إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

من أجل الإشتراكية
الماركسية في السودان بين زمنين

قصي همرور


من أجل الاشتراكية
الماركسية في السودان بين زمنين


الماركسية والميتافيزيقيا


أما "السيئة التي رجحت بجميع حسنات الماركسية"، كما عبر الأستاذ محمود، فهي ها هنا.. نواصل من كتاب الأستاذ "الماركسية في الميزان"، إلى قوله:

"لكن في حاجة أساسية هي برضو فاتت على كارل ماركس، لأن نظره للمستقبل ما هو كافي.. هي إنو هناك عقل سابق على المادة.. هذا العقل السابق على المادة نحن دلايل عليه.. المسألة النحن بنقولها هي هكذا: نحن هسع عندنا عقولنا، فإذا كنت أنا عاوز أعمل التربيزة دي [مشيرا إلى التربيزة التي أمامه] لابد أن يكون عندي علم بيها، بعدين هذا العلم لابد ليه أن يتركز، وينضج لغاية ما بيه أخصص، وأحدد صورتها (...) الصورة دي بتحدد تماماً لما آخذ ورقة وأكتب مقاساتها – القرصة مقاسها قدر شنو؟؟ وارتفاع المنصة قدر شنو؟؟ والقوائم حجمها شنو؟؟ بعدين أتحرك في النجارة، وأنفذها.. ثلاث حركات.. العمل النحنا بنشوفه بارز بالصورة دي مسبوق بحركات داخلية.. هذه الحركات هي أنك تعلم، وأنك تريد، وأنك تقدر.. ولذلك ربنا وصف نفسه تعالى فقال: العالم، المريد، القادر.. بالثلاثة أسماء دي ظهر الوجود. طيب!! المنصة دي، قبل أنا ما أعملها، أنت ماك عارف عنها أي حاجة.. أنت ما عرفتها إلا لما اتحركت الحركة الثالثة، وظهرت.. لما كانت علم، عندي أنا، أنت ما عندك بيها خبر.. يجوز لما كانت إرادة، إذا كان أنا خططتها في الورقة (ومش شرط أنا دايماً أخططها)، لكن إذا كان أنا خططتها في الورقة، بيكون أنت عندك خبر بيها.. أنت لأنك بتشوف صورتها.. ولكنك أنت برضك بتكون عاوز تشوف صورتها دي بارزة في الخشب.. هي هي، قبل ما تكون بارزة في الخشب بالصورة دي، ما كانت في؟؟ حقاً، وحتماً، كانت في!! ولكنها غير ظاهرة لينا نحن. طيب!! إذا كان الوجود دا، بي صورته دي، نحن انبثقنا منو كعقول تعلم، وتريد، وتقدر (تنفذ)، هل الوجود دا ما يمكن أن يكون برز عن ثلاث مستويات من الحركة برضو؟؟ هل ما يمكن أن نقول، إذن، أنا فكري دايماً هو محاكاة، وانطباع، لفكر سابق. النقطة التي تورط فيها كارل ماركس إنما هي إنكاره لي أن يكون هناك فكر سابق (...) يبقى من البداهة إنو المادة النحن بنتكلم عنها قد تكون هي صورة لي عقل أكبر من عقولنا.. و دا هو الحق اللي ذهل عنو صاحبنا.. المادة سابقة للعقل البشري، ولكنها لاحقة للعقل الإلهي.. هذا هو الموضوع الحساس الفيه المفارقة كلها بتاعة الماركسية.. (...) ومنها يتضح أن هيقل الذي هو، عند ماركس، فيلسوف حالم، ومثالي، هو، في الحقيقة، أقرب إلى الصواب من ماركس، الذي هو فيلسوف مادي".

بتحليل "هندسي" مبسط، ومتنزل لأرض الواقع اليومي، في لغة وتفاصيل تألفها كل المستويات العقلية، يوضح الأستاذ محمود هنا أكبر مشاكل الماركسية.. يقول ماركس، في الطبعة الألمانية الثانية من "رأس المال": "إن منهجي الديلكتيكي لا يختلف عن المنهج الهيقلي فحسب، بل هو ضده تماماً. عند هيقل أن حركة الحياة في العقل البشري – أي حركة الفكر، ويطلق عليها إسم "الفكرة" ومن ثم يجعلها مستقلة – هي في نظره خالق الواقع وصانعه، وعنده ما الواقع إلا الشكل الحادث للفكرة. أما عندي، فعلى العكس، فحركة الفكر – الفكرة – ليست سوى انعكاس للحركة الواقعية المادية، منقولة إلى دماغ الإنسان، ومستقرة فيه في صورة الفكر" (ترجمة الكاتب).

لماذا كانت هذه النقطة هي السيئة التي عصفت بجميع حسنات الماركسية؟ لأنها سبب الجمود والعقائدية الغليظة التي اتسمت بها الماركسية عبر تجربتها التاريخية، لأنها، منذ الوهلة الأولى، ترسم تصورا ضيقا لحيز الوجود واحتمالاته الفكرية والعملية، ومناقضا لبداهات الواقع المعاش فيه.. ماركس، بهذه الخطيئة الفكرية، اتخذ من جهله فضيلة، إذ أنه عندما عجز عن إدراك العقل السابق للمادة، ذهب ليجعل العجز فضيلة، فرفض وجود هذا العقل، كما قال الأستاذ محمود.. الماركسية، منذ الوهلة الأولى، تقتضي الإلحاد! لأنها ترفض أي وجود لما وراء المادة، بل ولا يصح فيها أي تفسير لأي ظاهرة طبيعية إذا لم يكن يعتمد الإلحاد.. لهذا، فإن محاولات تعديل موقف ماركس من الدين، وتشذيبه اليوم (كما شاهدنا في بعض نماذج الكتابات المقتبسة أعلاه من منسوبي الماركسية)، لا يلقى غير الإنكار من ماركس نفسه! ولماركس نصوص كتابية كثيرة قيلت في نهاية الميتافيزيقيا وهزيمة الدين.. صحيح أن ماركس قد أعطي لمفهوم الدين قيمة في حركة التاريخ، ولكنه لم يقيمه إلا تقييما ماديا بحتا! وهو، من ثم، ذهب ليقول بأن مفهوم الدين من المفاهيم التي صاحبت البشرية في عهد طفولتها الفكرية، وهو، من ثم، يصبح اليوم من مخلفات التاريخ التي لا يقبلها الواقع المعاصر والمجتمع الشيوعي المرتقب.. ماركس يعتقد، وبثقة زائدة، أنه قد هزم مفهوم الدين هزيمة تامة.

في مقدمة كتابه "نقد فلسفة الحق عند هيقل"، يضع ماركس رأيه الواضح في هزيمة المفهوم الديني بفعل حركة التاريخ [16]، وفي كتابات أخرى، كـ"العائلة المقدسة"، يتابع تاريخيا حركة التطور الفكري التي استطاعت، بزعمه، هزيمة الميتافيزيقيا، وصولا لعهد "علمي" في تاريخ الفلسفة الأوروبية [17].. نورد أدناه بعض المزيد من طريقة ماركس في القراءة التاريخية التي جعلته يتورط في هذا التقرير.

في "العائلة المقدسة"، يقول ماركس في إحدى الفقرات، عن انتصار الفلسفة المادية في فرنسا: "وفي الحقيقة، فإن سقوط ميتافيزيقيا القرن السابع عشر يمكن أن يفسر بواسطة مادية القرن الثامن عشر فقط حينما تفسر هذه الحركة النظرية [أي مادية القرن الثامن عشر] نفسها عن طريق الطبيعة العملية للحياة الفرنسية في تلك الفترة. تلك الحياة تحولت للحاضر المباشر، المتعة والاهتمامات الدنيوية، الدنيوية "الأرضية". ممارساتها الضد ثيولوجية، ضد ميتافيزيقية، تطلبت نظريات مادية، ضد ثيولوجية وضد ميتافيزيقية. الميتافيزيقيا فقدت صلاحيتها عمليا. هنا نحن فقط نحاول أن نشير تلخيصيا للحركة النظرية التي استجابت لهذا الواقع العملي" (ترجمة الكاتب).. إن كان هذا هو منطق ماركس.. إن كان السبب في نهوض الفكر المادي وانتصاره على الميتافيزيقيا في أوروبا هو تحول المجتمع للمادية وتجاهل الميتافيزيقيا، فماذا كان قول ماركس عن المجتمعات التي كان الدين ما يزال فيها فاعلا يوميا، ولم يزل؟ وماذا كان سيقول عن موجة الروحانية والتدين، بصورها ومستوياتها المتعددة، التي عادت تغزو أوروبا والعالم الأول عموما هذه الأيام؟ هل هي عودة للميتافيزيقيا؟ فكيف تكون قد انهزمت وفقدت صلاحيتها إذن؟ هل سيعيدنا هذا لأن ماركس لم يستطع قراءة المستقبل بسبب ضيق خياله؟ وهل سيعيدنا هذا لإرهاصات الأستاذ محمود، في قراءته "الواقعية العلمية" عن سير البشرية المستمر، عبر الماضي والحاضر والمستقبل، على قدمي المادة والروح، حيث إن تأخر الحالة الروحية، في فترة تاريخية ما، لا يعني اختفائها، وكذا الحالة المادية، وإنما يعني تقديم قدم على الأخرى، كما في حالة المشي، ما يعني أن القدم الأخرى ستتقدم بعد حين؟ وعليه فإنه كما توجد ثورات مجتمعية مادية، فهناك أيضا ثورات روحية، مستمرة ومتفاعلة مع الأخرى، وبشهادة التاريخ؟

ورغم تقريره العام لكون أن حركة التاريخ المجتمعي هي حركة غير قابلة للتغيير البشري، وإنما على البشر أن يتفاعلوا معها ويعوها ليأخذوا موقعهم كانعكاس لصورة الوعي فيها، حتى يتخلصوا من حالة الاغتراب، إلا أنه يعود ويقرر مرات أخرى، في مناسبات متفرقة، أن السرعة والبطء في حركة التاريخ تعتمد على الحوادث (accidents)، ومن ضمنها حوادث الشخصيات التي تتولى القيادات الرمزية لمجتمعات العصور [18].. أولم يكن قد قال ان هذه "الشخصيات" لا تتشكل بغير انعكاسات الواقع عليها؟ وبالتالي فليس هناك حوادث خارجة عما تفرضه حركة الواقع؟ أم ان التصور الضيق لعلاقة الإنسان ببيئته والوجود عموما لم يسعفه هنا في فهم هذه المعضلة الفلسفية؟ أم لعله المعيار القديم الذي لا يخيب أبدا، وهو ان أي فلسفة ناقصة في تصورها للوجود لا يمكن أن تكون متسقة مع نفسها مهما حاولت؟ هذا علاوة على أن أصل منهج ماركس، المادي الديلكتيكي، هو المنهج "الديلكتيكي" الهيقلي، والذي هو منهج ميتافيزيقي، في تصوره وأساليب تحليله، ولهذا لم يستطع ماركس، رغم ماديته العارمة، أن يقضي على الصورة الميتافيزيقية في فلسفته.. أو ليست "الحتمية التاريخية" مفهوم ميتافيزيقي الأصل؟ بلى! عند التدقيق، وأليست قيم التضحية بالمصالح الشخصية الآنية الضيقة في سبيل مصلحة الجماعة البشرية مستقبليا، كما هي عند الماركسية، قيمة ميتافيزيقية الأصل والفصل، لم يفعل ماركس سوى أن استعارها كما هي من الأخلاقيات المعتمدة على التصور الميتافيزيقي؟ بلى!

وفي مفارقة خفية أخرى، يصطلح ماركس على المجتمعات قبل مرحلة الشيوعية بـ"مجتمعات ما قبل التاريخ" [19]، في إشارة منه لأن التاريخ الحقيقي للمجتمع الإنساني إنما يبدأ بالمجتمع الشيوعي القادم. أليست هذه هي نفس طريقة التفكير التي عابها ماركس عند هيقل والميتافيزيقيين عموما؟ أليست هي النظرة لأن الإنسان، عبر التاريخ، في سيرورته إنما يهدف للوصول لغاية عليا، غير متوفرة الآن، ولكن الإيمان بها وبقدومها ضروري؟ هل أخطأ، ياترى، القائلون بأن ماركس إنما استعار يوتوبيا الجنة، كما هي عند الميتافيزيقيا، ليضفي عليها تقاطيعه الخاصة، ومن ثم يصنع دينه وميتافيزيقيته الخاصة ويتنكر لمصدرها الذي استلهمها منه؟ ماركس، بوعي أو بغير وعي، استخدم التحليل المادي ليصل عبره إلى "مثاليته" الخاصة، ولم ينس في طريقه ذاك أن يحاول إقصاء المثاليات الأخرى بأن ينعتها بـ"المثالية" (بمعنى عدم الواقعية والعلمية)، وهيهات.

هذا الإشكال في المادية الماركسية لم ينطل دوما على أتباع ماركس، عبر تاريخ قياداتهم الفكرية، وغير القيادات، لدرجة جعلت موجة اعتناق الشيوعيين السودانيين للطرق الصوفية – والتي تجلت بغزارة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي – تسترعي انتباه أحد الأسماء معروفة في حقل الدراسات الاجتماعية السودانية [20].. هذا يحسب لهم، لا عليهم، في جملته، لأن إدراك وجود خلل ما هو أول مراحل حله، وإن لم يكن هذا الحل موجودا عند صور التصوف والتدين التقليدية.. الدكتور والتر رودني، في تناوله لمفهوم الدين، وهو يقوم بتحليل مبسط للعناصر الأساسية لثقافة المجتمعات الافريقية قبل الاستعمار، يقول عموما عن الفلاسفة الدينيين إنهم "تخصصوا في محاولة شرح الأشياء التي تقع خارج إطار الاستيعاب المباشر" [21] (ترجمة الكاتب).. وهذا وصف، رغم قصوره، إلا أنه أكثر تواضعا معرفيا مما هو عند ماركس، وبالتالي أكثر "علمية" منه (حين تكون إحدى أهم أسس المنهج العلمي تقتضي أن لا ننكر الأشياء لمجرد أننا عجزنا عن إدراكها)، ورودني، بحكم دقة دراسته للوضع الاجتماعي الافريقي، عرف أنه لا يمكن أن يتعامل مع تاريخ وحاضرالدين في القارة الافريقية كما تعامل معه ماركس في أوروبا، وأن نظرة ماركس الأوروبية، في سياقها الزمكاني، للدين لا تنطبق على بقية أرجاء العالم، ولنا لهذه النقطة عودة.

أين المصلحة في تجاهل دور الدين؟

لنا بعد هذا أن نتساءل، كما تساءل قبلنا بعض الماركسيين أنفسهم عبر تاريخهم (ولنا أمثلة مذكورة أعلاه في اقتباساتنا).. أين كانت مصلحة الماركسية في تسفيه الجانب الثوري والأخلاقي في الدين؟ وما هو البديل الذي قدمته؟ ألا يستطيع قراء التاريخ، ماركسيين كانوا أم غير ذلك، سودانيين أم غير ذلك، أن يروا بوضوح إعلاء قيمة الجانب الثوري من أجل العدالة في الدين؟ ألا يقرؤون، بالنسبة للإسلام مثلا (وليس الإسلام وحده)، في نصوصه المقدسة الكثيرة، المتبوعة بالممارسات التجسيدية التاريخية العديدة لرموزه عبر التاريخ، كيف هي قيم العدل والتواضع والتحريض على نصرة المظلومين وذم الاستحواذ على الثروة؟ نجد في القرآن الكريم آيات مثل: ((وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا))، وأيضا: ((يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم))، وأيضا، في قصة لسيدنا داوود، تحدث عبرتها عن نفسها: ((وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم فقالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب)).. هذا علاوة على أن التكافل الاقتصادي في المجتمع مدعوم في الإسلام بفرض الواجب الديني، وهو واجب مقرون دوما مع الواجبات الدينية الأساسية، كالصلاة، كقول الآية الكريمة: ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير))، وهذا غيض من فيض، كما أن الخليفة الأول أبابكر الصديق لم يفرق بين تارك الصلاة وتارك الزكاة في حروب الردة، حين قال قولته الشهيرة: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال.. والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه"، فهل كان أبوبكر هنا واعيا لقيمة نواة الاشتراكية في الإسلام، وهي الزكاة وحق الجماعة في مال الأفراد، وأن التفريط فيها تماما كالتفريط في الأركان التعبدية للدين؟ تشهد الكلمات والمواقف، لأمثال هؤلاء النفر الكريم، لنفسها بنفسها. والقائمة تطول، ولكن لنأتي الآن لأقوال نبينا الكريم محمد، حين قال: "يا آل محمد. أنتم أول من يجوع وآخر من يشبع"، وحين قال: "إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد"، وحين قال: "كان الأشعريون إذا أملقوا، أو كانوا على سفر، فرشوا ثوبا، فوضعوا عليه ما عندهم من زاد، فاقتسموه بالسوية، أولئك قوم أنا منهم وهم مني"، وحين قال في حجة الوداع لرجلين أتياه وهو يوزع الصدقة، فسألاه، فنظر إليهما ليتأكد من حاجتهما، ثم قال: "إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب"، وحين قال أيضا: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا". وهناك أقوال كثيرة، منها ما للإمام علي (لو كان الفقر رجلا، لقتلته)، وما إلى ذلك.. هذا إضافة إلى التجسيد الجليل لهذه المعاني، في حياة النبي وفي حياة كبار أصحابه وبقية رموز الإسلام عبر التاريخ، من السادة الصوفية ومن شابههم.

هل أهمل الدين الجانب المادي في الرحلة البشرية؟ لا يقول بذلك إلا ناقص نظر.. الدين، ببساطة، لا يتجاهل الجانب المادي في الحياة، في سيرورتها نحو كمال المطلق، ولكنه لا يقف عنده فقط، لأن قيمة الإنسان عنده أكبر من أي قيمة مادية مجردة من المعنى الجوهري للوجود، في مشوار السير نحو الحقيقة التي هي قدر الإنسان، لأنها هو، منها صدر وإليها يعود، ولهذا قال سيدنا المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان".. كما أن الدين، رغم دعوته الواضحة والقوية للعدالة والمساواة الكاملة بين البشر، إلا أنه أيضا أعطى اعتباره لسيرورة التاريخ، ولم يسع لإلغاء التجربة التاريخية للبشر، أو لاستعجال تجاوز مراحلها، وهي التي بها يكون تعليمهم معاني وجودهم أكثر وأكثر، ولهذا كان يتنزل دوما بصور تشريعية تستوفي حاجات السياق الزمكاني، بلا وكس أو شطط، ومن ثم يبقي الأنظار والأخيلة مفتوحة للمستقبل واحتمالاته (ونحن هنا لا نتحدث عن الدين الأصولي – مصدر الهوس الديني – بالتأكيد، وإنما عن القيمة العملية والمعنوية في الدعوة الإنسانية الكلية الماثلة في الدين [22])، ما يدل على أنه فكر تطوري ومستمر، حين يتعرض له الوعي المدرك للأصول القائمة وراء ظواهر الشكول.. الأفكار الإنسانية عموما، سواء كانت دينية أم غير ذلك، لا تحدد مدة صلاحيتها كالأطعمة المعلبة (حسب تاريخ الإنتاج)، وإنما بقدرتها على المواكبة وتقديم الحلول بصورة مستمرة لكل متشكل جديد، في حيواتنا الفردية والمجتمعية.



أمثلة نقدية لكتابات يسارية

في مقال له عن أزمة اليسار والسلفيين في السودان والمنطقة عموما، يقول الدكتور حيدر إبراهيم، كتلخيص لنقده للحركات اليسارية والدينية: "مازال المستقبل لليسار لسبب بسيط هو أن المستقبل للاشتراكية والحركات الدينية والسلفية لها دور هام هو التأكيد على الجانب الاخلاقي في الاشتراكية ولكنها غير قادرة ولا تدعي انها تسعى لتحقيق الاشتراكية في الشرق" [23].. انتبه الدكتور حيدر هنا لأهمية الدين، ولكنه بعد ذلك أتى ليطرق بابه الذي أغلقه الزمان، أي الباب السلفي، بكل صور الفهم السلفي، فهل، يا ترى، لم يسمع الدكتور حيدر بحركات دينية داعمة للاشتراكية سياسيا وعمليا في السودان؟ فعلام إذن يشير لأن الحركات الدينية "والسلفية" لها دور هام هو "تأكيد الجانب الأخلاقي في الاشتراكية" فقط؟ هل للحركات السلفية حقا أهمية تستوجب وجودها في الشرق؟ وهل حقا لا تملك أي حركة دينية – بل "ولا تدعي" – القدرة والسعى لتحقيق الاشتراكية في الشرق؟ هل سقطت الحركة الجمهورية، مثلا، من حسابات الدكتور حيدر، كباحث سوداني ذي باع كبير؟ فإن لم تكن سقطت، فلم يتجاهلها في مثل خطابه هذا وكأنها غير موجودة، بدليل تركيزه على أن الحركات الدينية لا تقدر "ولا تدعي" أنها تسعى لتطبيق الاشتراكية؟ وأيضا ماهي المصلحة في تهميش الجانب الأخلاقي من الاشتراكية، كجانب ثانوي في مقابل أدوات السعي "العلمي" لتحقيق الاشتراكية، كما جرى وصف الدكتور حيدر في مقاله؟ أوليست الفكرة الاشتراكية نفسها فكرة قائمة على تصور أخلاقي، أولا وأخيرا؟ أوليست الأساليب الناجعة في توطين الأخلاق العليا في المجتمع أساليب علمية أساسية؟

وفي اتجاه آخر، أسوأ بما لا يقارن، قرأنا قبل فترة ليست بالبعيدة، مقالات الدكتور عبدالله علي إبراهيم – أحد رموز الماركسية في السودان – التي نشرت في جريدة الرأي العام في أبريل من العام 2003، والتي دعا فيها لتحكيم الشريعة الإسلامية على رؤوس الأشهاد! وأشفع دعوته بعذر أقبح من ذنب، في قوله: "أريد في المقالات التي أنشرها متتابعة أن أرد الشريعة الى مطلبها الحق أن تكون مصدراً للقوانين في بلد للمسلمين. ولست أرى في مطلبها هذا بأساً أو ظلماً لغير المسلمين. فهي عندي مما يسع التشريع الوطني العام ويهش له متى خلا دعاتها من نازعة "الوطنية الاسلامية" وبذلوا سماحتها للوطن لا يفرقون بين أهله متوسلين إلى ذلك بحرفة القانون عارضين اجتهادهم من خلال مؤسسات التشريع بالدولة. ولست أدعي علماُ فيما يجد غير أنني أتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب وذوق المشرعين بها من قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وما تلاه في ترتيب قوانين التزمت خير الأسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها. وهي ما أسميه التقليد الشرعي السوداني 1898-1983". هنا، أساء الدكتور للشريعة الإسلامية مرتين.. مرة حين ظن أنها مناسبة لأن تكون مصدرا للقوانين في "بلد المسلمين" في هذا الزمن، وأن ذلك ليس فيه "بأسا أو ظلما لغير المسلمين"، وهذه فرية عظمى، لا تدل سوى على سوء وقصور فهم بالغ للشريعة الإسلامية، ومرة حين نسب الشريعة وألصقها أوسمة شرف بصدور "قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وما تلاه"، ومثل هؤلاء هم أبعد الناس عن سماحة وحنكة الشريعة الإسلامية، ولو في صورتها التي كانت في القرن السابع الميلادي، وكانت وافية لحاجات المجتمع فيه.. وحين يظن المرء أن الدكتور لا يمكن أن يصل لتحليل أكثر بؤسا من هذا، يضيف بالمدافعة عن القضاة الشرعيين في مواجهة حركة إسلامية تنويرية، لقيت الأمرين، من التآمر السياسي والتشويه الفكري، على يد فئة القضاة الشرعيين هذه، وهي الحركة الجمهورية.. يقول الدكتور في إحدى تلك المقالات: "وزاد الفكر الجمهوري في جفائه لهذا التقليد الشرعي بجعله هدفاً لحملات نقد وتنقيص. وقد كتبت مرة في جريدة الميدان السريّة في منتصف السبعينات التمس من الجمهوريين أن يلطفوا عباراتهم في نقد القضاة مع علمي بمحنة الجمهوريين وما نالهم من القضاة والوعاظ في المساجد من أذى وترويع. ومغاضبة الجمهوريين لم تقع من جهة إحسان ذلك التقليد الشرعي أو إساءته بل من إرث مواجهة سياسية راجعة الى أيام الحركة الوطنية. فقد صنف من ظنوا في أنفسهم مجاهدة الاستعمار من أمثال المرحوم محمود القضاة الشرعيين والأعيان وزعماء القبائل والطوائف بأنهم من أعوان الاستعمار. وهذا كلام جاز طويلاً غير أنه خاضع للنظر والمراجعة الآن".

هكذا يضع اللوم على الجمهوريين في صراعهم مع أمثال القضاة الشرعيين والزعماء الطائفيين (ولا أدري من أين أتى بـ"زعماء القبائل")، ولا نقول "يلوم الضحية" لأن الفكرة الجمهورية وأهلها لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام جور القضاة الشرعيين والطائفية، بل واجهتهم وعملت على هزيمتهم فكريا بصورة لم يجدوا عنها مناصا، ولكنّا لا نملك سوى أن نتعجب ونأسى لمثل هذا المستوى الذي وصل له بعض أعلام الماركسية في السودان كالدكتور عبدالله، من مجافاة للتاريخ الموثق وقرائن الواقع، وتملق لقوى الظلام على حساب القوى المستنيرة التي بذلت نفسها وعصارة جهدها الفكري من أجل الشعب السوداني، قولا وعملا، وعلى العموم فقد أجاب الدكتور عمر القراي على تلك المقالات للدكتور عبدالله بصورة وافية، تغنينا عن مزيد تناول هنا، وتكفي الإشارة لها [24].. ولا ننسى هنا أن نشير لمكتوب أشرنا له مسبقا في هذه الورقة، في حديث للدكتور عن "الماركسية والمرأة في السودان"، يمدح فيه مواقف للأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم، لتأييدها لقوانين الأحوال الشخصية للمحاكم الشرعية في السودان، واعتمادا على آراء الشيخ محمد عبده [25].. يقول الدكتور في طرف من ذلك المكتوب: "وقد وافق هذا ما كنت أقرأه لها منذ أيام في محاضرتها التي ألقتها أمام طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم في 1980 وعنوانها "حول قضايا الأحوال الشخصية" وقد انتبهت إلى عنصرين من عناصر منهجها التأصيلي. فقد بدأت بقانون الأحوال الشخصية (الموروث وليس الصادر عن هذه الحكومة بالطبع) ولم تجد ما تعترض عليه أصلاً غير بيت الطاعة. أما في بقية المواد فهي إما استحسنتها وتركتها علي حالها مثل قوانين الحضانة أو ما طالبت أن يتم أمام قاض مثل الطلاق وعقد الزواج وتعدد الزوجات وبشروط دقيقة. وقد وجدت فاطمة في بعض التشريعات الشرعية أثراً باقياً من نضالها هي نفسها ونضال الاتحاد النسائي مثل المنشور الشرعي رقم 54 لعام 1960 الذي كفل للفتاة الاستشارة حول من تقدم لزواجها".

إن الأثر الحقيقي لنضال النساء السودانيات – والأستاذة فاطمة من أعلامهن – هو في تقديم نقد مواجه ومؤسس لعدم أهلية قوانين الأحوال الشخصية لقامة المرأة السودانية اليوم، والمرأة المسلمة عموما، وليس في المساعدة على تمديد عمر هذه القوانين المذلة للمرأة وللمجتمع كله، وهذه قضية أصيلة، لا يمكن تجاوزها بحجة أن الأولوية تذهب لقضايا حقوق المرأة في بيئة العمل، كما حاول أن يفهمنا الدكتور في مقاله، إذ أن هذه المشكلة التشريعية هي الأساس الذي قامت عليه التفرقة المجحفة للمرأة في حقول العمل وحقول التعليم أيضا، وحتى في بيتها وبيئتها الأسرية والمجتمعية (إذ هل يفترض بالمرأة أن تكون مرأة عاملة – بالمعنى العرفي الناقص للعمل – حتى يكون لها احترامها وحقها القانوني والمجتمعي، وإلا فلا؟).

هنا نريد أن نشير أيضا لصورة مؤلمة في تناول أهل اليسار السوداني لمشوار نضال المرأة السودانية، إذ أن تعمد تهميش دور الحركة الجمهورية والأخوات الجمهوريات يفوح بصورة يصعب معها حسن الظن، إذا أردنا أن نحيل هذا التهميش إلى السهو أو قلة المعلومات والعدة المعرفية، وهو عذر – وإن كان صحيحا في بعض الأحيان – لا ينهض كثيرا، وليس فيه مصلحة أو داعي فخر لأهل اليسار السوداني، نسائه ورجاله.. هنا نشير، بصورة أدق، إلى كتاب الدكتورة فاطمة بابكر، بعنوان "المرأة الافريقية بين الإرث والحداثة"، والذي اختزلت فيه تاريخ منجزات ونضال المرأة السودانية في تاريخ الاتحاد النسائي السوداني، ولم تتطرق فيه للأخوات الجمهوريات إلا تطرقا عابرا، أشفعته بعرض سيرة مخلة لتاريخ الحركة الجمهورية ومواقفها التاريخية في إحدى صفحات هوامش فصول الكتاب.. وعلى كل حال فنحن نؤكد أن الحركة التنويرية السودانية، في عمومها، لا يمكن لها النهوض المشرف من أجل نصرة المرأة السودانية، والرجل السوداني، ما لم تول الحركة الجمهورية ما تستحقه من الاهتمام والدراسة الجادة، والالتفات لطروحاتها التي أثبتت مآلات الزمن وجاهتها وبعد نظرها، وأثبتت التجربة قوة أهلها في دفع قضايا مصالح الشعوب للأمام، على مستوى السودان، والمنطقة، والعالم.

لقد اخترنا لهذه الورقة عنوان "من أجل الاشتراكية"، وفي قرب ختامها نريد الإشارة لسبب هذا الاختيار.. يقول الأستاذ محمود، في ختام محاضرته الواردة في كتابه سالف الذكر: "الاشتراكية موش هي الماركسية، لكن الماركسية مدرسة من مدارس الاشتراكية.. ودي تقال لمصلحة الأخوان الماركسيين أنفسهم، لأنهم هم بعتقدوا، وبكلموا الناس بأنك إذا أنت كنت عاوز تكون اشتراكي لازم تكون ماركسي.. الحقيقة التي نحن نريدها أن تكون واضحة هي أن الاشتراكية إنما هي مصير الإنسانية بكرة.. ما في ذلك أدنى ريب.. لكن الاشتراكية لا يمكن أن تحقق إلا إذا انهزمت الماركسية".