنظرية الثورة السودانية"، يشير إلى تزايد اهتمام الحزب الشيوعي والحركة الثورية بقضايا التراث السوداني وجذوره، وارتفاع رايات العودة للجذور لاستنباط نظرية ثورية من واقع التراث السوداني.. في صفحة 15، في تلخيص لمقال كتبته "الزميلة نهى" بعنوان "لماذا انحسر وضع حزبنا الشيوعي رغم تضحياتنا"، تشير فيه إلى صور الجمود والتسلط في الحزب، وإلى أن "ظروف العمل السري في ظل الدكتاتوريات المتعاقبة قد نتج عنها انغلاق الحزب وانكماشه"، وتشير فيه أيضا إلى تقصير الحزب في نقد الفكر السلفي الديني وإهماله التركيز على الجانب الثوري في الإسلام، وأنه رغم ذلك لم ينقذ هذا الأمر الشيوعيين من تهمة الإلحاد (ولنا لهذه عودة)، كما ذكرت فيه أن مساهمة الحزب في دعم النقابات في إضراباتها المتعاقبة ساهم في إضعاف التجربة الديمقراطية الأخيرة.. في صفحة 17 تلخيص لمقال للدكتور فاروق محمد إبراهيم في العدد الرابع، يدعو فيه لقيام حزب ديمقراطي جديد، وينتقد فيه قيادة الحزب الشيوعي ويقول إن "أصولية الترابي والأخوان في السودان، هي رد فعل مباشر لأصولية عبد الخالق والحزب الشيوعي"، ويذكر فيه أيضا خطأ القناعة بأن الطبقة العاملة هي الرسول التاريخي الذي يحرر البشرية، كما أن عقيدة الاستقطاب الطبقي لا الثقافي لا تجد سندا في الواقع السوداني الراهن (ولنا هنا أن نتسائل.. هل شاركت الطبقة العاملة، إلى اليوم، مشاركة حقيقية وأصيلة في مشاريع الأحزاب الشيوعية، وهي التي تسمي نفسها "أحزاب الطبقة العاملة"؟)، وأشار الدكتور أيضا إلى الصراعات الشخصية داخل الحزب ما أدى للانقسامات وعادات الاغتيال الشخصي.

في صفحة 22 يرد تلخيص لمقال كتبه "جون" بعنوان "نظرية جديدة للثورة السودانية"، ورد في العدد الخامس، يشير فيه إلى مقال د. فاروق إبراهيم في العدد السابق، ويشير فيه أيضا لوثيقة "الشيوعي 157" التي تقول إن "لا أمل للحزب في ظل نظريته وبرنامجه وبنيته التنظيمية وتوجهاته الاجتماعية والسياسية وأساليب عمله الحالية" (فماذا تبقى؟)، كما ذكر فيه أن ماركس "لم يجزم بأن نظريته هي نهاية العلم والمعرفة"، ثم يقول إنه يجب عموما الاعتراف بدور الطبقات والفئات الأخرى في الثورة، وأن نتوصل إلى "نظرية بديلة" تسمح بذلك.. في صفحة 25 نجد فرع الحزب الشيوعي ببولندا يعلن تأييده لوثيقة "الشيوعي 157"، ويصفها بأنها "تقدم طرحا متكاملا لأزمة الماركسية، ولأثر منهج الجمود في الحزب الشيوعي السوداني، وأنها تحاول أن تفسر هاتين الظاهرتين بصورة علمية، وبأمثلة من الواقع، وتخلص إلى تصور متكامل لخروج من الأزمة" (تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الوثيقة من كتابة الأستاذ الخاتم عدلان، بحسب ما ذكر حيدر الجاك، في صفحة 32 من نفس المجلة، ولم يرد أي تصحيح أو اعتراض على هذه المعلومة في المجلة).. في صفحة 29 تلخيص لمقال بعنوان "الماركسية والدين" لكاتبه "جون" في العدد السادس، وهو عبارة عن مواصلة لمقاله السابق في العدد الخامس، "ولا يظن الزميل جون، أن أحدا منا، ينكر عمق الدين في وجدان الشعب السوداني في التاريخ البعيد والقريب والحاضر. إن الدين كان العنصر الرئيسي الذي وحد كيان السودان، على الرغم من عناصر الشتات الكثيرة أيام المهدي. وإنه كان أحد العناصر الرئيسية التي استخدمتها الجبهة الإسلامية في القفز للسلطة. كما كان دائما وأبدا العنصر السلبي الذي استخدمه أعداء الحزب طوال ما يقارب الخمسين عام الماضية في محاربته. لقد كانت معالجتنا لهذه القضية تهتم بالمظهر وليس الجوهر، وما وصلت إلى مستوى الاعتراف بأثر الدين في حياة الشعب، واعتباره جزءا أصيلا من تراثه. ومن الناحية الفلسفية، نجد المنتمي للدين الإسلامي، يؤمن بموضوعية الأشياء، وتطورها نتيجة لقوانين وأسباب محددة. فهو يؤمن بقانون السببية وبكل القوانين العلمية. بل إن الدين يدعو إلى العلم بمعناه العام، وإلى إعمار الأرض، والسعي والعمل. وساهمت الحضارة الإسلامية في إخراج أوروبا من ظلمات العصور الوسطى. وقد قادت المكتشفات العلمية الجديدة إلى إثبات أن الأساس الذي قامت عليه النظرية المادية قد اهتز، وبالتالي يجب علينا أن نراجع هذا الأساس على ضوء ما استجد من العلم. وهو ما يدعونا إليه الفكر الماركسي أصلا، قبل انغلاقه وتجمده. وتبقى الحقيقة نسبيا صحيحة حسب معطيات واقع الحال" (اقتبسنا هذا الحديث الطويل بعض الشيء لاعتبار شهادة كاتبه، رغم مابه من إقحام للماركسية في الدعوة لمراجعة النظرية المادية)، وختاما ذكر بأن الماركسية منهج وليست عقيدة جامدة (؟).. في صفحة 31 نجد تلخيص مقال من العدد السابع للدكتورة فاطمة بابكر، تقول فيه تحت فقرة بعنوان "في نقد الماركسية والمعسكر الاشتراكي" أن الانتقادات السابقة من مفكرين غربيين للمعسكر الاشتراكي لم تكن كلها من مواقف عدائية، والكثير منها كان صائبا ومفيدا، مثل غياب الديمقراطية في المعسكر الاشتراكي، وصفوية الحزب الشيوعي والطبقة الجديدة (والدكتور فاطمة لها مساهمة في نقد الجمود الماركسي تجاه قضية المرأة، في كتابها "المرأة الافريقية بين الإرث والحداثة").

في الصفحتين 31 و32، للكاتب محمد، "يعتقد محمد أننا كحزب نقف في مفترق الطرق نظريا وأيدلوجيا. ومن ثم فنحن نمر بأزمة لا تفيد معها محاولات التهوين والتقليل من شأنها. فالماركسية بعد الانهيار أصبحت مهزوزة وغير عصرية. ولكن السؤال الذي أتت به الماركسية ما زال مطروحا.. كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان" (وهنا نتسائل.. هل الماركسية هي من أتت بهذا السؤال، أم أنه مطروح منذ بدء التاريخ؟).. في صفحة 40 يعود الكاتب "جون" في العدد التاسع، ويلخص فيه أفكاره السابقة "التي أكدتها، حسب تقديره، المساهمات الأخرى، وفحواها أن أساس مشكلة الانهيار، هو النظر للماركسية لا كمنهج علمي للبحث عن الحقيقة، وإنما كنظرية متكاملة لديها علم الماضي والحاضر والمستقبل" (؟)، ويقول أيضا "كما من الصعب الجزم بصحة نتائج تطبيق المنهج المادي الجدلي بشكل قاطع، لا نسبي، في حال العلوم الإنسانية. ويؤكد الزميل أنه لا وجود لتفكير مثالي صرف حتى في الدين. وقد ساهم في هذا الاتجاه الأستاذ حسين مروة في "النزعات..". ومن ناحية أخرى، فإن الماركسية قد أثبتت الكثير من النزعات المثالية خصوصا في موضوع الحتمية التاريخية. ولذلك يعتقد الزميل جون، أن التخلي عن الجانب المادي في الماركسية، سيرفع من قوة جذبها. وبذلك تتوافق مع الدين في الدعوة للفضيلة والحق والمساواة" (!)، وفي نهاية التلخيص "ينتقل الزميل للرد على تساؤل: هل يعني هذا أننا نرفض كل التجربة الماضية للحزب؟ وللرد على هذا التساؤل لم يجد الزميل أفضل مما أورده الشيوعي 157 تحت عنوان "لمحات من سيرة الحزب"، فاقتطفه في مقاله، وهو عموما يثبت أن للحزب تراثا نضاليا يفخر ويعتز به الشيوعيون".. بطبيعة الحال لا ننسى هنا الإشارة العامة إلى صورة التبرؤ الشديد من الستالينية، لدرجة تصويرها على أنها لا تمت للماركسية بصلة، تبعا لما فعله الاتحاد السوفيتي بعد موت ستالين [15].

نلاحظ في آخر فقرة مقتبسة من هذه التلخيصات لنقاشات دارت في هذه المجلة منذ سبتمبر 1993 وحتى يوليو 1998 (والتي نتابع بعض صور استمرارها ودورانها حول نفسها، عبر ما نراه من سياسات الحزب الشيوعي ومواقفه المعلنة مؤخرا، وبشهادات الكثير من منسوبيه ممن نقرأ لهم ونحاورهم عبر قنوات التواصل المتنوعة)، نلاحظ في هذه الفقرة أن هذا النقد المر لهذه التجربة – وفيه حسنة من الصدق عند مجموعة من الأقلام – قد جعل أهل الحزب الشيوعي يتساءلون "هل يعني هذا أننا نرفض كل التجربة الماضية للحزب؟"، وهو سؤال عبرت عنه أقلام عدة في المجلة بصور مختلفة، وذلك استشعارا لحجم ما كان من إخفاقات التجربة، على طول سنينها، بصورة جعلت هذا السؤال حاضرا في الأذهان بقوة، على أمل الوصول لمخرج مريح من هذا المأزق.. نحن الآن لا نريد أن نوجه الكثير من النقد للكتابات المقتبسة أعلاه، إذ أن ما فيها من نقد ذاتي يكفي، في مجمله، ليعرض الصورة التي نريد عرضها لهذه المشكلة الأساسية في الفلسفة الماركسية التي أدت لهذه الانعكاسات على واقع سياسات التنظيمات الماركسية.. المشكلة اليوم أن الكثير من الماركسيين يصرون على عدم الالتفات لأن هذه الإخفاقات سببها خلل واضح في الماركسية نفسها (مما ذكرنا وفصلنا من قبل هنا، وما سنفصل فيه أكثر بعد قليل)، ويؤثرون على ذلك الالتواء في صور تعريف الماركسية على أنها "دليل عمل" و"منهج" فقط، وأن غياب الديمقراطية والحرية في المعسكر الاشتراكي وسياسة الحزب الشيوعي لم تكن سوى أخطاء في الممارسة وليس في جوهر الفلسفة المتبناة، وكل هذا لا يجتاز حيز المكابرة.. ما هو موقف الماركسيين اليوم حقا من قضايا العنف والديمقراطية والواقع العالمي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الجديد الذي لا يشبه ما تصورته الماركسية؟ فإن كانوا لا يزالون يؤيدون النظرة الماركسية لها فهذه مشكلة كبرى، وإن كانوا لا يؤيدونها ويصرون على أن يسموا أنفسهم ماركسيين، فهذه كتلك.. بعد كل هذه السنين منذ عام 1998، ما هي التجديدات التي طرأت على برنامج ورؤية الحزب الشيوعي السوداني على ضوء النقاشات التي أوردنا أمثلة لها أعلاه؟ أم أن قضية النقاشات هذه ليست سوى نوع من التنفيس للناس ليقولوا ما يريدون قوله وكفى؟ إن مما يمكن أن نلاحظة من الكتابات المقتبسة أعلاه – ولها ما يماثلها في كتابات وحوارات كثيرة أخرى وقعت عليها أنظارنا عبر السنوات الماضية لأسماء متنوعة في معسكر اليسار الماركسي – أن مجموعها من النقد إنما يشير إلى أن هناك أزمة جامعة لكافة تنظيرات وسياسات الحزب الشيوعي السوداني، وبشهادة أهله، فإذا كان الحزب الشيوعي مثقلا بكل هذا الإرث المذموم من أهله أنفسهم، كبارهم وصغارهم (رغم احترامنا لمحاسنه التي قدمها في سياقه التاريخي)، فعلام التمسك الآن بنفس الصيغة القديمة المهترئة؟ بل علام التمسك بالمرجعية الفكرية عند الشيوعيين بعد كل هذا النقد الموجه لها من جانبهم أنفسهم؟ هل سيجيب أهل اليسار الماركسي إجابة شافية على هذه الأسئلة، أم سيؤثرون مواصلة المكابرة كدرع خفيف يحتمون ورائه من مواجهة النفس والجماهير بشجاعة فيما بقي من السنون؟