إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

أسئلة وأجوبة - الكتاب الأول

بســم الله الرحمن الرحيم

حضرة الإبن المبارك أحمد الحسين الحسن
تحية طيبة و بعد فإنه يسعدني حقاً أن أجد الوقت للإجابة على أسئلتك الذكية ، التي إنبعثت ، في غالبيتها من إطلاعك علىأسئلة الأستاذ السنوسي و الأجوبة عليها ، وهذه الأسئلة تعطيني الفرصة للتوسيع، و التفريع ، على أجوبة بعض أسئلة الأستاذ السنوسي: ـ

الإيمان بوجود الله ـ هل هو غاية أم وسيلة ـ أعني هل هو بداية كل خير؟


الجواب: الإيمان بوجود الله وسيلة.. والغاية الإنسان. وذلك لأنه بالإيمان تبدأ حوالة المشاكل الكبرى على الله، فتبدأ طمأنينة النفس في مواجهة ما يكربها من الآفات.. وليس في الوجود خير إلا ويأخذ مبدأه من الإيمان بالله ــــــ قال تعالى: "إن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، يهديهم ربهم بإيمانهم، تجري من تحتهم الأنهار، في جنات النعيم" وليس هناك عمل، لا يقوم على الإيمان، يمكن أن يكون صالحاً، قال تعالى في ذلك: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً" وذلك لأن الإيمان يقوم مقام الفكر، حين يعجز الفكر ــــــ ومقام الفكر، من الأعمال، هو مقام الروح من الجسد ــــــ ومعلوم أنه لا صلاح للأجساد بدون الأرواح.. هل الإيمان بداية كل خير؟ نعم، وهو في ذاته خير، ولا سبيل إلى الخير بدونه..

هل الإيمان بالله ضروري كحافز لعمل الخير ؟ إذا أوجدنا للماركسية حوافز إنسانية ، غير حوافز الخوف ، و التضليل ، و لكن هذه الحوافز لا تحوي الإيمان ، هل تقترب من الكمال؟


الجواب: ليست هناك حوافز إنسانية لا تحوي الإيمان، لأن إنسانية الإنسان إنما تتحقق بإقامة العلاقة بينه وبين الله.. وقد يظهر لنا إننا نستطيع أن نتحدث عن الإنسانية بدون إيراد ذكر الله، ولكن، لدى تحقيق الإنسانية في مضمار الفكر، والسلوك البشري، لا يكون أمر بغير الإيمان بالله. فكأنك لا تستطيع أن توجد للماركسية حوافز إنتاج لا تقوم على الخوف والتضليل، وذلك لسبب واحد، بسيط، هو أن الماركسية، بطبيعتها، لا تستطيع أن تقدم للإنسان غير الخوف، والتضليل، حين قطعت العلاقة بالله، والإيمان.. إن الإنسانية تتطلب هزيمة الماركسية، لأن الطريق إلى الاشتراكية أولاً، وإلى الشيوعية ثانياً، وإلى الديمقراطية، مع هذه وتلك، لا يقع إلا على أنقاض الماركسية.. هذه حقيقة لم تتضح معالمها للناس بعد، ولكنها ستتضح عما قريب، إن شاء الله.. فالماركسية أكثر الفلسفات المعروفات خطأً، وأقلها إنسانية..

ألا يمكننا أن نكون إنسانيين ، وأخلاقيين ، وأصحاب ضمائر ، من غير أن نؤمن بالله ؟


الجواب: بهذه المناسبة أحب أن أنبه إلى أن الإيمان بالله يقع على مستويين: مستوى مشعور به في العقل الواعي، وهذا هو الإيمان الذي نقصده دائماً بالعبارة، عندما نتحدث. ومستوى غير مشعور به في العقل الواعي، وإنما هو مترسب في العقل الباطن، وهذا لا يخلو منه موجود في الأرض، ولا في السماء.. لأنه القيومية التي قامت بها الأشياء.. فإذا علمت هذا، علمت أنك لا يمكن أن تكون ــــــ مجرد كيان ــــــ دع عنك أن تكون إنسانياً، أو أخلاقياً، بغير الإيمان.. فإذا اعتبرت أن الملحد قد يكون على طرف من الإنسانية، والأخلاقية، والضمير، كما هو مشاهد في بعض الأحيان، فإنما ذلك لأن ما تراه عنده يرجع أيضاً إلى الإيمان بالله، ولكن الملحد غير شاعر بهذا الإيمان.. فحاصل الأمر أنك لا يمكن أن تكون أخلاقياً، ولا إنسانياً، بصورة تثبت على الابتلاء، والامتحان، إلا إذا كنت مؤمناً إيماناً مشعوراً به.. وإلا، فإن الله يبتلي المدعين، ويفضحهم في عقر دارهم.. قال تعالى :"ألم * أحسب الناس أن يتركوا، أن يقولوا آمنا، وهم لا يفتنون؟ * ولقد فتنا الذين من قبلهم.. فليعلمن الله الذين صدقوا، وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا؟ ساء ما يحكمون".. وعبارة "أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا؟ ساء ما يحكمون"..تعني: هل يظن الذين يجحدون الإيمان أن يتركوا على جحدهم هذا إلى الأبد؟ لقد أخطأوا الحكم إذن..
ثم ما هي الإنسانية؟ وما هي الأخلاقية التي تفكر فيها أنت، وأفكر فيها أنا؟ فأما الإنسانية فهي القيمة الأخلاقية التي تميز بها الإنسان عن الحيوان، وعن الملك.. فهناك، مثلاً، في الحيوات العليا الحيوان، والإنسان، والملك.. فالإنسانية صفة وسطى بين الحيوان، والملك.. هي نقطة التقاء الحيوان والملك.. وهي أكمل من كليهما، وذلك لمكان الحرية فيها، وهنا تجئ الأخلاقية.. فإن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة.. والحرية من حيث هي مقيدة، أو مطلقة، إنما هي نفحة من الله تضوعت على أرض الإنسانية. وإنما يجئ القيد من عجزنا نحن عن التلقي عن المطلق.. فالحرية المقيدة، إنما هي تدلي نسبي، عن الحرية المطلقة.. والحرية المطلقة هي الله.. لأنها صفته، ولأنها أخلاقه.. ومن أجل ذلك قال المعصوم "تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على صراطٍ مستقيم" وقال تعالى "كونوا ربانيين، بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون" أي كونوا علماء وكونوا أحراراً بغير حدود للحرية، إلا حدوداً تجئ من واجب حسن التصرف في الحرية. وهذه هي الأخلاقية التي تسأل عنها أنت، وهي هنا التي جعلت الإنسان إنساناً، فوق مرتبة الحيوان، وفوق مرتبة الملك. ويتضح لك، من هذه الأسطر، أن الإيمان أصل فيها، وهو أصل يصحبها في جميع مراقيها، وهي تنطلق من الحرية المحدودة، إلى الحرية المطلقة

كيف نفرق بين ما هو صحيح ، و ما هو خاطئ ، من القيم الإنسانية ؟ كيف أعرف أني تدخلت في حرية غيري إذا كان غيري يسره ذلك؟


الجواب: معرفة ما هو صحيح، وما هو خاطئ من القيم الإنسانية يحتاج إلى علم، ما في ذلك أدنى ريب، وبخاصة عندما تدق الأمور. فقد قال المعصوم "الحرام بين، والحلال بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه، ولعرضه"، وقال مرة" الحرام ما حاك في نفسك، وخشيت أن يطلع عليه الناس" فالأمر في معرفة الصحيح والخطأ الغليظين إذن واضح، ولكن الحيرة تجئ عندما تدق المعاني، بالقرب من خط الاستواء، حيث تنعدم الظلال.. فإن التمييز عندئذ يحتاج إلى قوة فكر، وحدة ذكاء، لا يكتسبان إلا عن طريق ممارسة العبادة. فإن الله تعالى يقول "يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم، والله ذو الفضل العظيم" والفرقان هو النور الذي به يكون التمييز بين الخطأ والصواب من القيم الإنسانية، عندما تدق الأمور ويقع اللبس بين صور الأشياء..
وللإجابة على الشطر الثاني فإن الفيصل في الحكم على معاملتك الناس هو أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك.. ضع نفسك مكان من تعامل.. والقاعدة الرفيعة جداً هي أن يعامل كل إنسان وكأنه غاية في نفسه، فلا يتخذ وسيلة إلى غاية وراءه.. ولن يكون الحكم على صحة المعاملة رضا الطرف الآخر عنها، وإنما رضا الحق عنها.. وذلك لأن الطرف الآخر قد يكون جاهلاً.. وقد يكون مختل القوى العقلية.. فتكون حينئذ أنت المسئول عنه..

هل يمكننا اليوم أن نعتبر بعض الناس قصراً ، و الآخرين رشداء ، وبالتالي نخول للرشداء الولاية على القصر ؟ ؟


الجواب: لا !! القاعدة الذهبية التي يجب ألا تغيب عن أذهاننا هي أنه ليس هناك رجل هو من الكمال بحيث يؤتمن على حريات الآخرين، فثمن الحرية الفردية هو دوام سهر كل فرد عليها.. هذه القاعدة الذهبية تؤخذ من الآيتين، الكريمتين.. "فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر" وقد اعتبرت هاتان الآيتان منسوختين في حق الآمة المؤمنة قبل أربعة عشر قرناً، وأستعيض عنهما بآية الوصاية ــــــ آية الشورى ـــــ "وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت، فتوكل على الله"..
واليوم، ونحن نستقبل فجر الأمة المسلمة، فقد أنى للآيتين المنسوختين "فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر" أن تبعثا، ليكون العمل عليهما، وللآية الناسخة، التي كانت صاحبة الوقت في القرن السابع، أن تنسخ، لأن وقتها قد مضى، وسيجيء يوم، في المستقبل، عندما تبدأ البشرية تنحدر، بعد أن تكون قد بلغت أوجها، يكون فيه لآية القرن السابع هذه، مجال تبعث فيه من جديد.. فكأن النسخ متداول بين الآيتين هاتين وبين آية الشورى.. فالآيتان تنسخان مرتين، وتطبقان مرة واحدة . وآية الشورى تنسخ مرة واحدة، وتطبق مرتين.. وفي تطبيقها الأخير تكون البشرية قد أخذت في الانحدار، ثم لا يكون لها ارتفاع ثانية، إلا يسيرا.. فتسير بذلك من مرحلة الشورى، إلى مرحلة يستبد فيها بها حكامها.. ثم لا يكون صلاح، وإنما فساد، يتلوه فساد أكبر منه، فيصير الناس، بذلك، ما يبكون من شيء إلا بكوا عليه، لسوء ما يعقبه، إلى أن تقوم الساعة، ويحل الخراب..

ما علة وجود الله ؟


الجواب: ليس لله علة وجود.. لأن وجوده مطلق.. فهو علة وجوده، فالعلة، بالمعنى المتعارف، سبب سابق على المعلول، وليس وجود الله تعالى بمسبوق بوجود.. وهو واجب الوجود لذاته، وبذلك فهو علة وجوده.. وليست هذه العلة هي ما تسأل أنت عنه هنا.. فإن سألت عن علة وجود الخلق فالجواب عتيد.. فإنما علة وجود الخلق أن يكونوا كاملين عن طريق العبادة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى "وما خلقت الجن، والإنس، إلا ليعبدون"

هل يمكن للإنسان ، بتركيز الشعور ، و الفكر ، أن يتحرر من الألم .. هل يمكن أن يحصل ذلك في لحظات؟


الجواب: طريق الخلاص من الألم، في جميع صوره، هو قوة الفكر، وسعة الشعور.. والحياة الكاملة، المتحررة من الآفات، والنقائص، والموت، هي حياة الفكر، وحياة الشعور.. وليس طريق هذه الحياة بتركيز الفكر، وإنما بتحرير الفكر من رواسب الخوف، وسيطرة الأوهام.. ويتبع هذا التحرير سعة في الشعور.. ولكن قد يوجد من يصل إلى المقدرة على التركيز دون التحرير، كما يفعل فقراء الهنود، فتكون له، في لحظات، ومضة من حياة الفكر، وحياة الشعور، بها يقهر الألم.. ولكن ذلك خلاف الأولى.. إذ الأولى أن نصل إلى هذه المرتبة عن طريق التحرير الوئيد الذي يجئ نتيجة المعرفة بالله.. وذلك عن طريق ترك الإرادة، تسليماً للإرادة التي أحاطت بكل شيء، لا عن طريق تركيز الإرادة..