الهجرة من القلب إلى العقل:
ومن الدلالات العرفانية الدقيقة للهجرة انها إنما تمثل الهجرة من القلب إلى العقل: القلب في مقابل مكة، والعقل في مقابل المدينة.. وقد جاء الإسلام ليخاطب القلب الذي يمثل كل القوى المودعة في البنية البشرية، ليخاطب الفطرة البشرية، من حيث هي بشرية، ولكن لما كان الوقت ليس وقت تلك الدعوة، كانت الهجرة من القلب، إلى العقل حيث خوطب العقل، في معنى ما خوطب شطر دون شطر من البنية البشرية، فخوطبت البشرية في المستوى العقيدي الذي يفرق على أساس العقيدة.. والهجرة من القلب إلى العقل إنما تمثل نشأة العقل.. فقد ظهر، أول ما ظهر، القلب، ثم برز منه العقل بعوامل الخوف ليدرأ عن القلب الخطر، وليؤمن له الطريق (مثلما كانت الهجرة من مكة إلى المدينة بمثل ذلك الدافع).. والهجرة الثانية إنما هي بمثابة عودة العقل إلى القلب.. بأن ينزل العقل قريبا من القلب.. فيصير إدراك العقل أقرب إلى وترية إدراك القلب.. فالعقل يدرك الأشياء بأضدادها، فإدراكه ثنائي، بينما القلب هو صاحب الإدراك الوتري، ولذلك فالقلب يدرك الحقيقة الإلهية الأزلية بأكثر مما يدركها العقل.. وهي حقيقة وترية لا ضد لها، ومطلقة تمتنع الإحاطة بها.. وعندما يتم إدراك العقل بهذه الصورة، يرفع حجاب الفكرة، وتتم الاستقامة (وزنوا بالقسطاس المستقيم).. وهو ما حدث للنبي الكريم في ليلة المعراج، في مقام (ما زاغ البصر، وما طغى) عندما توقف جبريل عند سدرة المنتهى، في معنى ما توقف الإدراك الثنائي، ورفع حجاب الفكر، فتقدم القلب ليشهد الرب (ما كذب الفؤاد ما رأى).. والعقل سريع العودة من منطقة القلب.. فلا مقام له هناك، وإنما هي الإلمامة بين الفينة والفينة.. وتمثل عودة العقل إلى القلب عودة النبي الكريم إلى مكة، في حجة الوداع، ووقوفه بعرفات التي تمثل العقل، قريبا من مكة، التي تمثل القلب، ثم عودته منها إلى المدينة.. هذه هي المعاني العرفانية والسلوكية المستمدة من الهجرة النبوية، وهي إنما تشكل منهاجا لهجرة السالك، بواجباتها، وبأدبها، وبدقائق أسرارها..