إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعقيب على مقال د. غازي العتباني مستشار السلام في حكومة الانقاذ
الحكومة هي المسؤول الوحيد عن فشل محادثات السلام !!

د. عمر القراي


٢١ يوليو ٢٠٠٣

كلمة حق ولا اقولها بقولك!!


قالوا ان ابليس طلع للسيد المسيح، وهو على جبل الزيتون، فقال: يا عيسى قل لا إله الا الله!! وكان يرمي بذلك ان يورطه، فان قالها اطاع ابليس، وان أبى رفض كلمة التوحيد، فأسعف العلم السيد المسيح فقال: كلمة حق ولا اقولها بقولك!!
فقد قدم د. غازي نقداً مطولاً للعلمانية، وضرب أمثلة عديدة، ولكنها ليست جديدة، على ان العلمانية تقوم على البطش والقمع بل العنصرية، كما هو معروف في الفاشية والنازية، وهو يرمي بكل هذا ليقول بانه ما دامت العلمانية مليئة بالسلبيات، فان البديل عن ذلك هو قوانين الشريعة التي يدعو لها!! ونحن اذ نتفق معه على قصور العلمانية، لا نقول بقوله، لأننا نملك البديل عن العلمانية، وعن قصور قوانين الشريعة، ونستطيع ان نضع كل في موضعه.. ومع ذلك ان حجته واهية وذلك للأسباب التالية:
1- إذا كان فشل العلمانية في بلاد أخرى، يكفي لعدم التفكير في تطبيقها في السودان، فان فشل تطبيق الشريعة في إيران وباكستان، والسودان على عهد نميري، وتحت حكومة الانقاذ الحالية، كان من المفترض ان يمنع د. غازي من طرحها مرة اخرى.
2- هناك تجارب لحكومات علمانية مستقرة، ومتقدمة، مثل سويسرا واليابان ودول إسكندنافيا وكوريا وغيرها.. فاذا كانت التجارب العلمانية الناجحة، لا تكفي ولا تنهض بالضرورة دليلاً على صلاحية النظم العلمانية للسودان، لعدة اسباب، فلماذا تنهض التجارب الفاشلة، دليلاً على ان العلمانية بالضرورة ستفشل في السودان؟
3- ان دعاة فصل الدين عن الدولة في السودان، لم يتحدثوا عن العلمانية بصورة مبهمة، قد تجعلها مثل الفاشية والنازية، وانما ربطوا العلمانية التي يريدونها بالتعددية والديمقراطية واحترام التنوع الثقافي.
4- النظام العلماني لو فشل في السودان، فان فشله لا ينسب للدين، وتسهل بذلك مقاومته، بخلاف النظام الديني الذي يصنف المعارضين له والمنددين بفشله، على اساس انهم مخالفين لأمر الله!! وهو لذلك يستغل العقوبات الشديدة، لإسكات صوت المعارضة، مع تضليل البسطاء بانه إنما يدافع عن قضيتهم!!
5- في تجربتنا السودانية، فان الحكومات العسكرية والمدنية العلمانية، كانت أفضل حالا من تجارب تطبيق الشريعة في عهد نميري، وفي حكم الجبهة الحالي، وهذا في حد ذاته مبرر كاف لرفض القوانين المتلبسة باللبوس الإسلامي.
6- ان الدعوة للعلمانية، جاءت اصلاً كنتيجة مباشرة لاستغلال رجال الدين للدين في اوروبا، فقد رفلوا في الحرير، وباعوا للفقراء صكوك الغفران!! وتواطؤا مع السلطة الزمنية وجمعوا الثروة ثم طالبوا المعدمين بالصبر على فقرهم وانتظار النعيم في الجنة وهكذا استغلوا العقيدة الدينية لتخدير الشعوب وصرفها عن النضال من اجل تغيير الواقع.. ومن هنا قال ماركس- قولته المشهورة- "الدين هو أفيون الشعوب"!! وهي قولة لا تنطبق على الدين، ولكنها تنطبق على رجال الدين!! وهي تنطبق بصورة خاصة على شبان الجبهة الإسلامية، وشيوخها، الذين جمعوا الثروة والسلطة في ايديهم وتركوا الشعب يرزح تحت وطأة الفقر والمجاعة، مما اثر على اخلاق النساء والرجال.. ثم هم بعد كل ذلك، يمنون الجياع بالخير على يد قوانينهم الإسلامية المزعومة، التي حين طبقت من قبل، وهللوا لها واخرجوا في تأييدها "المسيرة المليونية" على عهد نميري، لم ينل الجياع منها غير قطع ايديهم، وحر ظهورهم بالسياط!!
ان خلل العلمانية، انما يجئ من انها بشقيها الغربي الرأسمالي، والشرقي الشيوعي، تقوم على أديم مادي يهدر قيمة الانسان، ويرفع من قيمة الحطام.. فهذان النظامان وجهان لعملة واحدة هي المادية.. فحتى يوفر المادة لقطاع كبير من الناس، أهدر النظام الشيوعي في تجربة الاتحاد السوفيتي، حرية الفرد ومارس الدكتاتورية وسماها زوراً ديمقراطية!! وباسم حرية الفرد في جمع الثروة، أهدر النظام الرأسمالي في تجربة الولايات المتحدة الامريكية، حقوق الفقراء في العيش الكريم، وملك قوتهم، وحياتهم، لأفراد يملكون الشركات، ويشترون النواب، ويوجهون اللعبة الديمقراطية لخدمة مصالحهم الشخصية.. وتصبح الديمقراطية شعارات فارغة، يمكن ان يتم الاعتداء باسمها على الشعوب، وتحتل اراضيهم، وتنهب ثرواتهم، تحت سمع وبصر العالم!!
والسبب في فشل المادية بشقيها، هو قطع الصلة بالله.. وليس الغرب المسيحي في ذلك، بأفضل من الشرق الشيوعي.. وقطع الصلة بالله واقامة الحياة بمعزل عنه، اضاع فرصة التربية التي تؤدي الى الحرية.. فالإنسان لا يصبح حراً الا إذا تحرر من الخوف، وليس في الرأسمالية أو الشيوعية منهاج يحرر الانسان من الخوف!!
ان الإسلام، وليس الشريعة، هو الفكرة الوحيدة القادرة على جمع ايجابية النظامين، ونبذ سلبيتهما.. ففي مستوى الاصول، يجمع الإسلام بين الاشتراكية والديمقراطية، في جهاز حكومي واحد، ثم هو يوفر بمنهاج التوحيد، فرصة للتخلص من الخوف، وتحقيق السلام في داخل النفس البشرية، وفي المجتمع..
ولكن الإسلام، في هذا المستوى الرفيع لم يطبق، بل لم يشرح بالقدر الكافي، لهذا الشعب، ولغيره من الشعوب.. لهذا فان من حق الناس ان يرفضوا تطبيق الشريعة، بناء على تجاربهم المريرة السابقة، وينادوا بفصل الدين عن الدولة.. وعلى الحكومة الانتقالية، ان تفصل الدين عن الدولة تماماً، ثم يكون من أهم مهامها، ان تفتح المنابر الحرة، وتسخر لها الاعلام، وتقوم بتنظيم وادارة الحوار، حول الإسلام وفهمه، والعلمانية والديمقراطية، وغيرها.. حتى تتم توعية الشعب، قبل ان يحمل على التصويت بالتضليل، فتأتي الطائفية بالأغلبية الميكانيكية مرة أخرى، ثم تعجز وتفشل لغياب فلسفة الحكم، فينقلب عليها العساكر مرة أخرى، ويتكرر المسلسل من جديد!!