الصلاة جلسة نفسية
ما أحوج وقتنا الحاضر إلى الصلاة!! وقتنا الحاضر، وقت الذكاء الحاد، والحس المرهف!! ومع ذلك، وقت القلق، والتوتر، والحيرة.. حيرة الشباب، المتمثلة في مجاميع ((الهيبيز)).. وحيرة الشيوخ، الذين عجزوا عن هداية، وقيادة، أطفال، وشباب الأجيال المعاصرة من أبنائهم.. وقتنا الحاضر، وقت المشاكل النفسية، والأمراض العصبية.. هذه الأمراض التي، من فرط ما تفشت، وذاعت بين الناس، وجدت من يسميها: ((بأمراض المدنية)).. وليست للمدنية أمراض، وإنما المدنية صحة للقلوب، وللعقول، وللأجساد.. ولكن وقتنا الحاضر هو وقت الحضارة الغربية التي جعلت وكدها الإنتاج، والاستهلاك.. وهي، في سبيل مواصلة الإنتاج، تدعو إلى المزيد من الاستهلاك، وتدعو بوسائل الإعلان المختلفة لطرائق الاستهلاك المختلفة، حتى لقد ازدادت حاجات الإنسان المعاصر، لحد جعله في خوف دائم من العجز عن تحصيل هذه المطالب، التي أوهمته الحضارة المادية، الآلية، الحاضرة، أنها حاجة حياة، أو موت، بالنسبة إليه، وإلى أسرته..
إنني لا أشكو من الوضع الحاضر، ولا أرفض الحضارة الغربية ((التكنولوجية)) المادية.. بل، على العكس، فإني لأرحب بها، وأعتبرها مرحلة هامة جداً من مراحل تطور الفرد، والمجتمع البشري.. وأعتبر أن القلق، والحيرة، والرفض الذي ساقتنا إليه، إنما هو علامة صحة، وليس علامة مرض.. هو علامة صحة لأنه يرشدنا إلى أصل المرض، وما ذاك إلا جهلنا بحقيقة البيئة التي نعيش فيها، وعجزنا، من ثم، عن المواءمة بين حياتنا وبينها..
لقد ظللنا، نحن البشر، دائماً نحاول التعرف على بيئتنا، ونحاول، على هدى من هذه المعرفة، أن نوجد نوعاً من التوافق، والتناسق بين حياتنا وبين هذه البيئة.. وقد بدأنا من مكان بعيد.. لقد مضى وقت كنا نعتقد فيه أن البيئة الطبيعية، المادية، التي نعيش فيها هي عدو لنا، شديدة العداوة.. وقد ملأتنا عداوتها، وشكاستها، وأنيابها الزرق، ومخالبها الحمر، بالخوف الشديد، الذي تحدثنا عنه، في مقدمة كتابنا هذا، وفي العديد من كتبنا، باستفاضة.. وكنا، دائماً، ولا نزال، نخدع بالمظهر، ونذهل عن المخبر.. ونحن، اليوم، وفي مجتمع حضارة ((القرن العشرين))، نقف في مفترق الطرق.. فإن هذه البيئة الجديدة، التي قد طورها تقدم الآلة، تطويراً يشبه القفزة، تواجهنا بتحد حاسم.. هذا التحدي يعرض علينا إحدى خصلتين: إما أن نرتفع إلى مستوى المواءمة بين حياتنا، وبين بيئتنا، وإما أن ننحدر إلى الهاوية، فيكون مصيرنا مصير الأحياء التي عجزت عن المقدرة على المواءمة بين حياتها وبين البيئة.. إننا، بفضل الله، ثم بفضل هذا التقدم ((التكنولوجي))، قد أصبحنا نعيش في كوكب موحد جغرافياً، وأصبحنا، بفضل هذا التقدم ((التكنولوجي))، جيراناً متقاربين، مهما بعدت أقطارنا، في أطراف هذا الكوكب الصغير.. وأصبح علينا أن نتحلى بالأخلاق التي تليق بحسن الجوار.. أصبح علينا أن نتوحد أخلاقياً، كما توحدنا مادياً.. وبفضل الله، ثم بفضل العلم المادي، الذي هو سمة هذه الحضارة، وضحت لنا الوحدة التي تنتظم المظاهر المختلفة.. وضح لنا أن المادة التي مظهرها التعدد جوهرها الوحدة.. بل إن العلم التجريبي قد أظهر لنا أن المادة، كما تظهر ليست هناك، وإنما هي طاقة.. طاقة تدفع، وتجذب.. هذه الطاقة يسميها الدين ((الإرادة)).. إرادة الله، خالق الأكوان، وخالق الإنسان، وجاعل الأكوان مطية الإنسان، بها يرتفق ليبلغ منازل كماله.. إن حاجتنا إلى ((الدين)) اليوم قد برزت، بفضل الله، ثم بفضل هذه المشاكل التي تواجهنا بها هذه الحضارة الغربية المادية.. نريد الآن أن نقف لنراجع ما رسبته فينا الجهالات الماضية، من عقد نفسية أخذت تنطلق، في وقتنا الحاضر، بغير قيد، وبغير عقال.. وهنا تبدو حاجتنا إلى الصلاة.. إن الصلاة جلسة نفسية بهذا المعنى.. هي منهاج يعطينا الفرصة إلى أن ننفصل عن ((الدوامة)) الحاضرة، وأن نكون في ((خلوة)) نجد فيها السبيل إلى النظر في ((داخلنا)) فإننا نعرف عن عالمنا ((الخارجي)) أضعاف، أضعاف ما نعرف عن عالمنا ((الداخلي)) - عن نفوسنا - فإن البيئة التي نعيش فيها هي بيئة روحية، ذات مظهر مادي.. هذه حقيقة ظهرت لنا، لأول مرة، عن طريق العلم التجريبي، وأيضاً عن طريق الدين.. إننا نحن نعيش محاطين بالمظاهر الإلهية.. ولكي نعيش في ((سلام)) فقد وجب علينا أن نعرف ((الله))، وأن نعرف أسرار صنعه فينا، هذا الصنع الذي هو بيئتنا التي نعيش فيها الآن.. وقد ظللنا دائماً نعيش فيها، ولكننا كنا نجهلها، تمام الجهل.. فإذا حققنا، وصححنا علمنا بها فسيعيننا هذا العلم الجديد على أن نرجع لمناقشة هذه العقد النفسية، الموروثة، والمكتسبة، التي رسبها فينا الجهل.. نناقشها، ونصححها، ونسلط عليها النور لتخرج من ظلامها، وسجنها، إلى نور الحياة، وحركة الحرية.. ويومئذ تنبعث الحياة الحرة، الكاملة، في بنيتنا، على النحو الذي بيّنا في هذه المقدمة..
وسر صنع الله في كونه هو الحكمة.. قال تعالى فيها: ((وما خلقنا السموات، والأرض، وما بينهما، لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق.. ولكن أكثرهم لا يعلمون)).. قوله ((ما خلقناهما إلا بالحق)) يعني إلا بالحكمة.. والحكمة هي وضع الأشياء في مواضعها.. الحكمة هي ((نهاية العلم)) و((نهاية الرحمة)).. وقد تكون الرحمة في صورة عذاب، ولكن الحكمة وراء العذاب، كالحكمة وراء الدواء المر.. المراد منه الشفاء من العلة.. ولكننا نحن كالأطفال.. فالطفل العليل يرفض الدواء لمجرد أنه مر.. ويجهل أن وراء مرارته حلاوة العافية.. ونحن إنما نرفض العذاب بنحو من هذا الجهل.. ولذلك فقد قال تعالى: ((كتب عليكم القتال وهو كره لكم.. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم.. وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم.. والله يعلم.. وأنتم لا تعلمون)).. هذا هو موطن الآفة: ((والله يعلم وأنتم لا تعلمون)).. ولذلك فقد وجب الإيمان بما لا نعلم، ريثما نعلم.. والإيمان أصل في العلم، وأصل في الدين.. بل الحقيقة إن العقل الذي يعرف قدر نفسه لا يمكن أن يرفض شيئاً لمجرد أنه لا يجد العلم به، عتيداً عنده.. بل إن الواجب يقضي، إذا جهلنا شيئاً، أن نؤمن به، ريثما ينكشف لنا حقه من باطله.. وأما رفضنا إياه قبل ذلك، إنما يمثل جهلاً بحقيقة أنفسنا، وينطوي على ادعاء كبير، إذ نجعل عقولنا حكماً على الأشياء.. وهذا ما يحصل من أحدنا دائماً. ولذلك فقد أصبحنا محتاجين إلى منهاج يروض العقول على التواضع، وعلى المحايدة، وعلى البراءة من الغرض.. إن مثل هذا العقل المؤدب هو وحده الذي يدرك القانون - قانون الحق - الذي به خلق الله السموات، والأرض: ((ما خلقناهما إلا بالحق)).. يعني ((بالحق)) ((القانون)).. وقديما قال أرسطو: ((إن القانون هو العقل الذي لا يتأثر بالرغبة)).. هذا هو القانون الكلي.. وهو إنما يحكي صورة العقل الكلي.. ونحن إنما نحاول أن نسير بعقولنا خلف العقل الكلي.. أليست التوصية: ((تخلقوا بأخلاق الله؟؟)) وبقدر ما تحاكي عقولنا العقل الكلي، بقدر ما ندرك من دقائق هذا القانون، الذي ما هو إلا أثره، وصنعه.. وبقدر ما ندرك من دقائق هذا القانون، بقدر ما نسير حياتنا في مواءمة معه.. فنبلغ بذلك الأمن، ونستمتع بالحرية من الخوف، ونطلع على دقائق الغيب.. ونصحح عقد الماضي فننغم بهذا التصحيح التشويش الداخلي..
فالصلاة جلسة نفسية بمعنى أنها فرصة للنظر الداخلي، ولمناقشة العقد النفسية المكبوتة في طبقات العقل الباطن.. وفي التعريف العرفاني، السلوكي، العلمي، فإن للعقل سبع طبقات، تعرف بالنفوس السبع.. وقد ورد ذكرها جميعها في القرآن: أولها النفس الأمارة، ثم النفس اللوامة، ثم النفس الملهمة، ثم النفس المطمئنة، ثم النفس الراضية، ثم النفس المرضية، ثم النفس الكاملة.. وهذه النفوس السبع إنما هي درجات في مراتب الإدراك التي بها يطلع العقل على الحقائق، ويعرج في سمواتها، وذلك بفضل الله ثم بفضل العبادة المجودة، وأعلاها الصلاة.. وإنما عن الصلاة قال، جل من قائل: ((فاصبر على ما يقولون!! وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى)) في هذه الآية عنى بـ ((سبح)) ((صل)).. وقد أورد فيها الأوقات الخمسة في اليوم والليلة.. ثم قال: ((لعلك ترضى)).. والرضا المقصود هنا إنما هو بربوبية الرب، وهو التسليم له، وزيادة.. هذا الرضا هو تعبير آخر عن التواؤم مع البيئة، والملاءمة والاتساق، وهذا ما به نحصل على الطمأنينة، وبرد الراحة، والتخلص من الخوف.. فالصلاة جلسة نفسية بهذا المعنى..