الفكر هو السنة
لقد كرم الإسلام الفكر كل التكريم، وأعظمه كل الإعظام.. قال تعالى: ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم.. ولعلهم يتفكرون)) قوله، تبارك وتعالى: ((وأنزلنا إليك الذكر)) يعني القرآن كله.. قوله: ((لتبين للناس ما نزل إليهم)) يعني لتوضح للناس، بالتشريع، وبالتفسير، ما نزل إلى مستواهم من جملة القرآن.. قوله: ((ولعلهم يتفكرون)) هو الغرض المطلوب من إرسال الرسول، ومن إنزال القرآن، ومن تشريع الشريعة.. فلكأن الإسلام كله إنما هو نهج لتحرير الفكر، ولتسديد الفكر.. ولقد قال المعصوم: ((تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة)) ثم إن ((السنة)) النبوية المشرفة إنما كانت نهجاً مرسوماً لمحاربة العادة، ولإيقاظ الفكر.. يجري هذا منها في أبسط المستويات، وأيسرها، مما يستوي في المشاركة فيه الأمي الجاهل، والمتعلم.. فهو قد كان، في حركاته وسكناته، يقدم ميامنه على مياسره.. كان يفضل الميامن ويخصها بالبر.. كان إذا دخل على بيت الخلاء، مثلاً، يقدم شماله، ويؤخر يمينه.. فإذا قضى حاجته، وخرج، قدم يمينه.. وكان، إذا دخل المسجد، قدم يمينه.. وإذا خرج قدم شماله.. وكان إذا كان قائماً على فراشٍ وثير، هو أوطأ من النعل، وأراد أن ينتعل نعله، قدم رجله اليسرى.. وإذا كان الفراش الذي تحت قدميه غليظاً والنعل أوطأ منه قدم رجله اليمنى.. وكان إذا اضطجع استقبل القبلة، ويتوسد يده اليمنى.. فبمثل هذا الصنيع البسيط يتحرك الفكر، وينشط، وتدخل في الأعمال الروح.. وبهذه البداية البسيطة يسلك السالك لنهج ((السنة)) طريق الحكمة.. ذلك لأن الحكمة إنما هي وضع الشيء في موضعه.. وتفضيل الفاضل على المفضول من الحكمة، لأنه وضع الأشياء في مواضعها.. وهذه البداية البسيطة تتداعى بنا إلى أعلى القمم، لأن العبودية، وهي أعلى مراتب السالكين، إنما هي وضع الشيء في مكانه، إنما هي تقديم الفاضل على المفضول، إنما هي تقديم الرب، وتأخير العبد.. ولذلك فقد قال زعيم الطائفة الصوفية أبو القاسم الجنيد: ((وقدم إماما كنت أنت إمامه)) يعني قدم ((الله)) ليكون ((إمامك)) وكن أنت مؤتماً به.. وهذه العبودية الرفيعة يوصل إليها الفكر، حين ينهج نهج ((السنة)) المشرفة، في بدايتها هذه البسيطة، الموغلة في البساطة..
ووضع الأشياء في مواضعها قلنا إنه هو الحكمة.. ونقول إنه هو الشكر أيضاً.. ولقد قرن، سبحانه وتعالى، بين الحكمة والشكر، فقال: ((ولقد آتينا لقمان الحكمة: أن اشكر لله.. ومن يشكر، فإنما يشكر لنفسه.. ومن كفر، فإن الله غني حميد)).. ثم إنه قال، عن ندرة، وعزة، الشكر: ((اعملوا آل داوود شكراً.. وقليل من عبادي الشكور)).. قوله: ((وقليل من عبادي الشكور)).. يعني أن من العباد من نزلوا بعض منازل العبودية، وقصروا عن منازل ((الشكر)).. ذلك لأن ((الشكر)) قمة العلم، وقمة العمل.. فالشكر هو استعمال النعمة فيما خلقت له.. فكأنه علم بدقائق النعم، ومقدرة على تنفيذ العمل فيها، وفق رضوان الله.. ونعم الله لا تحصى.. بل إن نعمة واحدة من نعمه لا تحصى، قال تعالى: ((وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. إن الله لغفور رحيم)) قال: ((نعمة الله)) ولم يقل: ((نعم الله))..
الصلاة والصوم
الآية التي صدرنا بها هذا الكتاب تشير إلى الصلاة، والصوم: ((فاذكروني، أذكركم.. واشكروا لي، ولا تكفرون * يا أيها الذين آمنوا!! استعينوا بالصبر، والصلاة.. إن الله مع الصابرين)).. قوله: ((اذكروني أذكركم)) يعني كونوا معي بحضور عقولكم أكن معكم بنصري.. هذه مثل قوله، تبارك وتعالى: ((إن تنصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم)) فالنصر إنما هو على دواعي الجهل العارضة على الجبلة.. ((فذكر الله)) الحضور معه بجمعية عقل، وقلب.. والذكر غرض تحققه الصلاة، ولذلك فإنه قد قال، سبحانه وتعالى، لموسى الكليم: ((وأقم الصلاة لذكري..)) وقال لمحمد الحبيب ((أتل ما أوحي إليك من الكتاب، وأقم الصلاة.. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء، والمنكر.. ولذكر الله أكبر.. والله يعلم ما تصنعون)).. قوله: ((إن الصلاة تنهى عن الفحشاء، والمنكر)) هذه هي ((الصلاة الشرعية)).. وهي وسيلة لاستدامة الذكر، لأنها، حين تنهى عن الفحشاء، والمنكر، إنما تنور القلب، وتصفي الفكر، وتهدي جيشان الخواطر، فتقل بذلك الغفلة، وتطول الحضرة، وهي الذكر.. فذكر الله هو الحضور معه بلا غفلة.. وقوله: ((ولذكر الله أكبر)) إشارة إلى صلاة ((الصلة)).. فكأنه قد جاء، في هذه الآية، بصلاة ((المعراج))، وهي الصلاة الشرعية، وبصلاة ((الصلة)) وهي الصلاة الحقيقية، التي إليها يكون المعراج بالصلاة الشرعية.. فصلاة ((الصلة)) تقوم من صلاة ((المعراج)) مقام ((الروح)) من ((الجسد)).. فإن لم يكن في صلاة ((المعراج)) مقدار من صلاة ((الصلة))، يعني من الحضور مع الله، قل هذا الحضور أو كثر، فإنها لا تكون صلاة.. وينطبق عليها الحديث: ((رب مصل لم يقم الصلاة)).. قوله تعالى: ((والله يعلم ما تصنعون))، حوت كل العلم.. فالله صانع كل صانع وصنعته.. هناك حديث يقول: ((الصوم ضياء، والصلاة نور)).. والفرق بين ((النور)) و((الضياء)) محكي في قوله تعالى: ((هو الذي جعل الشمس ((ضياء))، والقمر ((نورا))، وقدره منازل، لتعلموا عدد السنين، والحساب.. ما خلق الله ذلك إلا بالحق.. يفصل الآيات لقوم يعلمون)).. فالضياء ((النور)) الأصيل.. والنور ((النور)) المعار.. فالجرم ((المضيء)) نوره منه، كالشمس، والجرم ((المنور)) نوره مستمد من غيره، كالقمر.. وعندهم أن الأرض، والشمس، والقمر، من آيات الآفاق تمثل الثالوث المودع في البنية البشرية، من آيات النفوس.. والله، تبارك وتعالى، يقول: ((سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟؟)) ((فالشمس))، من آيات الآفاق، في مقابلة ((القلب))، من آيات النفوس.. ((والقمر))، من آيات الآفاق، في مقابلة ((العقل)) من آيات النفوس.. ((والأرض))، من آيات الآفاق، في مقابلة ((الجسد))، من آيات النفوس.. ومعنى الحديث: إن الصيام، إنما هو حظ الروح فهو يشحذ الذكاء، ويعطيه نفاذاً، ومضياً.. ومعلوم أن ((البطنة)) تنيم ((الفطنة)).. والصيام، إنما يشحذ الذكاء، لأنه يؤثر على الدم، فينقيه، ويقلله ويحد بذلك من طيش، واندفاعات الشهوة.. وقد جاء في حديث المعصوم: ((إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالصوم)).. فإذا ما شحذ الصوم ذكاء ((روح)) العابد، ثم إن هذا العابد أقبل على الصلاة، فإن عقله يكتسب نوراً بتعرضه لضياء الروح، في أوضاع صلاته المختلفة، كما يكتسب القمر النور من ضياء الشمس، وهو ينزل منازله المختلفة.. والقمر ينزل أربعة عشر منزلاً ليصير، في نهايتها، بدراً كاملاً - سبعة لينتصف فيها بالنور، وسبعة أخرى ليصير فيها بدراً كاملاً - يحكي، في الحجم، جرم الشمس، حتى لكأنه قد عكس، بنوره، جميع ضيائها.. هذا فيما يرى الرائي.. والصلاة، في كل ركعة منها، سبع حركات، تمثل منازل القمر السبعة.. فأنت إذا كنت سالكاً مجوداً، وصليت ركعتين، وفكرك حاضر في صلاتك، فيجب أن تعلم أن كل حركة، من حركاتك الأربع عشرة، تختلف عن الحركة التي سبقتها، وإن كانت تشبهها، وما ذاك إلا لأنها بمثابة منزل جديد ينزله قمر ((شريعتك))، من شمس ((حقيقتك)).. فإذا ما أنت أكملت الركعتين، فكأنما قد اكتمل بدرك، كأنما استضاءت صفحة عقلك، بنور المعرفة المنبثقة من ضياء روحك فتوازي العقل والقلب..
هذا الثالوث المتمثل في آيات الآفاق - في ((الأرض))، ((والشمس))، ((والقمر)) يقابله، من آيات النفوس: ((الجسد)) ((والقلب)) ((والعقل)).. وقد كانت آيات الآفاق مرتتقة، فانفتقت.. كانت ((الأرض))، ((والقمر))، في ((الشمس)).. قال تعالى، في ذلك: ((أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما؟؟)) وكذلك آيات النفوس.. فهي قد كانت مرتتقة.. ((العقل))، و((الجسد))، كانا في ((القلب)) فانفتقا عنه.. وينطبق على ذلك باطن الآية، حين ينطبق ظاهرها على آيات الآفاق.. فنحن نعلم أن النفس الأمارة نفس صماء، غير منقسمة، وهي لا تأمر إلا بالشهوة الحاضرة.. فإذا ما أخذت في المجاهدة، بحسب التكليف، انفتقت وظهر انقسامها.. وإنما من هنا - من هذا الانقسام - نزلت منزلة النفس اللوامة.. وقد برز ((الجسد))، و((العقل))، من ((القلب))، كما برزت ((الأرض))، و((القمر))، من ((الشمس)).. فقد كانت الشمس هي الأصل، فبرزت من الشمس الأرض، وبرز من الأرض القمر.. وفي البنية البشرية، فإن ((القلب)) هو الأصل، ثم برز من القلب ((الجسد))، ثم برز من الجسد ((العقل)).. هذه الثلاث، في الباطن، تقابل تلك الثلاث، في الظاهر.. وقد تحدثنا عن أصل هذه النشأة بتفصيل مناسب في مقدمة كتابنا: ((رسالة الصلاة))، الطبعة الرابعة، مما يغني عن الإعادة هنا.. ولكن، الذي يهمنا هنا، هو أن مهمة التوحيد هي أن يوحد هذا الثالوث.. وقد سبق أن قررنا أن التوحيد إنما هو صفة الموحِد، (بكسر الحاء)، وليس هو صفة الموحَد.. وقلنا إن حاجتنا إلى التوحيد هي حاجتنا إلى وحدة قوى البنية البشرية.. والدين يطالب بوحدة هذه القوى، في أول ما يطالب.. قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟؟ * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)) فلكأنه يطالب بوحدة الفكر، والقول، والعمل.. وهذه هي صفة الحر الذي انتصر على الخوف.. وقلنا آنفاً إن التوحيد، والصلاة، هما وسيلتنا إلى استيقان العلم، الذي به نتحرر من الخوف.. وفي الآية عبر عن ((الصوم)) ((بالصبر))، فقال: ((استعينوا بالصبر والصلاة)) لأن الصوم رياضة تطالب بالصبر عن دواعي الجبلة، وغرضها، في ذلك، تقوية الفكر.. والصبر فضيلة، في السالك يحتاجها في جميع مقامات العبادة.. وليست في صفات العباد صفة تعادلها.. ولذلك فإنه قد قال: ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)).. كل عامل في الطاعات أجره بحساب، إلا الصابر، فإن أجره ((الله)) نفسه.. ومن إشارات الصوفية قولهم، في هذا المقام، في جزاء الصابرين: ((قالوا: جزاؤه؟؟ من وجد في رحله فهو جزاؤه)).. يعنون أن من وجد في قلبه الصبر فإن الله هو جزاؤه.. ((هو)) في الآية إنما يشيرون بها إلى ((الله)).. وهذا مأخوذ من قوله تعالى: ((إن الله مع الصابرين)) وإنما تكون ((المعية))، في مراتب التنزل، حسب درجات الصبر.. فالصبر ((لله)) عبادة، والصبر ((في الله)) جهاد، والصبر ((بالله)) مجاهدة، والصبر ((مع الله)) معرفة، والصبر ((عن الله)) محبة.. فالصابر عن الله، وهو المحب، تكون ((معية)) الله معه بالذات.. والصابر في درجات الصبر المختلفة، التي ذكرناها، إنما تكون ((المعية)) معه بالأسماء، أو بالصفات، أو بالأفعال - كل حسب مقامه.. ((وما منا إلا له مقام معلوم))..
وليس الصوم هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، وإنما الصوم التزام بمحاربة العادات، وانتصار للفكر، بدوام الحضور، حتى ليصبح الصائم حاضراً مع الله، ومتخلياً عن كل ما سوى الله.. وبارتقاء درجات الصائم ترتقي درجات المصلي.. حتى إن السالك، في هذا المستوى، بالصوم، وبالصلاة، ليبلغ مقام من قال، سبحانه وتعالى، عنه: ((الذين آمنوا، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.. أولئك لهم الأمن.. وهم مهتدون)).. والظلم هنا إنما يعني الشرك الخفي، الذي عنه قال المعصوم: إنه ليدق حتى يصبح: ((أخفى من دبيب النملة السوداء، في الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء)).. إن الصلاة وسيلة إلى هذه المقامات، يعينها في حسن التوسل إليها، صنوها الصوم، وهذا هو معنى قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا!! استعينوا بالصبر، والصلاة.. إن الله مع الصابرين)).. قوله: ((استعينوا))، يعني استعينوا على دواعي ((الجبلة)) إلى ((الغفلة)) حتى تخرجوا من ظلام الغفلة إلى نور العلم..