الفصل الثاني
العودة بالضحية الي أصلها
إن الضحية في حقيقتها وأصلها هي فداء الكامل بالناقص ومن ثم فدي الإنسان بالحيوان (و فديناه بذبح عظيم) والمطلوب أساسا هو مواجهة النقص داخل الإنسان والذي قد يبلغ أن يضحي الفرد بنفسه تقربا وتفدية أو يضحى به تفدية للآخرين. قال تعالى: (توبوا إلى بارئكم فأقتلوا أنفسكم) وقال (إني أرى في المنام أني أذبحك) ولكن بتقدم العلم والمعرفة الدينية كما سبق أن وضحنا فُدي الإنسان بالحيوان ولكن التقرب بذبح الحيوان وبكل القربات إنما هو لتهذيب النفس وهو تهذيب يبدأ من خارج النفس ثم يدق وينسحب إلى داخل النفس ومطاردة النقص في أغوارها والآن فإن حاجتنا للسلام هي حاجة حياة أو موت والسلام لا يتحقق في الأرض إلا إذا تحقق في النفس الإنسانية ولن تحقق النفس السلام الداخلي وهي تنطوي على نفسها ومن ثم فإن الضحية الآن، ترجع الي أصلها وحقيقتها، وهي قتل النقص في الإنسان، ولمّا كانت النهاية تشبه البداية، ولا تشبهها، فإن القتل الآن هو القتل المعنوي بالفكر القوي، الدقيق، الذي به نتخلص من نقائصنا، ولذلك فإن الوقت الآن هو وقت الجهاد الأكبر، جهاد النفس.. فالمطلوب اليوم ليس التقرّب إلى الله بقتل الكافر، أو ذبح الحيوان، وإنما المطلوب قتل النفس السفلى في كل فرد منا استجابة للأمر النبوي (موتوا قبل أن تموتوا) وهذا ما سنفصل طرفا منه، فيما يقبل من هذا الفصل..
في عهد السلام الفكر، لا الحيوان، هو القربة والفداء:
لقد أسقط الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم الضحية عن أمته!! ووعي أصحابه ذلك، والتزموه، إيذانا بنهاية عهد القربة الي الله، والفداء بالحيوان، وافتتاحا لعهد القربة، والفداء بالفكر!! الفكر المروض بالعبادة، المؤدب بأدب الدين، المخلّص من هوى النفس، وهو الفكر المستقيم، ولقد كان جوهر السنة النبوية هو الفكر المستقيم حتى يمكن أن نعرف السنة بأنها الفكر!! قال الأستاذ محمود محمد طه في كتاب "طريق محمد" (وقد كانت حياة النبي كلها خيرا، وحضورا، وفكرا، في كل ما يأتي وما يدع، وكما كانت عبادته فكرا، وتجديدا، لا عادة فيها، كذلك كانت عاداته، في الفكر، عبادة، ووزنا بالقسط.. فقد كان يقدم الميامن على المياسر، ويحب التيامن، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما وكان في جميع مضطربه على ذكر، وفكر، فهو لا يقوم، ولا يجلس، إلا على فكر، وكذلك كان نومه، وأكله، ولبسه، حتى كانت حركاته تجسيدا لمعاني القرآن وكان من ثمرات صلاته، وفكره، وذكره، في جميع حالاته، حلاوة شمائله التي حببته إلى النفوس، ووضعته مكان القدوة) انتهي. والنبي الكريم هو القائل (تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة) ذلك بأن الفكر المستقيم جماع تكاليف الإسلام، فما أنزل القرآن، وما شرعت الشرائع، وما عزمت العزائم إلا لإنجاب الفكر المستقيم، قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل اليهم، ولعلهم يتفكرون).
والكرامة البشرية إنما لا تتحقق، في قمتها، إلا إذا صحح الفرد البشري حاله، وطور قدرته من داخله، عن طريق فكره، لا بوسيلة خارجة عنه، كالحيوان، يفدي بها نفسه، أو يتقرب بها إلى الله. ففداء الفرد البشري نفسه بنفسه، بوسيلة الفكر في الاستغفار، والشكر، مثلا، وهما عملان فكريان، في المقام الأول، إنما هو إيقاظ لهذه القوى الدرّاكة وتنمية لها لتتحمل مسئوليتها التامة عن تصحيح خطئها، والتسامي بحالها.. وفي فداء الفرد البشري نفسه بنفسه، عن طريق فكره، فداء للحيوان من أن يتخذ وسيلة تقرّب أو تفدية، وتوسيع، بذلك، لقاعدة الحياة، وتسام بالعلاقة مع كل الأحياء والأشياء.
نهاية الضحية في عهد السلام:
وثمة وشيجة بين ذبح حيوان الضحية، وقتل الكافر، في الإسلام. فقد شرعت الحرب، في الإسلام، على الكفار، لاعتبارات مرحلية، هي أن عقول أولئك الكفار لم تكن من النضج بحيث تستطيع أن تعرف الحق وتلتزمه، ففرضت عليها تلك الوصاية الغليظة.. وحتى قتال الكفار، بأيدي المؤمنين، نفسه، إنما كان مرحلة متطورة، وملطفة على مرحلة تعذيب الكفار، في الأمم الماضية، بالعناصر الصماء، كالطوفان، والريح، والصواعق، وقد كانوا أشد فظاظة، وغلظة وتبلّدا، قال تعالى عن هذه (الحرب): (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين)، وقد نزلت مثل هذه الآية من آيات (الحرب) في المدينة، ناسخة لآيات (السلام) والتي لم تكن البشرية يومئذ بمستطيعة أن تستجيب لها، مثل آية: (وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر..) واليوم، وفي هذا العصر الذي صارت فيه حاجة البشرية إلى السلام حاجة حياة، أو موت، بعد أن عجزت الفلسفات المعاصرة عن تحقيق السلام العالمي، عجزا تاما، وصارت العقول البشرية إلى النضج، وإلى إمكانية معرفة الحق، والتزامه، صار حكم الوقت يقتضي أن نبعث آيات (السلام)، وننسخ أيات (الحرب).. وتحت ظل عهد (السلام) هذا، الذي لا يبلغ غايته إلا ببعث الإسلام، تسقط أيضا الضحية بالحيوان!! فيفدى الحيوان من أن يتخذ ذبحه قربة دينية (ألم يكن المؤمن مأجورا على قتال الكافر؟؟).. ولقد يكفي أن يكون الكافر، بمجرد كفره، فداء للمؤمن، لقوله تعالى: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)، كما يكفي أن يكون مجرد وجود الحيوان، فداء للبشر، وذلك بارتفاع البشر درجة فوق الحيوانية، وأن يكون الحيوان مسخرا لمنفعة البشر..
وفي عهد (السلام) (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).. والمسلم هنا تتسع لتشمل الأحياء والأشياء!! ذلك بأن كل عاقل، وكل غير عاقل مسلم لله تعالى!! والدليل: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون) و(وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم).. ولذلك، ففي عهد (السلام) يكف المسلم يده عن ذبح الحيوان بغرض الفداء أو التقرب، وهو يملك وسيلة، الي ذلك أفضل، وأعمق، وهي الفكر!!