إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الرسالة الثانية من الإسلام

المساواة الاقتصادية: الاشتراكية


ليس هذا المقام مقام التفصيل في أمر الاشتـراكية ، فان لها سفرا سيخرج للناس قريبا ، إن شاء الله ، باسم (( الإسلام ديمقراطي اشتراكي )) .
والاشتراكية تعني أن يكون الناس شركاء في خيرات الأرض ، وهي قـد بدأت منذ أن بدأ المجتمع ، فإنها صنو الرأسمالية . وكانت الرأسمالية ، ممثلة في الملكية ، هي النظام الذي نشأ عليه المجتمع ، ولقد تطورت الرأسمالية إلى أن وصلت معناها العلمي الحاضر ، وكذلك تطورت الاشتراكية ، وإنما كان تطورها أبطأ من تطور الرأسمالية لأن الرأسمالية تعتبر مقدمة طبيعية لها ، ولا يمكن للاشتراكية أن تسبق الرأسمالية . ثم إن الاشتراكية نتيجة حكم القانون الذي يرعى حق الضعيف ، في حين أن الرأسمالية نتيجة قانون الغابة الذي يعطي الحق للأقوياء ، ويتقاضاه لهم ، وبطبيعة النشأة ، فإن قانون الغابة مرحلة سابقة لمرحلة قانون العدل ، والمرحمة ..
ولقد ظهرت الاشتراكية في جرثومتها البدائية في صورة الحسد ، أو الغبطة التي تعتمل في صدر (( الماعندهم ضد العندهم )) . فقد كان محسودا الذي يوفق الى سلاح حجري يمتاز بالخفة ، والقوة ، والحدة . والذي يوفق الى كهف حصين ، وفسيح ، والذي يوفق إلى زوجة جميلة ، ومحبة ، ومطيعة ، وقوية ، وهكذا . ولقد دفع هذا الحسد إلى الصراع التاريخي بين (( الماعندهم والعندهم )) . ولا يزال هذا الصراع محتدما ، ولن ينفك ، حتى تتم المساواة المطلقة بين الناس في خيرات الأرض ..
وقبل أن تظهر الاشتراكية العلمية نتيجة لهذا الصراع الطويل المرير كانت الاشتراكية في مرحلتها البدائية ، وهذه تعني المشاركة في الخيرات التي لا تضيق بأحد ، ولا يقع عليها الحوز . ولقد عبر المعصوم عن هذه حين قال (( الناس شركاء في ثلاثة : الماء والكلأ والنار )) . وفي هذا الحديث إشارة رصينة إلى وجوب الاشتراكية بين الناس حين يمكن أن تفيض الخيرات باستغلال الموارد الطبيعية والصناعية .
وإنما دخلت الاشتراكية في الطور العلمي مؤخرا ، وبرزت ، واستحوذت على اهتمام الناس ، وأصبحت في أيامنا هذه يدعيها الذين يعنونها ، والذين لا يعنونها ، وذلك لفرط تعلق الشعوب بها .
ولقد بدأ في أوائل القرن التاسع عشر استخدام اصطلاحي (( الاشتراكية )) و (( الشيوعية )) في كل ما له صلة بفكرة الملكية العامة للعقار .. وقد استخدم اصطلاح (( الاشتراكية )) في انجلترا في حوالي عام 1820 ، ولأول مرة ، بواسطة روبرت أوين ، وهو صانع ثري ، ويعتبر مؤسس الاشتراكية الحديثة . ولقد كان يؤمن بإمكان تحقيق التحسين الاجتماعي عن طريق الوسائل الاختيارية ، والدستورية الوئيدة ، والمستقرة ، التي تجنب الشعوب الشرور التي تسير في ركاب التغييرات الثورية العنيفة ، وبخاصة السيئة الإعداد منها .
وكلمة (( الشيوعية )) مشتقة من كلمة لاتينية معناها (( عام )) أو (( مملوك للجميع )) . ولقد استخدمت في أول الأمر حوالي عام 1835 بواسطة الجمعيات الثورية السرية الفرنسية التي كانت ترمي إلى قلب الطبقة الوسطى بالعنف ، ثم السيطرة على فرنسا ، بهدف انشاء اقتصاد يكون فيه جميع المتاع المنتج مملوكا للشعب ، وتكون فيه طبقة العمال هي العنصر الحاكم .
ودخل كارل ماركس في الصورة ، وأخذ يدرس ويرصد ويطور أفكاره على أساس النظريات ، والتطبيقات الاشتراكية ، والشيوعية المختلفة ، ولقد فضل اصطلاح (( الشيوعية )) ، فاختاره ليصف به أفكاره ، لأن هذا الاصطلاح كان مرتبطا بفكرة تغيير المجتمع بالعنف . وكان ماركس يقيم مذهبه على أربعة مبادئ :-
1ـــ مجرى التاريخ تتحكم فيه القوى الاقتصادية .
2 ـ التاريخ ما هو إلا سجل لحرب الطبقات .
3 ــــ الحكومة ما هي إلا أداة تستخدمها طبقة في اضطهاد طبقة أخرى .
4 ــــ العنف والقوة هما الوسيلتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع .
وعلى هذه المبادئ ، ووفاء بها ، ظل ماركس ، منذ كتاباته الأولى ، يهاجم بإلحاح التجارب الاشتراكية ، كالتي كان يرعاها روبرت أوين ، ويصفها بأنها غير علمية ، وغير واقعية ، لأن التاريخ ، كما هو واضح في رأيه ، قد سار على قوانين علمية قاسية ، وأن تغييرا اجتماعيا جوهريا بغير طريق القوة والعنف لا يمكن أن يتم .. ولهذا فقد سخر باعتقاد أوين وغيره من الاشتراكيين بإمكان اصلاح اجتماعي عن طريق الزمالة ، والتعاون ، والتطور الوئيد . وكان يسمي عملهم هذا الاشتراكية (( المثلى )) ويهتم كثيرا بالتفريق بينها وبين مذهبه هو ، ويسميه الاشتراكية (( العلمية )) أو (( الشيوعية )) . ونحن عندما نتحدث عن الاشتراكية العلمية ، أو عن الشيوعية ، فيما ندعو إليه ، لا نريد مذهب ماركس هذا ، بل إنا لنعلم أن اشتراكية ماركس ليست علمية ، وإنما هي متورطة في خطأ أساسي ، ليس هذا المقام مقام الخوض فيه ، وإنما سنخوض في تبيانه عند الكتابة عن (( الإسلام ديمقراطي اشتراكي )) الذي سيصدر عما قريب إن شاء الله .
فالاشتراكية العلمية ، عندنا ، تقوم على دعامتين اثنتين ، وفي آن واحد : أولاهما زيادة الانتاج ، من مصادر الانتاج ، وهي المعدن ، والزراعة ، والصناعة ، والحيوان . وذلك باستخدام الآلة ، والعلم ، وبتجويد الخبرة الادارية ، والفنية . وثانيتهما عدالة التوزيع ، وهي تعني ، في مرحلة الاشتراكية ، أن يكون هناك حد أعلى لدخول الأفراد ، وحد أدنى . على أن يكون الحد الأدنى مكفولا لجميع المواطنين ، بما في ذلك الأطفال ، والعجائز ، والعاجزين عن الانتاج ، وعلى أن يكون كافيا ليعيش المواطن في مستواه معيشة تحفظ عليه كرامته البشرية .. وأما الحد الأعلى للدخول فيشترط فيه ألا يكون أكبر من الحد الأدنى بأضعاف كثيرة حتى لا يخلق طبقة عليا تستنكف أن تتزاوج مع الطبقة ذات الدخول الدنيا .. ومن أجل زيادة الانتاج وجب تحريم ملكية مصادر الانتاج ، ووسائل الانتاج ، على الفرد الواحد ، أو الأفراد القلائل في صورة شركة ، سواء كانت شركة إنتاج ، أو شركة توزيع .. ولا يحل للمواطن أن يملك ، ملكا فرديا ، إلا المنزل ، والحديقة حوله ، والأثاثات داخله ، والسيارة ، وما إلى ذلك مما لا يتعدى إلى استخدام مواطن استخداما يستغل فيه عرقه لزيادة دخل مواطن آخر . والملكية الفردية ، حتى في هذه الحدود الضيقة ، يجب ألا تكون ملكية عين للأشياء المملوكة ، وإنما هي ملكية ارتفاق بها ، وتظل عينها مملوكة لله ثم للجماعة بأسرها .
ثم إنه كلما زاد الانتاج من مصادر الانتاج اتجهت عدالة التوزيع إلى الاتقان ، وتقريب الفوارق ، وذلك برفع الحد الأدنى ، وبرفع الحد الأعلى ، على السواء . ولكن رفع الحد الأدنى يكون نسبيا أكبر من رفع الحد الأعلى ، وذلك بغية تحقيق المساواة المطلقة . وعند تحقيق المساواة المطلقة بفضل الله ، ثم بفضل وفرة الانتاج ، تتحقق الشيوعية ، وهي تعني شيوع خيرات الأرض بين الناس .. فالشيوعية إنما تختلف عن الاشتراكية اختلاف مقدار .. فكأن الاشتراكية إنما هي طور مرحلي نحو الشيوعية .
ولقـد عاش المعصوم الشيوعية في قمتها حيـن كانت شريعتـه في مستـوى آية الزكاة الكبرى (( يسألونك ماذا ينفقون قل العفو )) ولقد فسر العفو بما يزيد عن الحاجة الحاضرة . وحديثه عن الأشعريين في مستوى الشيوعية ، وذلك حين قال (( كان الأشعريون إذا أملقوا ، أو كانوا على سفر ، فرشوا ثوبا ، فوضعوا عليه ما عندهم من زاد ، فاقتسموه بالسوية ، أولئك قوم أنا منهم وهم مني )) وهذا هو فهم الأمة المسلمة التي لما تجئ بعد .. ولقد أدرك هذا الفهم أصحابنا الصوفية وذلك حين تصوروا جميع الأرض ، وما عليها من خيرات ، كمائدة أنزلها الله على عباده ، وأمرهم أن يرتفقوا منها بزاد المسافر ، ويواصلوا سيرهم إليه .. فهذه الأرض ، مثلها عندهم مثل المائدة ، وضعت للآكلين ، وعليها اللحم ، والخبز ، والخضار ، والحلوى ، وجلس إليها عشرة رجال ، فإن كل ما عليها هو على الشيوع بينهم ، ولا تقع لك الملكية الفردية لقطعة لحم منها ، إلا حين تحتويها أصابعك ، وتبدأ رحلتها إلى فمك .
وحين يحدثنا القرآن عن الجنة (( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الأرض ، نتبوأ من الجنة حيث نشاء ، فنعم أجر العاملين )) إنما عنى أيضا النموذج المصغر للجنة الكبرى ، الذي يتحقق في هذه الأرض التي نعيش عليها اليوم وذلك حين (( تملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا )) على حد التعبير النبوي الكريم . وهو ما داعب خيال ماركس وضل الطريق إليه كل الضلال ، ولن يبلغه إلا المسلمون الذين لما يأتوا بعد .. وحين يأتون سيتحقق في الأرض طرف من قوله تعالى (( إن المتقين في جنات وعيون * ادخلوها بسلام آمنين * ونزعنا ما في صدورهم من غل ، إخوانا على سرر متقابلين * لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين )) وهذا الطرف هو الشيوعية التي يحققها الإسلام بمجئ أمة المسلمين ، ويومئذ تشرق الأرض بنور ربها ، وتتم نعمة الله على سكانها ، ويحل في ربوعها السلام ، وتنتصر المحبة .