إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الدستور الإسلامى؟ نعم .. ولا !!

والإسلام


إن موضوع الإسلام هذا لن نحتاج إلى الإطالة في أمره هنا، لأننا أفردنا له كتابا صدر منذ حين باسم "الرسالة الثانية من الإسلام" فمن شاء فليرجع إليها، ولكننا نحب هنا أن نقرر أن من يعرف حقيقة الإسلام ويعرف حقيقة الديمقراطية والاشتراكية، لا يسعه إلا أن يعترف بان الإسلام أولى بهما من الشرق، ومن الغرب، وبصورة حاسمة.. فإذا قال داعية إسلامي أن الإسلام لادخل له بالاشتراكية، ولا بالديمقراطية، وإنما هو إسلام كما يقول دعاة الإسلام عامة، وكما قالت هذه الهيئة الوطنية للدستور الإسلامي، فان هذا القائل لايزيد على أن يدلل على عظيم جهله بأمر الاشتراكية، وأمر الديمقراطية، وأمر الإسلام .. وهذا جهل لا يملك المرء به حق الحديث في أمور الناس العامة ..
إن عصرنا الحاضر يتميز على سائر عصور البشرية بأنه عصر العلم: ويغلب عليه، في المرحلة الحاضرة، العلم بالقوانين التي تحكم الوجود المادى، وهو منطلق ليعلم القوانين التى تحكم النفس البشرية، وهو في ذلك وشيك النجاح، وسيتوج علمنا بالوجود الذي يحيط بنا، بعلمنا بأنفسنا، فان الإنسان، في جميع محاولاته، في البر وفي البحر، وفي الفضاء الخارجي، إنما يبحث عن نفسه. ولقد جعل الله تبارك وتعالى، معرفتنا بالبيئة المادية التي تحيط بنا وسيلة، ومجازا إلى معرفتنا أنفسنا.. فهو يقول، جل من قائل، "وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم. أفلا تبصرون؟" ويقول أيضا "سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم انه الحق. أولم يكف بربك انه على كل شيء شهيد؟" ثم انه جعل معرفتنا أنفسنا مجازا، ومعبرا، إلى معرفته هو، وهي أعلى، وأشرف المعرفة.. ولقد قال المعصوم، في ذلك "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
وفي مجالات العلم فان الإسلام على مرحلتين: مرحلته الأولى مرحلة عقيدة، ومرحلته الثانية مرحلة علم: هو في مرحلة العقيدة إسلام بدائي، ثم إيمان ، ثم إحسان ، وهذه قصاراه .. وهو في مرحلة العلم علم يقين ، وعلم عين اليقين ، وعلم حق اليقين. وهذه حسبه .. ومرحلة العلم إنما تجيء بالترقي من مرحلة العقيدة..
فكأن الإنسان يدخل في الإسلام أول أمره قبل أن يؤمن بالله، لأنه لا يعرف عنه ما يكفي، ولكنه يؤمن بصدق النبي، فيصدقه، ويطيعه. وهذه مرتبة القول باللسان، والعمل بالجوارح. فإذا احسن الاقتداء في ذلك بالنبي يدخل في قلبه معنى هو الإيمان، فيصير مؤمنا بالله وتلك مرتبة تصديق بالقلب، واقرار باللسان، وعمل بالجوارح. ثم يزيد الإيمان فيصبح إحساناً، ثم يزيد الإحسان فيصبح علم يقين، ثم يزيد فيصبح علم عين اليقين، ثم يزيد الإيمان أيضا فيصبح علم حق اليقين ، وعندها تطمئن النفس إلى الله، وتسلم له قيادها، وتعيش وفق تدبيره وسيرا خلف إرادته، وهي راضية، قريرة العين، لأنها علمت وجودها في الله. وهذا الانقياد القرير العين هو الإسلام الذي قال تعالى عنه "إن الدين عند الله الإسلام".
ولقد قلنا عنه في "رسالة الصلاة" من صفحة (46) "إن الإسلام، في حقيقته، ليس دينا بالمعنى المألوف في الأديان، وإنما مرحلة العقيدة فيه مرحلة انتقال إلى المرحلة العلمية منه: .. مرحلة الشريعة فيه مرحلة انتقال إلى مرتبة الحقيقة .. حيث يرتفع الإفراد، من الشريعة الجماعية، إلى الشرائع الفردية، التي هي طرف من حقيقة كل صاحب حقيقة، وتكون الشريعة الجماعية محفوظة، ومرعية لمصلحة السلوك، والتربية، والتنظيم للقاعدة البشرية، التي تستجد كل يوم وتجاهد بالتجارب كل حين لترقي المراقي.
"والذين يدخلون في مراتب الشرائع الفردية هم المسلمون حقا – هم الأحرار، الذين سبقت الإشارة إليهم، في هذا الحديث، حين قلنا ان الحر حرية فردية مطلقة هو الذي استطاع أن يعيد وحدة الفكر، والقول، والعمل إلى بنيته، فاصبح يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لاتكون عاقبة عمله إلا خيرا للناس، وبرا بهم وبذلك يستطيع أن يعيش فوق قوانين الجماعة، لأنه ملزم نفسه بشريعته الفردية، وهي فوق مستوى الشريعة الجماعية، في التجويد والإحسان، والبر والتسامي". "(الإسلام دين الفطرة) معناها دين (علم النفس) وهو سيهدي البشرية، من حيث هي بشرية، بصرف النظر عن ألوانها، وألسنتها، إلى ضالتها المنشودة .. هو سيهدي كل إنسان إلى نفسه، لأنه كما قلنا (علم نفس) وهو بهذا المستوى العلمي سينتصر في عصر العلم على الأديان التقليدية فيتحقق موعود الله تعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) – (بالهدى) إلى النفوس كما قال تعالى (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) ( ودين الحق) يعنى دين العلم، ولسنا نريد الإطالة هاهنا. فان له سفرا خاصا سيكون عنوانه (العهد الذهبي للإسلام أمامنا)" هذا ما قلناه عن الإسلام في "رسالة الصلاة"
ونريد أن نقرر هنا أن الإسلام في هذا المستوى نهجه السياسي "ديمقراطي" ، ونهجه الاقتصادى "اشتراكي" ونهجه الفردي أعني في أسلوب التربية الفردية – "الحرية الفردية المطلقة"، فإذا عجز عنها الفرد صودرت بقانون دستوري، والقانون الدستوري هو الذي يوفق بين حاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، وحاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة.. فهو لا يضحي بحق الجماعة لمصلحة الفرد، كما تفعل الرأسمالية الغربية الحاضرة، ولا يضحي بحق الفرد لمصلحة الجماعة، كما تفعل الشيوعية الماركسية الحاضرة. وهذا القانون إنما هو تنسيق بين الغاية، التي هي الفرد، والوسيلة التي هي الجماعة وهو لذلك حين يصادر حرية الفرد إنما يصادرها مؤقتا وإنما يجعل عقوبة المصادرة علاجا لقصور الفرد في حسن التصرف في الحرية، لا تشفيا منه، وهو بهذه المصادرة إنما يعده ليقبل على ممارسة حريته بطاقة اكبر، وكفاءة اكفأ مما كان عليه قبل وقوع المصادرة عليه..
ولقد تحدثنا عن هذا الإسلام باستفاضة في جميع كتبنا التي صدرت حتى اليوم وهي "رسالة الصلاة" و"الرسالة الثانية من الإسلام" ، و "زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في الميزان" "والتحدي الذي يواجه العرب" "ومشكلة الشرق الأوسط" فلتراجع فان فيها عن الإطالة هنا غناء.