رياضة العقول
والآية التي صدرنا بها هذه المقدمة إنما جاءت بسبيل من رياضة العقول، حتى تقوى على دقة الفكر، وحريته.. ((يا أيها الذين آمنوا))، يعني الذين استقبلوا الدين بالعقيدة، ولم يستيقنوه بالفكر، فيصبحوا ((مسلمين)).. ((إن تتقوا الله)) يعني إن تعملوا بالشريعة، فتأتمروا بالأمر، وتنتهوا عند النهي.. ((يجعل لكم فرقاناً))، يعني نوراً في عقولكم، به تفرقون بين الحق والباطل.. يعني يجعل لكم مقدرة في عقولكم، بفضل التقوى، بها تقوون على التفكير الدقيق، والتمييز السليم، بين ما يليق وما لا يليق.. بين الحلال والحرام. ((الحرام ما حاك في نفسك، وخشيت أن يطلع عليه الناس)).. والتقوى ((شجرة))، والفرقان ((ثمرة))، وبقدر ما تدق التقوى يدق الفرقان، ويقوى.. فالتقوى تبدأ من صورتها الغليظة، ثم تسير نحو الدقة.. وكذلك الفرقان، يبدأ من بداية بسيطة، وضعيفة، ثم يسير نحو الدقة، والقوة، تبعاً لسير التقوى.. وصورة التقوى، والفرقان، ومسيرتهما، نحو الدقة، من الغلظة، يحكيها، أحسن حكاية، الحديث الشريف: ((الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه، ولعرضه).. فكأن التقوى، في بدايتها، لا تحتاج إلى كبير عناء، وكذلك قوة العقل، المميزة بين الحلال والحرام، لا تحتاج إلى شدة دقة.. ثم يبدأ السير، من الطرفين الغليظين، نحو الوسط - نحو منطقة الأمور المشتبهات - وهي منطقة فيها تبدأ الحاجة إلى قوة فكرية، زائدة، بها يقع التمييز بين الحلال والحرام.. وفيها أيضاً تبدأ الحاجة إلى قوة في الإرادة، زائدة، بها تقوم القدرة على فعل ما هو به مأمور، وترك ما هو عنه منهي.. وتصبح التقوى، ههنا، علماً، وعملاً بمقتضى العلم.. أو قل، تصبح قوة على التمييز، ومقدرة على التركيز، حسب ما يمليه التمييز..
مستويات التقوى والفرقان
التقوى إذن مستويات، وللفرقان مستويات تقابلها، فإنه، كما قررنا، التقوى شجرة، والفرقان ثمرة.. ((وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم))..
وأغلظ مستويات التقوى ما يكون للمؤمن العادي، وهو مستوى الحلال البين، والحرام البين.. وبينهما يتأرجح ((بندول الفكر)).. وأول منزلة تلي منزلة المؤمن العادي، منزلة الورع.. الورع هو الحذر، الشديد الحذر، المتيقظ الوجدان، الشديد التيقظ.. فهو لا يعمل إلا إذا علم، وهو قليلاً ما يعلم، وذلك لزيادة شكه على علمه، ولذلك قيل عنه: أنه هو الذي يترك سبعين باباً من الحلال خوف الحرام. يترك ما لا بأس به، خوف ما به بأس.. وهذه مرحلة هامة جداً من مراحل التنبه الفكري، تلي التبلد الفكري، الذي يكون عليه المؤمن العادي.. ثم تكون المنزلة الثالثة، وهي تلي منزلة الورع، وهي منزلة صاحب اليمين.. وفيها، بفضل الله، ثم بفضل المجاهدة في المنزلتين السابقتين، يكون السالك قوي الفكر، قوي العزيمة.. لا تتلبس عليه وجوه الرأي، فهو يدرك بسرعة، ويميز بدقة، ويحمل نفسه على العمل بعزائم الأمور.. وهو إنما سمي صاحب اليمين لأن عمله ضد رغائب نفسه، في غالب أحواله، كأنه ضد صاحب الشمال.. ثم تلي هذه المنزلة، بفضل الله، ثم بفضل المجاهدة في المنازل السوابق، منزلة البر، والبر أكثر إدراكا من صاحب اليمين، وأكثر تسامحاً، فهو رفيق بنفسه، وبالناس، وذلك بفضل سعة علمه.. فإن صاحب اليمين، حين قبضته بقية الورع الذي ورثه من منزلة الورع، التي خرج عنها، ولما يتخلص من عقابيلها، بسط العلم صاحب منزلة الأبرار.. فترى البر سمحاً، متسامحاً، واسع الأفق، يرى الوجوه المختلفة لكل قضية فكرية، أو سلوكية، تعرض عليه، بطريقة فيها سعة، وفيها دقة.. ثم تلي منزلة البر منزلة المقرب.. والمقربون هم الذين يكونون عند ربهم، غالب أحوالهم، وهم علماء، قد وسّع العلم عليهم ما ضّيق الجهل على سواهم.. فأصبحوا، بفضل الله، ثم بفضل سعة علمهم، رحماء، طيبين، متسامحين، محبين للأشياء، والأحياء، في سلام مع ربهم، ومع أنفسهم، ومع الناس.. يدعون إلى الرضا بالله، والمصالحة مع الناس، وينشرون الحب، كما تنشر الشمس النور، والحرارة، والدفء.. هؤلاء هم ملح الأرض، عرفوا، أو لم يعرفوا.. وتقوى هؤلاء هي عمل، أو ترك للعمل، ابتغاء وجه الله.. وزمنهم فكر متصل.. فجميع أوقاتهم معمورة بالفكر، والعمل.. وفكرهم ليس تعملاً، وإنما أصبح طبيعة، تنبع فيهم المعاني، والمعارف، كما ينبع الماء النمير من العين الثرة، وقد تطهرت من أوساخها، وأوضارها.. وعبادة المقربين الاستقامة.. والاستقامة أن تكون على السراط المستقيم، في الفكر، والقول، والعمل، فلا تميل يسرة، ولا يمنة.. ولا تتم الاستقامة إلا لمن تخلص من ذنبه، ما تقدم منه، وما تأخر.. وهيهات!! ولكن هذا موعود الله لأهل قرباه، وموعود الله لابد آتٍ، فوعده، تعالى، غير مكذوب.. ولقد قال في الآية التي صدرنا بها هذه المقدمة: ((يا أيها الذين آمنوا!! إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم، والله ذو الفضل العظيم)).. قوله تعالى: ((ويكفر عنكم سيئاتكم)) يعني يغفر لكم خطيئاتكم الموروثة من لدن آدم.. وتلك تتمثل في الكبت على العقل الباطن المتوارث عبر التاريخ البشري.. قوله تعالى: ((ويغفر لكم)) يشير إلى الخطيئة المكتسبة، في مقابلة الخطيئة الموروثة.. والخطيئة المكتسبة تتمثل في الكبت الواقع على العقل الباطن، المكتسب أثناء عمر أحدنا.. وإنما يكون التكفير والمغفرة برفع هذا الكبت، الموروث، والمكتسب، وإنما يكون رفع الكبت ((بالفرقان)).. بنور العقل القوي الذي يتخلل السراديب المظلمة، حيث ترقد الرغائب المكبوتة على حواشي العقل الباطن خلال ملايين السنين.. وقد سمى، تبارك وتعالى، هذه السراديب المظلمة حول العقل الباطن ((بالرين))، وإليها نسب غفلتنا، وجهلنا، وحجبنا عن الحقيقة، فقال، تبارك وتعالى: ((كلا!! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا!! إنهم، عن ربهم يومئذ، لمحجوبون)).. فبقدر ما يرفع هذا ((الرين)) - هذا الكبت - بقدر ما تكون قوة العقل، ودقة الفكر، ووحدة البنية البشرية.. وأصحاب هذه البنية الموحدة هم أصحاب العقول التي، بقوة فكرها، تفلق الشعرة، وتملك التمييز بين فلقتيها: أيهما أبيض، وأيهما أسود.. وبقدر قوة التمييز تكون سلامة السلوك، وسلامة القلب، وصفاء الذهن).
انتهى ما جاء في مقدمة كتابنا: ((أسئلة وأجوبة)).. ههنا ست درجات من درجات القرب من الكمال.. ينزلها النازل وهو يسير في طريق العودة، هذه ست درجات أولاها درجة المؤمن العادي الذي يكون في مستوى الحلال، وثانيتها درجة الورع، وثالثتها درجة صاحب اليمين، ورابعتها درجة البر، وخامستها درجة المقرب، وسادستها درجة صاحب الاستقامة، وهو، هو الكامل.. وهذه الدرجات الست هي في مقابلة النفوس السبع، غير أن ((النفس الأمارة)) لا ذكر لها هنا، لأنها دون مرتبة المؤمن العادي.. فكأن المؤمن العادي في مقابلة النفس ((اللوامة)).. وكما أنه ليس للكمال نهاية، فليست للاستقامة نهاية،.. وكل مستقيم يعرف تقصيره عن بلوغ المدى المطلوب من هذا الأمر الخطير.. وهذا ما جعل المعصوم يقول: ((شيبتني هود وأخواتها))، كما ذكرنا.. وكل هذه المراتب التي ورد ذكرها إنما يبلغنا إياها العلم، والعمل بمقتضى العلم.. وأعلى العلم التوحيد، وأعلى العمل الصلاة..