إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

صلوا!! فإنكم اليوم لاتصلون

المنكر في كل شيء


إن المنكر يحتوش، في المجتمع، كل عمل، وكل عادة.. فالمسلمون اليوم، في السودان، وفي غير السودان، لا تجد في مناسبات فرحهم أو في مناسبات كرههم غير المنكر، وغير المخالفة لسنة النبي، ولوصاياه، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم، حتى أولئك الذين يتزيون بزي الدين، ويرسلون لحاهم، ولا تفوتهم صلاة في المساجد.. فهؤلاء انما يخادعون وان كانوا لا يخدعون إلا أنفسهم، فأمرهم مكشوف، فإنهم لهم أشد الناس حرصا على الدنيا، وعلى أكلها بالدين الذي يتظاهرون به، رئاء الناس: (يستخفون من الناس، ولا يستخفون من الله، وهو معهم، اذ يبيتون مالا يرضى من القول!!)..

المنكر في الطرقات


ان السائر اليوم في الاحياء اول ما يلفت نظره جلوس الرجال أمام المنازل.. ولقد نهى النبي عن ذلك، فقال: (اياكم والجلوس في الطرقات!! قالوا: يا رسول الله مالنا بد من مجالسنا، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه!! قالوا وما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر..).. ولكن الجالسين اليوم في الطرقات، وهم كثير، لا يعطون الطرقات حقها بل قد يصدر منهم من الفعل ما ينكره العرف، ويأباه الدين، فليست مفاجأة أن تقبع قناني الخمر بين كراسي بعض الجالسين هؤلاء!! واما إرسال البصر في الغادي والرائح، وسلقه بالألسنة الحداد فهذا يأتيه من الجالسين في الطرقات، حتى من الذين لمظهرهم الديني يظنهم الناس تقاة، ورعين، فإن أحدهم ليخوض لسانه في اعراض المارة، ويشرق بصره ويغرب، فيهم، وهو ممسك بسبحته، يهمهم بالذكر!! وهم بمجرد جلوسهم في الطريق، يضايقون جيرانهم خاصة من النساء، ويسببون لهن حرجا في الخروج من منازلهن، وفي الدخول اليها.. ولو كان هؤلاء مصلين حقا – لو كانوا تقاة – لتأدبوا بأدب النبوة، ولأطاعوا أمرها.. ولكنهم ليسوا تقاة، وليسوا مصلين، وإن ركعوا وإن سجدوا، وإن أرسلوا اللحى، او تزيوا بزي الدين..

وفى المأتم


ان المنكر يتجسد بشكل مريع في مآتم المسلمين اليوم - المسلمين على إطلاقهم.. فإنك تجد الرجال يرفعون أصواتهم بالبكاء، وكذلك تجد النساء يرفعن أصواتهن ويحسرن ثيابهن، ويحثين التراب على رؤوسهن، ويظهرون جميعا من السخط على الله ما يبعدهم منه أشد البعد.. ولقد قال النبي: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية!!)..
لقد حرم الإسلام ذلك الصنيع ولم يحرم أن يحزن القلب وان تدمع العين فقد روى: (دمعت عينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم ابنه يجود بنفسه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وانت يا رسول الله؟؟ قال: يا ابن عوف انها رحمة إنها رحمة، فقال: (العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم، لمحزونون!!)
فأيام المآتم، ولياليه قد تجردت تماما من قدسية المناسبة والاتعاظ بها.. وبعضهم يجزي الوقت في شئونه الدنيوية من تجارة وعمل، وبعضهم يتخذ من أعراض الناس موضوعا للخوض فيها، وبعضهم يثرثر بفاحش الحديث، وفارغه، بل بعضهم يروي النكات، وترتفع لها أصوات بالضحك، او أكثر من ذلك، فإن هذه الصورة المفجعة تنطبق عليهم حتى وهم في المقابر يباشرون دفن موتاهم..
وصارت مناسبة الموت عندنا مجالا للتباهي، والتفاخر، يستأجر لها الفراش الوثير والصيوانات المزركشة.. وتوالى الذبائح يوميا ليقوم بخدمتها متعهدو الحفلات ليعدوا لهم أصناف الطباق المتعددة كما ألفوا في مناسبة افراحهم..
وفى أثناء ذلك يستأجرون ايضا المقرئين المحترفين ليقرأوا القرآن في فترات متقطعة والناس من حولهم لاهون عنه، لا يسمعون، ولا يصغون، غافلون عن قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون..)..
ولو قد كانوا مصلين لربطت صلاتهم على قلوبهم، ولقربتهم من الله، فإن الصلاة المجودة تقرب من الله، ولا تبعد.. ولكنهم لا يزدادون اليوم بصلاتهم من الله إلا بعدا!! وهم قد تحقق فيهم قول النبي (رب مصل لم تزده صلاته من الله إلا بعدا)!!

وفى الأفراح


والمسلمون في أفراحهم ايضا، في مناسبات الزواج، ليسوا بخير حالا منهم في مناسبات المآتم.. فهم ايضا في تلك مفارقون للسنة، ومبالغون في التنافس والمزايدة.. تحرص كل أسرة أن تظهر بمظهر لم يسبقها عليه أحد، ليباهي نساؤها ورجالها، بما أنفقوا من أموال في عرس ابنائهم، وبناتهم وما أعدوا من غالي الثياب ونفيس الأثاث، وما قدموا من مهور..
في حين أن البركة في اليسر، وفي سن السنة الحسنة.. وتلك هي سنة النبي الذي قال: (اخير النساء أحسنهن وجوها، واقلهن مهورا..).. والذي قال ايضا: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك!!).. ولا تقف المفارقة في الأعراس عند حد التفاخر بالأموال، وانما تذهب إلى أنكر المنكر.. ولقلة ما نملك من فكر ودين يوجه حياتنا، اتسمت مراسيم الزواج عندنا، ولاتزال، بروح عامية، وسطحية، بعيدة عن روح الدين التي تجعل هذه المناسبة مناسبة دينية نحيطها بالقداسة والوقار..
ويتميز الزواج بالصرف التفاخري، والمباهاة التي تبدأ بحفل الخطوبة، وتظهر بصورة صارخة بدفع المهر الذي أصبح الشبان يتباهون به.. وقد أصبح هم كل شاب أن يتخطى مهره مهر زميله، بألف أو أكثر، وتتناقل النسوة خبر هذا المهر الكبير، وتشعر فيه العروس بتباه على زميلاتها، بل وعلى شقيقاتها، وقد يجد الكثير من الشبان حرجا شديدا أن يتزوجوا في هذه الأسرة بمهر أقل من الذي أبتدع.. ومن المؤسف أن الشابات المتعلمات هن الرائدات لهذه المظاهر الجوفاء، ومن عجب أن تقبل شابة متعلمة أي مبلغ من المال ثمنا لها، وفي وقت يبحث الناس فيه عن قيمهم الإنسانية بصورة تتسامى عن المادة وقد ضرب النبي الكريم مثلا في هذا المعنى حين زوج بآيات من القرآن الكريم، وحتى حين قال في مستوى المهر المادي: (أخير النساء أحسنهن وجوها وأقلهن مهورا)..
وتصحب المهر الهدايا الغالية التي تجلب من داخل البلاد ومن خارجها، من مجوهرات، وملابس، وعطور، هي مادة للتباهي حيث تعرض على الزوار والمهنئين بالزواج، مما يترك أثارا غير كريمة في نفوس غير القادرين.. وفي الآونة الأخيرة دخل في باب الهدايا، عند الأسر الكبيرة، تسجيل المنازل الفاخرة والعربات، وتذاكر السفر للخارج لأفراد أسرة العروس.. هذا عند الأسر الميسورة الحال، ولكن خطره حين يتعداها للمجتمع الكبير بالشعور بالتضاؤل أمام هذا المستوى.. ثم الأدهى أن يتحول اهتمام الناس، وتركيز تفكيرهم، على هذه القشور مما يحدث عقبات اجتماعية أمام الزواج.. وبعد المهر وما يصحبه تبدأ ايام وليالي الفرح التي تقصر وتطول بمقدرة الزوج على الصرف المبالغ فيه والذي يتمثل أولا في المكان الذي يقام فيه الحفل، وفي الموائد العريضة التي تحوي أنواع الأطعمة المختلفة، والحلويات المستوردة، كما يؤم هذه الحفلات أصدقاء العروسين وأصدقاء الأسرة، والطبقة الارستقراطية التي بدأت تنشأ في مجتمعنا في الآونة الاخيرة، هي الغالبة في مثل هذه الحفلات.. وهم بدورهم، ليظهروا في مستوى الحفل، يبالغون في ارتداء الملابس والثياب، والمجوهرات التي تحصل عليها الأسر بعد المضايقة في المعيشة، والمشاكل العائلية.. يضاف إلى هذا أن بعض الأسر القادرة أصبحت تدعو فرق الفنانين من الدول المجاورة.. وهذا ليس لجودة الفن هناك بقدر ما هو للمبالغة.. وخلق الشقة بينهم وبين أفراح الأخرين.. ورواد هذه الحفلات يبالغون في الملبس والمسلك الغربي حتى في الرقص المختلط.. ونحن نرى أن خطورة هذا الاتجاه ليس في مظهره، وفي الدوائر التي ظهر فيها فحسب، بل في جوهره الذي انطلقت منه، وفي سرعة تسربها، واتساع قاعدتها، كل حين، والتي ستقود الناس للتمسك بالقشور دون اللباب، والتفريط في القيم الإنسانية، والخلق القويم.. والضحية أولا وأخيرا هي المرأة، التي ارتضت لنفسها أن تصبح سلعة ينخفض، ويرتفع، سعرها على حساب حقها القانوني، والإنساني، فهي لا تملك حق الدخول في العلاقة، ولا المشاركة الكريمة فيها، ولا حق الخروج منها.. فالرجل وصي عليها، وينفرد بحق تطليقها كما عنده مطلق الحق أن يتزوج عليها متى شاء.