إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
تعقيب على مقال د. غازي العتباني مستشار السلام في حكومة الانقاذ
الحكومة هي المسؤول الوحيد عن فشل محادثات السلام !!
د. عمر القراي
٢١ يوليو ٢٠٠٣
هذه المراوغة لا تبقي ديناً ولا تذر
يقول د. غازي العتباني (وعندما ثارت الثائرة على اعلان القاهرة أصدر الزعيمان بيانات تفيد بان تفسيرهما لتعبير العاصمة القومية الذي ورد في البيان لا يرمي الى التنازل عن الشريعة فيها. ومن حقهما علينا كمسلمين ان نصدّق هذا التفسير ونحن ندرك مقدار الضريبة التي يتحملها أي سياسي سوداني إذا قال بغير ذلك)!![13]
لقد فهم د. غازي من اعلان القاهرة، ما فهمه الوعاظ والعلماء والجماعات الإسلامية، التي ثارت ضد الاعلان، باعتبار انه يعني ان لا تحكم العاصمة بالشريعة، رغم انها في الشمال بسبب قوميتها. وكان هذا هو فهم د. جون قرنق، فبدلاً من الاشادة بصدق قرنق، وثباته على موقفه، انتهز د. غازي فرصة الأحاديث التي يمكن ان يفهم منها، ادعاء ان الاعلان لا يعني عدم تطبيق الشريعة في العاصمة، خاصة تصريحات السيد الصادق المبهمة، بغرض التنصل عن كل اتفاق، ليضيف الزعيمين الى صف الجماعة المسلمة، ويعزل د. قرنق عن الشعب السوداني!! وربما كان مثل هذا الالتواء "شطارة" سياسية، ولكنه لا علاقة له بالصدق، الذي يقتضيه الدين وهو ما يفتقر اليه د. غازي وجماعته بصورة مؤسفة..
وهو يخبرنا بانه يصدق الزعيمين لانهما مسلمين، وكأنه يشير بذلك الى انه لن يصدق د. قرنق لانه غير مسلم!! ثم يحدثنا ان فهمه للإسلام يقوم على المساواة بين المسلمين وغير المسلمين!! فكيف سيمارس هذه المساواة من يفترض في المسلم الصدق وفي غير المسلم الكذب؟ ثم ألم يكن د. قرنق هو الصادق، وان من اراد التشكيك في ان اعلان القاهرة يعني عدم تطبيق الشريعة في العاصمة، هو الكاذب، ولو كان مسلماً واسمه الصادق المهدي؟!
يقول د. غازي (الصورة الاولى يرسمها التصريح الذي ورد في بعض الصحف السودانية قبل فترة وجيزة لاحد اعضاء وفد الحركة الشعبية للمفاوضات حينما قال بأنهم لا يقبلون تطبيق الشريعة لانهم لن يسمحوا لاحد ان يدخلهم الإسلام بالقوة. الزعم الذي يستنتج من التصريح هو ان الشريعة ترغم الناس على اعتناق الإسلام. وصاحب هذا الكلام اختصاصي في العرض المبتذل للإسلام لأنه حسب روايته التي يكررها دائماً أكره على الإسلام عندما كان يافعاً حتى اهتدى الى تركه عند الرشد والعقل وزالت عنه اسباب الاكراه... ولو صحت روايته من انه مسلم سابق لكان حرياً به ان يعلم من مبادئ الإسلام ان الله تعالى من حلمه بعد اتمام نعمائه على عباده ترك لهم الخيار المطلق بين الايمان والكفر فقال لهم "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر")!![14]
فهل حقاً يعتقد د. غازي ان الله قد ترك لعباده الخيار بين الايمان والكفر؟! فاذا كان يعتقد ذلك فلماذا حدثنا عن توبة من ترك الايمان وأنها هي وحدها التي تعفيه من العقوبة؟! أسمعه يقول (فحتى لو بدأ المرء حياته أو الجماعات كسبها على مبادئ الشمولية الدكتاتورية القمعية لا بأس ان تعلن توبتها وانابتها الى افياء الحرية والتعددية والشورى والديمقراطية. هذا جائز ومقبول حتى من الكافر عندما يثوب الى الايمان فالتوبة تجب ما قبلها والتائب لا يؤاخذ بماضيه)[15]!!
فاذا كانت الشريعة تعطي الانسان حق الكفر، فلماذا كانت هناك توبة أصلاً للكافر؟ ولماذا هللت الجماعات الإسلامية، وفي مقدمتهم قادة الجبهة الإسلامية، لتكفير الاستاذ محمود محمد طه؟ بل لماذا يصمت د. غازي وحكومته عن جماعات التكفير، التي تهدر دماء المواطنين، وتلوح بالأموال ثمناً لقطع رؤوسهم؟
ان الشريعة ارغمت الناس على الإسلام بالقوة، في معنى ما أعلنت الجهاد، وجعلت سببه الكفر.. وهي أيضاً تبقي المسلم داخل حظيرة الإسلام بالقوة، وهذا هو معنى الحديث الكريم "من بدل دينه فاقتلوه" أو "لا يحل دم أمرئ مسلم الا بإحدى ثلاث: كفر بعد أيمان وزنى بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس"!! وهذا هو السبب في ظهور ظاهرة المنافقين، وهم قوم اظهروا الايمان وابطنوا الكفر خوف السيف.. ولأن السيف لم يرفع في مكة، لم يكن بها منافقين، ولم تنزل السور التي تتحدث عنهم في القرآن المكي.. ولو كانت الشريعة لا تكره الناس على الإسلام، لما قام حكم الردّة، والذي ضمنته حكومة الجبهة في دستور 1998 الذي يفخر به د. غازي في هذا المقال!!
وقصة الأخ الجنوبي، بانه أرغم على الإسلام، والتي شكك فيها د. غازي بالسخرية، والتهكم الذي يبلغ حد البلاهة، يصدقها الواقع. وقد نشرت مثلها منظمات حقوق الانسان، وجاءت في تقرير المنظمة السودانية لحقوق الانسان، والتي سافر ممثلون منها الى جنوب السودان، وشهدوا تحرير مواطنين، استرقتهم قوات الدفاع الشعبي تحت سمع وبصر الحكومة.. ولقد شهدت بعض هؤلاء المواطنات السودانيات، بإجبارهن على الإسلام، وختانهن، ومضاجعتهن بلا زواج شرعي، باعتبارهن مما ملكت ايمان المجاهدين المسلمين، الذين سلحتهم حكومة د. غازي ووجهتهم ليقوموا بهذا العمل البشع!!
أما آية "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" فإنها فعلاً تعطي حق الكفر، وتحقق المساواة، ويجب ان يقوم على اساسها الدستور.. ولكن د. غازي لا يستطيع ان يحتج بها، لأنها مثلها ومثل العهود مع الكافرين، والدعوة بالتي هي أحسن، نسخت جميعاً بآية السيف، والدعوة اليها تقتضي بعث القرآن المنسوخ، وبأحكامه تنسخ الشريعة، وتحكم أصول القرآن، وهذا هو تطوير التشريع، وهو ما لا يقوى د. غازي واضرابه على فهمه ولا يطيقون قبوله، مع انه الخلاص الوحيد، لأمثالهم، من هذا التناقض المزري!!
ومن أمثلة التناقض قول د. غازي (لقد رأينا كيف ان السيد المسيح وفق ما بين حق المسيحي في التعبد على عقيدته ومنهجه وبين طاعة الحاكم ولو كان وثنياً مشركاً ما ضمن به الحاكم ذلك الحق. إذا صح هذا الموقف المسيحي تجاه الحاكم الوثني المشرك فلماذا يتخوف المسيحي من الحاكم المسلم)!![16] الا يوهم هذا القول القارئ بان د. غازي يرى ان موقف السيد المسيح عليه السلام، موقفاً ايجابياً، وهو لذلك يحث المسيحيين على الاقتداء به، ومن ثم القبول بالحاكم المسلم؟! ولكن د. غازي كان قد ابدى قبل سطور، إعجابه بالإسلام لشموله كافة مناحي الحياة.. فقال (الشمول في الدين الإسلامي الذي يرى ان الحياة كلها عبادة وان عروة الحكم وعروة الصلاة وما بينها كلها من الدين) وهذا هو المفهوم الاصح في رأيه، فلماذا يريد ان يوهم المسيحيين بانه معجب بمنهجهم؟!
ومهما يكن من أمر، فان المسيحيين حين طالبوا بان يكون الدين قضية شخصية، لا علاقة لها بالحكومة، على قاعدة "ما لقيصر لقيصر وما لله لله" أو قاعدة "الدين لله والوطن للجميع" انما كانوا ينفذون وصية المسيح والتي لا يحترمها د. غازي لأنها تخالف منهج الإسلام الذي اشاد به!!
ويرى د. غازي ان مشكلة الأخوة المسيحيين، مع قوانين الشريعة، هي فقط ان الشريعة قد حرمت الخمر!! وهو بهذا يعرّض بهم، ويعتبرهم مجرد سكارى، يدافعون عن الشرب.. فيقول (إذا قيل ان هناك تبايناً في قواعد السلوك فهذا امر نعلم انه محدود يمكن معالجته. نعلم ان المسيحيين المعاصرين يؤمنون بحل الخمر. والشريعة لا تمنعهم ذلك ولا تنكره بل تعده حقاً مشروعاً لهم فلا تمنعهم شربها وتملكها وتداولها لكنها تمنع المسلم فرداً كان او صاحب سلطان من ان يهدرها وإذا فعل اوجبت عليه التعويض. وإذا قيل ان الممارسة الراهنة لا ترعى ذلك فهذا امر يمكن التحقق منه ومعالجته)!![17]
فان صح ما قاله د. غازي، فلماذا أيدوا نميري حين أهدرها، ولم ينهوه عن ذلك، بل شاركوه حين صبها في نهر النيل؟! وفي حكم البشير الحالي، الذي يمثل د. غازي أحد منظريه، ألم تداهم الشرطة بيوت بائعات وبائعي الخمور، فتجلدهم وتهدر خمورهم دون أي تعويض، ودون ان تسألهم إذا كانوا مسلمين أم لا؟! ولعل هذا ما أراد ان يعتذر عنه د. غازي بقوله (وإذا قيل ان الممارسة الراهنة لا ترعى ذلك...الخ) فلماذا لم ترع الممارسة ما اوجبت الشريعة رعايته؟! أليس هذا هو التطبيق السيئ الذي أنكره د. غازي؟! وإذا كان د. غازي لم يتحقق من هذا الامر حتى الآن، ومن ثم لم يعالجه، وانما يعد بذلك في المستقبل، أليس من حقنا ان نعتبره على أحسن الاحوال، غير مهتم وغير جاد، وانه ربما زعم ما زعم، من باب المتاجرة بالشعارات الدينية والسياسية؟!
ويحدثنا د. غازي عن اضطراب الاقوال والتبريرات، بعد اعلان القاهرة.. فيحكي لنا ان أحد المقربين من أحد الزعماء، قال له "كل هذا حدث بسبب تطبيقكم السيئ للشريعة والإسلام" فكان رد د. غازي ان هذا الشخص يخطئ مرتين مرة حين اختلف مع زعيمه، الذي نفى ان يكون اعلان القاهرة تنازل عن الشريعة (ثم يخطئ مرة ثانية عندما يجعل التطبيق السيئ للشريعة على افتراض انه صحيح مسوغاً مشروعاً للتخلي عنها. فالتمادي في هذا المنطق سيجيز للمرء ان يترك ملة الإسلام مرة واحدة بسبب ان بعض المسلمين اشرار)!![18]
ولو كان د. غازي صادقاً، وغير مراوغ، لما تجاوز جوهر القضية، وهي التطبيق السيئ بقوله (على افتراض انه صحيح) فهو اما ان يكون صحيحاً او لا. فاذا كان يرى ان التطبيق لم يكن سيئاً، كما قال له ذلك الشخص، فكان الاولى ان يدافع عن التطبيق، وعن كل ما فعلته حكومة الانقاذ وحتى عن قوانين سبتمبر باعتبارهم قد ايدوها من قبل!! فلماذا لم يفعل ذلك؟ ألأنه لا يملك حجة يدفع بها؟ اما كان اولى ان يقر بان التطبيق قد كان سيئاً بدلاً من التظاهر بانه افترض ذلك جدلاً؟ وإذا كان التطبيق سيئاً كما قال ذلك الرجل، الا ينبغي على الاقل ان توقف اي محاولة تطبيق اخرى، حتى يطرح لنا دعاة التطبيق المفهوم الذي سيتجاوزون به اخطاءهم السابقة، قبل الشروع في تطبيق جديد؟!