إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الضحية غير واجبة!!
لا علي الفقراء!! ولا علي الأغنياء!!

الرسول الكريم يضحى عن أمته فيسقط عنها الضحية:


وفدى الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأن ضحى عنها، فأسقط الضحية عن كافتها!! جاء في تفسير ابن كثير، الجزء الرابع، صفحة 642 (عن على بن الحسين عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: "اللهم هذا عن أمتي جميعا، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لى بالبلاغ" ثم يأتي بالآخر فيذبحه بنفسه ثم يقول: "هذا عن محمد وآل محمد" فيطعمهما جميعا للمساكين، ويأكل هو وأهله منهما.. رواه احمد، وابن ماجة..) ثم يمضي ابن كثير فيقول، في صفحة 646: (وقد تقدم أنه عليه السلام ضحى عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم)..
فالنبي الكريم بضحيته، عنه، وعن آل بيته، وعن أمته، إنما فعل سنة ابيه ابراهيم، ولكنه لم يستن الضحية ابتداء.. فعل سنة ابراهيم فاختتمها، وفدى امته عنها، وافتتح عهدا جديدا للتقرب إلى الله بالعلم، وفدى النفس بالفكر، لا بالحيوان، وهو في نفس الوقت، إنما جارى عادة سائدة، فهذبها، وتسامى بها، وفتح الطريق إلى ما هو خير منها..
ونسوق فيما يلي دلائل أخرى على إسقاط الرسول الكريم للضحية عن أمته: (1/جاء في "سبل السلام"، الجزء الرابع، صفحة 91: (وقد أخرج مسلم وغيره من حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخلت العشر فأراد أحدكم أن يضحى فلا يأخذ من شعره ولا بشره شيئا قال الشافعي: إن قوله "فأراد أحدكم" يدل على عدم الوجوب)، وفى (بداية المجتهد ونهاية المقتصد)، الجزء الأول، صفحة 464 مثل هذه الرواية، ومثل هذا التعقيب...
2) / وتدل الروايات على أن النحر قد كتب على الرسول الكريم، ولم يكتب على أمته، قياما عنها بسنة هذه العادة الموروثة وفداء لها بإسقاطها عنها.. فقد اورد (سبل السلام) في نفس الصفحة السابقة: (ولما أخرجه البيهقي أيضا من حديث ابن عباس قال: "ثلاث هن على فرض ولكم تطوع" وعد منها الضحية.. وأخرجه أيضا عن طريق آخر بلفظ: "كتب على النحر، ولم يكتب عليكم".. فالنبي الكريم ضحى إسقاطا لوجوبها على أمته، وضحى أصحابه تطوعا، لا وجوبا، وكبارهم، وعلماؤهم، وأثرياؤهم، تركوها، فلم يضحوا، عملا بحكم إسقاطها، كما سنرى بعد قليل..
3) / وجاء في (سبل السلام)، صفحة 96: (وأخرج البيهقي من حديث عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن الضحية وأنه قد لا يجدها، فقال: (قلّم أظافرك، وقص شاربك، واحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل)!! رواه أيضا أبو داؤود في سنن أبى داؤود الجزء الثالث، صفحة 93.. وفى هذا الحديث إشارة لطيفة إلى استبدال الضحية بالحيوان بعمل يتجه إلى تهذيب بقايا الموروث الحيواني في البشر، أنفسهم، وهي الشعر والأظافر، مما يفتح الطريق أمام قيمة جديدة هي أن يفدي الإنسان نفسه، بتهذيب نفسه لا بكائن خارجه، إنسانا كان أو حيوانا!!

الصحابة لا يضحون!!


جاء في تفسير ابن كثير الجزء الرابع صفحة 646 (وقال أبو سريحة "كنت جارا لأبي بكر وعمر وكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما) وجاء في "سبل السلام" الجزء الرابع صفحة 91: (وأفعال الصحابة دالة على عدم الإيجاب - إيجاب الضحية - فأخرج البيهقي عن أبى بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان خشية ان يقتدى بهما) وجاء في "الاعتصام" للشاطبي الجزء الثامن صفحة 91 (وكان الصحابة رضى الله عنهم لا يضحون - يعنى أنهم لا يلتزمون) وهكذا.. فلو لم تسقط الضحية عن الأمة لكان الأصحاب، وعلى رأسهم الشيخان، أولى الناس بأدائها.. وأبو بكر وهو من عرف بتحري الاتِّباع، والتجافي عن الابتداع، وقد أورد عنه كتاب (الاعتصام) للشاطبي، في صفحة 55: (وعن أبي بكر الصديق رضى الله عنه انه قال: لست تاركا شيئا كان رسول الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى أن تركت شيئا من أمره أن زيغ)!!
وإليكم طائفة أخرى من الصحابة أدركت سقوط الضحية عنها، فلم تضح، بل ذهبت شتى المذاهب لتأكيد هذا السقوط: - فقد أورد "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، الجزء الأول، صفحة 464: (قال عكرمة: بعثني ابن عباس بدرهمين أشتري بهما لحما، وقال: من لقيت فقل له هذه أضحية ابن عباس!! وروي عن بلال أنه ضحي بديك)!!
وذكر "سبل السلام"، الجزء الرابع، صفحة 91: (وأخرج عن أنه إذا حضر الأضحى أعطى مولى له درهمين فقال: اشتري بهما لحما، وأخبر الناس أنه ضحية ابن عباس، وروي أن بلالا ضحى بديك، ومثله روي عن أبي هريرة، والروايات عن الصحابة في هذا المعنى كثيرة..) وروى الشاطبي في "الاعتصام" نفس الرواية، في نفس الموضوع السابق، كما روي عن بلال قوله: (لا أبالي أن أضحي بكبشين أو بديك).. وهكذا فإن (ضحية) ابن عباس باللحم، و(ضحية) بلال بالديك إنما هي إمعانا منهما في تأكيد سقوط الضحية.. وقد ذهب ابن عباس الي أكثر من ذلك فيما يرويه "الاعتصام"، صفحة 91: (وقال طاقوس: ما رأيت بيتا أكثر لحما وخبزا وعلما من بيت ابن عباس، يذبح وينحر كل يوم، ثم لا يذبح يوم العيد)..
أما عبد الله ابن مسعود فلم يدع قط حجة لمحتج بوجوبها، لا على المعوزين، ولا على الموسرين!! فقد روى الشاطبي في "الاعتصام"، الجزء الثاني صفحة 91: (وقال ابن مسعود: إني لأترك أضحيتي، وإني لمن أيسركم، مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة)!!
وبعد، فهل عسانا نحتاج، بعد قول النبي الكريم، وأقوال صحابته، وأفعالهم إلى دليل نقلي آخر على سقوط الضحية، في حق الأمة؟؟ أم هل عسى من يعدل عن هذه الواضحة أن يكون أكثر حرصا على الاتّباع من أبي بكر، وعمر، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وعبد الله بن مسعود، وبلال، وسائر الصحابة؟؟

ضعف أدلة وجوب الضحية:


وأدلة وجوب الضحية ضعيفة، في حد ذاتها.. فقد ذكر "سبل السلام"، الجزء الرابع، صفحة 91 حديث (من كان له سعة ولم يضح فلا يقربنّ مصلانا)، وحديث (على أهل كل بيت في كل عام أضحية) وآية (فصل لربك وانحر)، وقال: (والحديث الأول موقوف فلا حجة فيه والثاني ضعف بأبي رملة، قال الخطابي: انه مجهول، والآية محتملة فقد فسر قوله- وانحر- بوضع الكف على النحر في الصلاة، أخرجه ابن أبي حاتم، وابن أبي شاهين في سننه، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس، وفيه روايات من الصحابة مثل ذلك، ولو سلم فهي دالة على أن النحر بعد الصلاة فهي تعيين لوقته لا لوجوبه) انتهى.. وقد ذكر "تنوير المقباس" في تفسير ابن عباس هذا التفسير للآية أيضا..
وجاء في تفسير ابن كثير، الجزء الرابع، صفحة 646 حول حديث (من وجد سعة فلم يضح فلا يقرب مصلانا) (على أن فيه غرابة وأستنكره أحمد بن حنبل)، وتعليقنا على هذا الحديث جاء في (سنن ابن ماجة)، الجزء الثاني، صفحة 26: (وقد ضعّفه أبو داؤود، والنسائي..)، ووجه الصحة في الأمر أن الضحية قد سقطت في حق الأمة، فقيرها، وغنيها، ولكنها إنما كانت تؤدى أحيانا من بعض الأصحاب تطوعا، ولا عبرة إطلاقا، برأي بعض الفقهاء بوجوب الضحية حتى ولو بالاضطرار إلى استدانة ثمنها (الفقه على المذاهب الأربعة، صفحة 715)، فإنه قول بالرأي، يتناقض مع روح الدين، وحكمة مشروعية أحكامه ونصوصه!! ويرى بعض الفقهاء وجوبها على الموسرين فحسب.. جاء في تفسير ابن كثير، في نفس الموضع السابق: (وقد ذهب أبو حنيفة ومالك الثوري إلى القول بوجوب الضحية على من ملك نصابا) ثم أورد الرأي الآخر: (وقال الشافعي وأحمد: لا تجب الأضحية بل هي مستحبة كما جاء في الحديث "ليس في المال حق سوى الزكاة") فالقول بعدم وجوبها على الموسرين، والفقراء، على السواء، إنما يتمشى مع روح الآثار القرآنية، والنبوية، وأقوال وأفعال الصحابة.. أكثر من ذلك!! فلا معنى حتى لأن يقال انها مستحبة في حق الموسرين. وقد حسم أكابر الصحابة، ومنهم الموسرين سقوطها عنهم، حسما جازما لا لبس فيه ولا شبهة.. والفقهاء يقولون عن الضحية: (سنة عين مؤكدة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها) - الفقه على المذاهب الأربعة، الجزء الأول، صفحة 715.. وذلك أخذا بما كان عليه الأمر أيام مرحليتها كعمل تطوعي من الأصحاب، ولكن هذا التعريف قاصر تماما عن مبلغ الأمر، فقد حسم الصحابة مرحليتها بسقوطها عنهم، قولا، وفعلا بصورة نهائية.