الهجرة السلوكية بمنهاج التحرر من الكبت:
والنبي الكريم بهجرته من الارض إلى السماء، بمعراجه الحسي قد جمع بين الهجرتين فتمت له الوترية وبذلك قد تحرر من أكبر القيود التي تستعبدنا، وهو الزمان، والمكان، فشهد من لا يحويه الزمان والمكان، حيث لم يشتغل فكره بالماضي، ولا بالمستقبل، وانما قد توحد، حتى ألغى نفسه وعاش لحظته الحاضرة، حاضرا مع الله بكليته، لا يغفل عنه.. ولذلك تحرر النبي من ظلال الخوف الذي يُؤاف به الانسان، ميراثا واكتسابا، والذي أملاه الجهل بحقيقة الوجود، فأُطلع النبي على الحقيقة الأزلية، ثم عاد إلى الارض بمنهاج الصلاة، له، وللبشرية جمعاء، به يحقق هو وتحقق البشرية المقتفية لآثاره ذلك التوحيد الداخلي، وتلك الحرية الداخلية...
ومنهاج التحرر من الخوف أو التحرر من الكبت، إنما هو منهاج به يهاجر السالك في طريق محمد، في داخل نفسه، يحل عقدها، ويعالج انفصامها، ويعيد بناءها.. وقد حقق محمد بهذا المنهاج إنسانيته، بتحقيق سلامة فطرته – صفاء عقله، وسلامة قلبه.. وجوهر هذا المنهاج أدب الوقت.. وذلك بتنقية البال من الهم، وأكبره هم الرزق.. وذلك بتقليل الحاجات، وتقصير الأمل، وترك التمني، والاشتغال بواجب الساعة، بدون الندم على ما نقص من الدنيا، حيث الأولى الندم على ما نقص من الدين، وبدون الفرح المبطر الذي يذهب بأدب النفس: (ما أصاب من مصيبة في الأرض، ولا في أنفسكم، إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور).. فالسالك المهاجر كثير الإنتاج، قليل الاستهلاك.. حريص على المال العام، وعلى المرافق العامة.. يعطي الآخرين من نفسه، ووقته، وماله، أكثر مما يأخذ منهم، لأن القيمة الأصلية، عنده، هي القيمة الأخلاقية: (الدنيا مطية الآخرة).. والسالك المهاجر واسع الحرية الداخلية، بعدم نزوعه إلى التسلط، والي التكبر، أو إلى الترفع عن الخدمة، أو إلى إضمار الحقد، أو إلى الاشتغال بعيوب الآخرين.. بهذا المنهاج يتحرر السالك المهاجر من كثير من عقد الكبت التي تشوه الخلقة البشرية..
كما أن هذا المنهاج هو الذي به يتم التحرر من أول، وأعنف، كبت وقع على النفس البشرية، وهو الكبت الجنسي.. فالإنسان قد دخل طور بشريته، وهو يرث من طور حيوانيته غريزة الحياة، والغريزة الجنسية، وهي أكبر معبر عن غريزة الحياة.. ولذلك لم يكن قيام المجتمع، ولا تطور الفرد، ممكنا إلا بكبت هذه الغريزة بفرض القوانين، والأعراف التي تنظمها.. وقد ورث الإنسان، من الحيوان، الغيرة الجنسية، وأخذ يعبر عنها بشتى الصور، حتى تبلورت كثمرة لتهذيبها قيمة العفة، فجاءت الأديان الكتابية تهذب الغيرة، وتتسامى بالعفة، وكان لحد الزنا والقذف أثر كبير في تطوير العلاقة الجنسية..
والمنهاج النبوي إنما هو منهاج للعفة الجنسية، يستعين بالعبادة والمعاملة ليبلغ بالرجل مبلغا تكون فيه نظرته لأي امرأة عدا زوجته، هي نظرته لأخته، وليبلغ بالمرأة مبلغا تكون فيه نظرتها لأي رجل، سوي زوجها، هي نظرتها لأخيها، وذلك استيقانا للحقيقة بأن لكل رجل زوجته الواحدة في الحقيقة، ولكل امرأة زوجها الواحد في الحقيقة.. (ومن كل شيء خلقنا زوجين) وحتى تبلغ الغيرة عند الرجال مبلغ المعرفة التامة بالله ليكون الله، وحده، هو الحافظ للعرض... ومنهاج العفة يبدأ من بدايات بسيطة ولكنها عميقة الأثر في تهذيب الغريزة الجنسية، وإكسابها (التوحيد) بدل (التعديد).. فهو يبدأ بغض البصر، وبحفظ اللسان واليد، وبحفظ الجوارح كلها، حتى يكف الخاطر نفسه عن العدوان على أعراض الآخرين.. ومن هذا المنهاج منع الخلوة بين الأجانب من النساء والرجال، وعدم التبرج وعدم التبذل.. هو منهاج يبدأ بالرجال (عفوا تعف نساؤكم).. هو منهاج فيه يرعى الزوجان حضرة أبنائهما، كما يرعيان خلوتهما، بعدم التبذل والتهتك.. ويرعى كل رجل، وكل امرأة، خلوته، فيستحيي، ويستعصم.. ويخشى أن تشيع الفاحشة بين الناس، ويخشى، أكثر ما يخشى، أن يكون هو من الذين يحبون لها أن تشيع.. فالرجل غيور على العرض، ولكن على كل عرض، لا على عرضه هو وحده.. فهو عف، وهو يحب أن تشيع العفة.. ثم أن غيرته ليست تلك الغيرة المتهمة الجاهلة.. وإنما هي الغيرة الأصيلة على العفة، وعلى التصون.. ويستعين الرجل، وتستعين المرأة على التسامى بالعفة، وبالغيرة، بالعبادة، وبخاصة صلاة الليل، وبالمعاملة، وبخاصة الالتزام بأدب الغيرة، والعفة.. هذا هو منهاج العفة.. وهو في الحقيقة منهاج لفض الكبت.. فإن المنهاج الديني إنما يتميز بأنه (خطوة في الكبت وخطوة في فض الكبت).. ومن ههنا علميته، وفعاليته.. هذه صورة للهجرة السلوكية الداخلية..