أدب الوقت
قد جعل الله لكل شيء وقتاً.. قال تعالى:
((إنا كل شيء خلقناه بقدر * وما أمرنا إلا واحدةً، كلمحٍ بالبصر
)).. والأمر هو القضاء، وأعلاه سر القدر.. وسر القدر: أن مصير الأشياء، والأحياء، إلى الخير المطلق.. لأن سر القدر في
((الذات
))، وليس
((عند الذات
)) إلا الخير المحض، فليس للشر هناك مكان.. والقدر هو تنفيذ القضاء في الزمان، والمكان.. وهذا التنفيذ هو ما أشارت إليه الآية:
((إنا كل شيء خلقناه بقدر..
)).. وقال تعالى:
((هو الذي خلقكم من طين، ثم قضى أجلاً.. وأجل مسمى عنده.. ثم أنتم تمترون
)) وهذه الآية هي في معنى قوله تعالى:
((ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك، وجعلنا لهم أزواجاً وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله.. لكل أجل كتاب * يمحو الله ما يشاء، ويثبت.. وعنده أم الكتاب
)).. قوله من الآية السابقة
((ثم قضى أجلاً
)) هو بمعنى قوله:
((يمحو الله ما يشاء، ويثبت
)). وأما قوله:
((وأجل مسمى عنده
)) فهو يعني،
((وعنده أم الكتاب
)).. وفي الآيتين إشارة للتطور، والتحول، والترقي.. وفي مضمار الترقي، في الزمن، جاءت الإشارة بقوله:
((الله الذي رفع السموات بغير عمدٍ ترونها.. ثم استوى على العرش.. وسخر الشمس، والقمر، كل يجري لأجل مسمى.. يدبر الأمر، يفصل الآيات، لعلكم بلقاء ربكم توقنون
)).. والأجل هو
((الزمن
)).. و
((الزمن
)) أكبر خلق الله..
((الزمن
)) هو الكون كله.. ونحن، البشر، قد خلقنا الله لنعبده.. وخلق لنا الكون لنسير به إليه وهو قد قال:
((خلقت الإنسان لي، وخلقت الأكوان للإنسان
)).. وهذا في معنى الحديث القدسي:
((ما وسعني أرضي، ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن
)).. فالإنسان مطية الله.. والأكوان مطية الإنسان.. ثم إننا، في بدء نشأتنا، وقد احتوشتنا ظلمات الجهل، قد سيرتنا العناصر الصماء إلى الله كرهاً.. ونحن، كلما خرجنا من جهلنا إلى مقام علمنا، آثرنا الله، واخترناه، وسرنا إليه طوعاً، وأصبحت العناصر وسيلتنا، ومطيتنا، في السير إليه.. وسيرنا إلى الله إنما يكون بالانتصار على ما يستعبدنا من العناصر، لأن سيرنا إلى الله، إنما هو العبودية.. والعبودية هي الانعتاق من كل رق لغير الله.. ونحن الآن، وفي مرحلة كبيرة من مراحل تطورنا، لا تزال تسترقنا العناصر.. وأكبر عنصر له علينا أكبر سلطان إنما هو عنصر
((المكان
)) و
((الزمان
)).. أو قل، إن شئت، هو عنصر
((الزمان
))، فما
((المكان
)) إلا مظهر
((الزمان
)).. والإنسان في عصر الفضاء الحاضر يشعر بالحاجة إلى الحرية من سلطان الزمان، بإلغاء المكان.. هو يبتغي الحرية.. ولكنه يخطئ السبيل إليها.. وسلطان
((الزمان
)) هذا القاهر، هو الذي طوّع للماضين أن يشركوه مع الله.. وذلك حين قالوا، فيما حكى الله لنا في القرآن:
((وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا.. نموت، ونحيا.. وما يهلكنا إلا الدهر.. وما لهم بذلك من علم.. إن هم إلا يظنون
)).. إن الدين هو وسيلتنا للحرية، من
((الزمان
))، و
((المكان
))، لا الآلة.. ومحاولة تحرير الدين لنا من استعباد
((الزمن
)) إيانا هي جوهر الحكمة في أن للعبادات أوقاتاً محددة تؤدى فيها.. فللشهادة ــــ
((لا إله إلا الله، محمد رسول الله
)) ـــ وقت.. فهي تجب عليك حين تبلغك دعوة الرسول، من الرسول، أو ممن هم على قدمه في الاتباع.. قال تعالى:
((لقد جاءكم رسول، من أنفسكم.. عزيزٌ عليه، ما عنتم.. حريصٌ عليكم.. بالمؤمنين، رءوفٌ رحيم * فإن تولوا فقل: حسبي الله!! لا إله إلا هو.. عليه توكلت.. وهو رب العرش العظيم..
)).. فإذا أوفيت بالشهادة، وهي الركن الأول من الإسلام، وجبت عليك بقية الأركان.. ولكل ركن منها وقت.. فللصلاة أوقات.. قال تعالى:
((فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبكم.. فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة.. إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا
)).. قوله
((كتاباً
)) يعني فرضاً.. قوله
((موقوتا
))، يعني له وقت يؤدى فيه.. وقد تحدثنا عن أوقات الصلاة في هذا الباب.. وللصوم أيضاً وقت.. قال تعالى
((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام، كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون * أياماً معدودات، فمن كان منكم مريضاً، أو على سفر، فعدة من أيام أخر.. وعلى الذين يطيقونه فدية، طعام مسكين.. فمن تطوع خيراً، فهو خيرٌ له، وأن تصوموا خيرٌ لكم، إن كنتم تعلمون * شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس، وبينات من الهدى، والفرقان.. فمن شهد منكم الشهر فليصمه.. ومن كان مريضاً، أو على سفر، فعدة من أيامٍ أخر.. يريد الله بكم اليسر.. ولا يريد بكم العسر.. ولتكملوا العدة.. ولتكبروا الله على ما هداكم.. ولعلكم تشكرون
)) ثم هو، في داخل شهر رمضان، له وقت.. من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس.. قال تعالى:
((وكلوا واشربوا، حتى يتبين لكم الخيط الأبيض، من الخيط الأسود، من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل..
)).. وللزكاة وقت.. وهو مرور الحول.. قال تعالى:
((وهو الذي أنشأ جنات معروشات، وغير معروشات.. والنخل، والزرع، مختلفاً أكله، والزيتون، والرمان، متشابهاً، وغير متشابه.. كلوا من ثمره إذا أثمر، وآتوا حقه، يوم حصاده.. ولا تسرفوا.. إنه لا يحب المسرفين
)).. وللحج وقت.. قال تعالى:
((الحج أشهر معلومات.. فمن فرض فيهن الحج فلا رفث، ولا فسوق، ولا جدال، في الحج.. وما تفعلوا من خير يعلمه الله.. وتزودوا!! فإن خير الزاد التقوى.. واتقون، يا أولي الألباب!!
)) وحين كان لكل عبادة وقت، فإن لكل عبادة علم، لا تصح إلا به.. ومن ثم، فإن كل عبادة علم، وعمل بمقتضى العلم.. والعلم الذي لا تصح العبادة إلا به هو فرض عين، على كل عابد.. فمثلاً هيئة الوضوء علم لا يصح الوضوء إلا به.. وهو فرض عين على كل عابد.. وهيئة الصلاة علم لا تصح الصلاة إلا به.. وهو فرض عين على كل عابد – أعني على كل مؤمن – ولكل علم أدب.. ولا ينتفع منه إلا به.. وروح كل العلوم الإخلاص فيها لوجه الله.. ولذلك فقد قال:
((ألا لله الدين الخالص..
)) وقال:
((إليه يصعد الكلم الطيب.. والعمل الصالح يرفعه
)).. و
((الكلم الطيب
))، هو التوحيد، هو الإخلاص، هو الصدق.. و
((العمل الصالح
)) كل عمل مجود، مراد به وجه الله.. سواء، أكان عبادة أو معاملة.. وبالعلم النافع، والعمل المخلص، تتم العبودية.. وبتمام العبودية يتم التحرير، والانعتاق، حتى عن الزمان، والمكان.. ولكي نصل إلى هذه الغاية لا بد أن نوفي بأدب الوقت، في كل عبادة..
هناك الشريعة، والطريقة، والحقيقة.. فأما الشريعة فهي قاعدة التكليف العام، وهي أدنى درجات التكليف، على المؤمن.. وأما الطريقة فهي النهج المؤكد الذي كان يلتزمه النبي، في خاصة نفسه.. وهي، من ثم، سنة النبي.. والسنة شريعة، وزيادة.. وأما الحقيقة فهي حالة القلوب التي تكون عليها من المعرفة بالله، نتيجة للعمل بالشريعة، أو للعمل بالطريقة، حسب مقتضى الحال.. فإن كل عمل بالشريعة، أو بالطريقة، يثمر حالاً.. إلا إذا كان عملاً باطلاً.. ولقد وردت هذه الثلاث في حديث المعصوم، حين قال:
((قولي شريعة، وعملي طريقة، وحالي حقيقة
)).. والشريعة هي تكليف
((المؤمن
)).. وهي، من ناحية الإلزام، قصاراه.. وهي، بالنسبة
((للمسلم
))، تكليف في بداية أمره.. وهي، بالنسبة إليه، منفتحة على الطريقة..
((فالمسلم
)) شريعته السنة.. ثم إن الطريقة منفتحة على الحقيقة.. ومعنى انفتاح الطريقة على الحقيقة: أن المسلم مطلوب منه الترقي المستمر، من نهج الشريعة، إلى نهج الطريقة، إلى نهج الحقيقة.. وفي نهج الحقيقة، إذا سدد، وجوّد، يدخل في مقامات الشرائع الفردية.. فتكون شريعته طرفاً من حقيقته.. وهذه هي العبودية.. فإنه، في مرتبة العبودية، الطرق إلى الله بعد أنفاس الخلائق.. تبلغ كل هذه المراتب بمراعاة الآداب في العبادة.. فإنه قد قيل، كما سلفت الإشارة:
((أن العبد ليصل بعبادته إلى الجنة، ويصل بأدبه في عبادته، إلى الله..
))..
هناك
((أدب وقت
)) لكل مستوى من المستويات الثلاث.. هناك
((أدب وقت
)) في مستوى الشريعة، و
((أدب وقت
)) في مستوى الطريقة، و
((أدب وقت
)) في مستوى الحقيقة.. والتفاوت تفاوت مقدار، كما هو واضح.. والقاسم المشترك بين آداب الحضرات الثلاث إنما هو الحضور في الوقت.. وليس لإتقان الحضور نهاية فيبلغها، قال تعالى:
((فلا تعجل عليهم، إنما نعد لهم عدا
)).. قال الحسن البصري:
((نعد لهم الأنفاس الطالعة، والنازلة
)).. فالإنسان محاسب، على كل جزئية، من جزئيات حياته.. فيم صرفها؟؟ وفي قول الله تعالى:
((ثم لتسألن، يومئذ، عن النعيم
)).. قال بعض العارفين: النعيم هو العمر، منذ أن استهل الإنسان صارخاً يوم ميلاده، وإلى أن يُضم في أكفانه.. يُسأل عن كل شيء.. وقمة
((أدب الوقت
))، في هذا المستوى، هو قول الله تعالى، عن حالة النبي، في تلك الجمعية الكبيرة، التي اتفقت له في المعراج:
((إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى
)).. قوله تعالى:
((ما زاغ البصر وما طغى
)).. يعني: قد توقف جولان الفكر بين الماضي، والمستقبل.. يعني: أن النبي قد تم له رفع حجاب الفكر: وخرج، بذلك، عن حكم
((الزمان
))، و
((المكان
)).. تحرر من أكبر العناصر، فاكتملت له العبودية لله، بهذا الانعتاق الكبير، من رق العناصر.. وإنما يحقق هذا المقام بإتقان الأدب في الشريعة، وفي الطريقة.. وأول
((أدب الوقت
)) في الشريعة التوبة.. والتوبة تجب على كل مسلم.. وهي بمثابة الدخول في الإسلام، من جديد، ولذلك فيحسن بالإنسان المجدد للتوبة أن يغتسل بنية تجديد إسلامه.. وللتوبة ثلاثة أركان: الإقلاع الفوري عن الغفلة، والندم على ما مضى منها، والإصرار على عدم العودة إليها.. فإذا صحت للإنسان التائب هذه الأركان الثلاثة، لا تضره العودة إلى الغفلة، وإن حصلت، وإن تكرر حصولها.. ويمكنه أن يعود للتوبة كل حين، بشرط واحد، هو أن تصح له الأركان الثلاثة، دائماً.. فإنه وارد في الحديث:
((التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتائب من الذنب، وهو مصر عليه، كالمستهزئ بربه..
)) فإذا تمت التوبة فإن
((أدب الوقت
)) الاشتغال بالواجب المباشر.. فإن كان الذي يلي التائب، فور توبته، هو حضرة
((الإحرام
))، مثلاً، فقد وجب عليه أن يدخل فيها لأول الوقت.. وأن يستعد لها بالطهارة قبل الدخول فيها.. وقد وصفنا لك هيئة حضرة
((الإحرام
)) في هذا الباب من الكتاب.. وإن كان الواجب المباشر الذي يلي التائب هو حضرة
((السلام
)) فقد وجب عليه الدخول فيها فوراً.. وأدنى
((أدب الشريعة
)) في حضرة
((السلام
)) ((كف الأذى
)) عن الناس.. ثم، إن أنت زدت، وهذا أدخل في
((الطريقة
))، فإنك تحتمل أذى الناس.. ثم، إن أنت زدت، وهذا أدخل في الحقيقة، فإنك توصل الخير إلى الناس ـــ تكف الأذى، وتحتمل الأذى، وتوصل الخير إلى الناس - ولما كان غرض حضرتي الصلاة ـ حضرة
((الإحرام
)) وحضرة
((السلام
)) ـ هو الحضور مع الله، بمعنى أن يكون النفس، الطالع والنازل، في سبيل الله.. فإن
((أدب الوقت
)) فيهما يقضي بالمراقبة، والمحاسبة.. وأهم أعمال العابد لقمة عيشه.. فيجب أن يصر إصراراً شديداً على تنقيتها من الشوائب.. فإنهم قد قالوا:
((من أكل الحلال أربعين يوماً انبثقت الحكمة، من قلبه على لسانه..
)) وقالوا:
((من أكل الحلال أطاع الله، أراد أو لم يرد، ومن أكل الحرام عصى الله أراد أو لم يرد
)).. وهذا أمر واضح.. فإنه، ما دام الدم الذي يجري في شرايينك دم خطيئة ـــ دم كسب حرام ـــ فإنه لا يمكن إلا أن يسوق إلى حرام.. وفي وقتنا الحاضر ـــ وسيقوم هذا ببالك ــــ في حكم المستحيل أن يكسب الإنسان عيشه من حلال.. فإن وقتنا الحاضر هو الذي أشار إليه النبي حين قال:
((في آخر الوقت القابض على دينه كالقابض على الجمر
)).. ولكن، مع ذلك، فإن الخير كثير وعميم لمن يتعرضون له.. فإنه، في وقت الغفلة، أجر التائبين، المجاهدين، مضاعف.. وفي آخر حديث المعصوم، عن الأخوان، والأصحاب، وقد أوردناه في موضع آخر، قال:
((قوم يجيئون في آخر الزمان، للعامل منهم أجر سبعين منكم.. قالوا: منا أم منهم؟؟ قال: بل منكم!! قالوا: لماذا؟ قال: لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون على الخير أعوانا!!
)) وإنه لمن سعة الرحمة قول المعصوم:
((لو كانت الدنيا دماً
((عبيطاً
)) ما أكل المؤمن منها إلا حلالاً
)).. والدم
((العبيط
)) هو أحد المحرمات الأربعة الواردة في قوله تعالى:
((قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه، إلا أن يكون ميتة، أو دماً مسفوحاً، أو لحم خنزير، فإنه رجس، أو فسقاً أهل لغير الله به.. فمن اضطر، غير باغ، ولا عاد، فإن ربك غفور رحيم..
)).. فالدم العبيط هو الدم
((المسفوح
)).. وإنما مأخذ الحديث من هذه الآية.. والمؤمن، في جميع حالاته، لا يأكل إلا حلالاً لأنه لا يتناول إلا الكفاف.. وتناوله الكفاف، واقتصاره عليه، يجعله في حكم المضطر، غير الباغي، ولا العادي.. ولقد تحدث المعصوم عن هذا المؤمن، في موضع آخر:
((حسب المؤمن من الزاد لقيمات يقمن صلبه
)) فالتائب، المجاهد، في وقتنا الحاضر، يمكنه أن يحرز الرزق الحلال، إذا عمل بإخلاص، وصدق، في مجال العمل الذي يكسب منه قوته.. فإذا كان موظفاً، أو عاملاً، فيجب عليه ألا يرضى الوظيفة في عمل يحرمه الشرع، كبيع الخمر، مثلاً.. أو صنع الخمر، أو بيع الكلاب، أو تربية الخنازير.. ثم إنه، حين يقبل
((العمل
))،
((بالمرتب
)) المخصص له، يجب عليه أن يتفانى في أدائه، وأن يحاسب نفسه على تجويد الأداء، سواءً، أكان عليه رقيب من أصحاب العمل، أم لم يكن.. فإن
((الله
)) هو
((الرقيب
)).. عليه أن ينتج أكثر مما يتوقع منه أصحاب العمل، حين خصصوا له
((المرتب
)).. ثم هو، ليستوثق من حل اللقمة، فإن عليه لأن يزكي دخله.. ولا أعني الزكاة الشرعية، ذات المقادير، وإنما أعني أن
((يتصدق
)) من دخله، على من هم في حاجة، بغرض أن تكون هذه
((الصدقة
)) غاسلة، ومطهرة، لبقية كسبه، الذي يستهلكه هو، ومن يعول.. وعليه، حين يعطي هذه الصدقة، ألا يشعر باستطالة المحسن، وإنما يشعر بانكسار الشاكر لله، على أن وفقه ذلك التوفيق.. ثم، بعد هذه الحيل، في تنقية الكسب، عليك أن تأخذ الكفاف، وألا تسرف.. لأن الكفاف، من الدنيا، دين.. ولذلك فقد كان المعصوم يقول:
((اللهم أجعل قوت آل محمد الكفاف
)).. وهو، بالطبع، لا يدعو هذا الدعاء بدافع الخوف ألا يعطى الكفاف، وإنما بدافع الخوف أن يعطى أكثر من الكفاف.. فإنه، قد قال، في موضع آخر:
((ما أحب أن يكون لي مثل جبل أحد، ذهباً، أنفقه جميعاً في سبيل الله، إلا ثلاثة دريهمات أرصدهن لدين!!
)).. فهو، إذن، حين دعا الله أن يجعل قوته، وقوت آله الكفاف، يأتيه كل يوم، إنما أراد أن يكون مخزنه عند الله، لأنه أوثق بما عند الله، منه بما في مخزنه هو.. يدل على هذا قوله، في موضع آخر:
((لو توكلتم على الله، حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير.. تغدو خماصاً، وتروح بطانا!!
))
ومن
((أدب الوقت
)) قلة الطعام، وقلة المنام، وقلة الكلام.. والمقصود من ذلك فإنما هو محاربة
((الفضول
)).. فإن الفضول لا تهدي إلى الخير، وإنما تهدي إلى
((الغفلة
)) والبعد.. ومن
((أدب الوقت
)) قصر الأمل.. وهذا يحققه الزهد.. فإن
((الزاهد
)) في الدنيا، متأهب دائماً للآخرة.. ولا يظنن أحد أن الزهد في الدنيا يعني الهروب من العمل، واللجوء إلى المغارات، والفلوات.. فإن حكم الوقت الحاضر الذي أوجب علينا أن نفهم أن الصلاة الوسطى إنما هي المعاملة يوجب علينا أن نفهم أن الزهد إنما هو إيثار الآخرين، والتفكير في سعادة الآخرين.. فلا تكن رغائبك كثيرة لنفسك.. ولتكن رغائبك كثيرة للمحتاجين من الضعاف، ومن الأطفال.. فإن طريق وصولك إلى الله إنما هو طريق توصيلك الخير إلى الخلق.. وإذن فإن الزهد إنما هو التفاني في العمل، والتوسع في الكسب، على ألا تأخذ من كسبك إلا الكفاف، ثم تعود بباقيه على المحتاجين إليه ممن لا يطيقون الكسب.. فإنه، على مثل هذه الأخلاقية، تقوم الاشتراكية.. فالزهد يعين على قصر الأمل في الدنيا، وعلى الاستعداد للرحيل إلى الآخرة.. لأن الزاهد إنما كنزه في الآخرة.. ولذلك فقد قال المعصوم:
((الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر
)).. وكل سجين يتشوق إلى يوم الخروج من السجن.. وقال أيضاً:
((إن روح القدس نفث في روعي أن أحبب من أحببت فإنك مفارقه
)).. وهذه إشارة إلى أن العاقل، الكيس، إنما يحب من لا يفارق.. يتجافى عما في الدنيا ويبتغي ما عند الله.. وقال المسيح، في هذا الباب:
((حيث يكون كنزك، يكون قلبك
)).. وفي هذا إشارة إلى أن الواجب أن يكون عملك في الدنيا استعداداً للآخرة.. وليس هناك ما يعين على الانحصار في الصلاة، والحضور فيها، مثل الزهد، لأن به قصر الأمل في الدنيا.. وقصر الأمل يعين على قلة جولان الخاطر.. ومن
((أدب الوقت
)) أيضاً ألا يصرف في غير العمل النافع.. فلا تصحب في حياتك إلا الخيرين.. يقول ابن عطاء الله في ذلك:
((لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله..
)).. وهذا في غاية الأهمية.. وهو من تمام التوبة، تلك التي بدأنا بها هذا الحديث، والتي بدأتها أنت باغتسالك، غسل الجنابة، وجعلتها حداً فاصلاً بين ماضيك ومستقبلك.. من تمام هذه التوبة أن تقاطع من كنت تصاحب، في زمن الغفلة، فإنك لا يمكن أن تحتفظ بزملاء الغفلة، ثم تكون لك نقلة إلى عهد جديد.. ولذلك فإنهم يقولون: -
قاطع لمن واصلت أيام غفلةٍ * فما واصل العذال إلا مقاطع..
يعنون بالعذال الذين يلومونك على التوبة.. وهؤلاء هم زملاء الغفلة.. فإنك إن احتفظت بهم يردوك ويقطعوك عن العهد الذي أنت عليه مقبل.. ومن
((أدب الوقت
)) حب الخير للناس.. فإن استطعت أن توصل الخير للناس فلا تقعد دون توصيله، وإن عجزت عن توصيله فليكن في قلبك تعلق به لهم.. ومن
((أدب الوقت
)) كراهة أن تشيع الفاحشة في الناس.. فإن بلغك أن أحداً تورط في فضيحة فلا تسر لها، وتصّور نفسك في مكانه وأكره له، ما تكره لها.. ومن
((أدب الوقت
)) أن تحب الوقت، فتتشوق، لمجيء أوقات الصلوات، كما يشتاق الحبيب للقاء الحبيب.. ولا تعتبر أوقات الفراغ عدواً لك، فتقتلها في اللهو، ولعب
((الكشتينة
)).. والجلوس على الطرقات تبحلق في وجوه المارة، وتضايق نساء جيرانك، حين يخرجن، ويدخلن، في قضاء حوائج بيوتهن.. إن هذا لمن أسوأ أعمال الرجال،على التحقيق، وإنه لعمل غير مسئول.. وكل إنسان مسئول.. ألم يقل
((ثم لتسألن يومئذ عن النعيم
))؟؟.. ثم أليست الحياة أكبر النعم؟ وما هي الحياة إن لم تكن
((الثواني
)) و
((الدقائق
)) و
((الساعات
))؟؟ هذه التي تضيعها في هذه السخافات.. ومن
((أدب الوقت
)) ألا تنام وأنت تهم بمعصية.. فعندما تأوي إلى فراشك، من الليل، وتتوسد يمينك، وتستقبل القبلة، استعرض شريط ما جرى منك، وما جرى لك، في اليوم، ثم نق صدرك من جميع الأحقاد، والضغائن، وانو فعل الخير، من غدك.. ومن أجل ذلك فإن
((أدب الوقت
)) مع صلاة العشاء أن تكون آخر عملك وألا تثرثر بعدها، وألا تسمر مع من عسى يتعرضون لأعراض الناس، ولاجترار سيرهم.. فإن أحد الصوفية المعروفين قد كان يقول لأصحابه، بعد صلاة العشاء:
((هل عندنا مداح؟؟
)) فإن لم يكونوا، يقول:
((كان ما سوينا خير النوم أخير
)).. و
((أدب الوقت
)) بهذه الصورة ييسر لك القيام لصلاة الليل.. وصلاة الليل هي أهم الصلوات، بعد المكتوبة، لأن في ظلام الليل تكون النفس قريبة من عنصرها الذي منه صدرت ـــ ظلمة الطين ــــ ولأن في ظلام الليل تتقيد الحركة، فلا يصل إلى الأذن ما يوزعها.. ولأن فيه يتقيد النظر، فلا يصل إلى العين ما يوزعها.. ولأن في قيد هاتين الحاستين شيئا من الرهبة، والخوف الخفيف، الذي يجعل الداخل متيقظاً.. وكل هذا يعين الإنسان على أن ينسحب من الدوامة الخارجية التي تفرضها علينا
((الجلبة
))، وتيقظ الحواس، ليعيش في الداخل، سائحاً في، ومكتشفاً لأغوار النفس.. وهذا ما عناه، سبحانه وتعالى، حين قال:
((إن ناشئة الليل هي أشد وطأً، وأقوم قيلاً
)).. فلا تفرط في صلاة الليل، فإنها قد كانت دائماً ذخيرة العباد.. والحاجة إليها، في وقتنا الحاضر، أوكد منها في أي وقت مضى.. ومن
((أدب الوقت
)) في صلاة الليل أن يُقام لها بعد نوم، يكون الجسم فيه قد أخذ راحته.. ومن
((أدب الوقت
)) في صلاة الليل أن يُلاحظ وقتها، وهو الثلث الأخير من الليل.. ومن
((أدب الوقت
)) في صلاة الليل أن تُصلى في الظلام.. ومن
((أدب الوقت
)) في صلاة الليل أن تُصلى في ثوب، طاهر، أبيض، نظيف ـ لا في ثوب ملون، أو مزركش، حيث أمكن.. يستوي في ذلك الرجال والنساء.. ومن
((أدب الوقت
)) في صلاة الليل ألا تزعج الآخرين بها.. فلتكن حركتك مقتصدة في غير
((جلبة
))، ولا ضجيج.. ومن
((أدب الوقت
)) في صلاة الليل أن تحضر أشياءك التي تحتاجها من أول الليل فلا تفتح النور تبحث عن مسواك، أو عن سجادة، أو عن إبريق.. ومن الخير أن تصليها في ركن، من البيت، هادئ.. ولا بأس من صلاتها في فناء الدار، إلا إذا كانت الليلة مقمرة.. وإلا إذا كانت في فناء دارك لمبة شارع، قد حرمتك من ظلمة الليل.. ففي هاتين الحالتين يستحسن أن تأوي إلى ركن مظلم.. ومن
((أدب الوقت
)) في صلاة الليل ألا تسامر أحداً ممن معك في المنزل.. فلا تسلم على أحد.. ولا تذكر أحداً، لا بخير، ولا بشر.. ويجب أن تلاحظ هذا من الثلث إلى طلوع الشمس.. فإن بعض الناس يقومون لصلاة الصبح ويدخلون في سمر، بعد صلاته، أو قبل صلاته.. إن هذا الوقت هو أنفس أوقات اليوم، ويجب ألا يجري فيه إلا ذكر
((الواحد
)).. لا تذكر أحداً، لا بالشر، ولا بالخير.. لا تذكر أحداً، لا!! ولا أخير الناس.. ومن
((أدب الوقت
)) ألا تصرفه في تعلم علم لا تحتاجه لتجويد العمل في العبادة، أو
((المعاملة
)).. فإنك أنت إنما يفرض عليك، فرض عين، تعلم كيفية
((الوضوء
)) لأنك تتوضأ.. وفرض عين عليك أن تتعلم كيفية الصلاة لأنك تصلي.. ولكنه ليس بفرض عين عليك أن تتعلم كيف تكون زكاة الإبل، إذا كنت، مثلاً، من سكان أمدرمان، وليس عندك إبل تزكيها.. إن كل علم لا يراد به إلى العمل فإنما هو علم
((شيطنة
))، فلا يسوق إلى التقوى، وإنما يسوق إلى الفسوق.. طريق العلم النافع هو
((العلم
))، و
((العمل
)) بمقتضى العلم.. فلا تتعلم إلا العلم الذي لا تصح العبادة إلا به.. ثم اعمل، وانتظر أن يعلمك
((الله
)).. فإنه قد قال:
((واتقوا الله، ويعلمكم الله
)).. وتذكر جيدا أن السلف إنما كان هكذا يفعل.. فإن الدين لم يمت، في صدور الناس، إلا بعد أن أصبحوا
((يعلمون
)) ولا
((يعملون
)).. علمهم أكثر من عملهم..
ونحن، لما كنا، في هذا الكتيب، مركزين على الصلاة، ولما كان الصيام صنو الصلاة، فإنه من الواجب علينا أن نذكر شيئا من،
((أدب الوقت
)) في الصيام.. سواء، أكان الصيام تطوعاً، أم مكتوباً.. فإنه لمن
((أدب الوقت
)) في الصيام أن تدخل فيه بنية.. وأن تكون النية متنقلة.. فلا يكن صيامك عن الأكل والشراب فحسب.. ولكن ليكن صيامك استعانة، بترك الأكل والشراب، على يقظة الشعور، وشحذ الفكر، لتقوم المراقبة لجميع حركاتك وسكناتك في اليوم.. فليكن صومك فطماً لنفسك عن الرغبة في كل ما سوى الله.. ومن
((أدب الوقت
)) في الصيام أن تحب وقت الصيام سواءً، أكان رمضان، أو غير رمضان.. وأنت لا يمكن أن تحب وقت الصيام إذا كان الصيام إنما يحرمك من عادات كثيرة، عودت عليها نفسك، في أوقات الفطر.. فأنت إذا كنت، مثلاً،
((كييف سفة
))، (و
((كيف السفة
)) معروف) فلا يمكن أن تحب رمضان، وهو يحرمك من
((السفة
)).. ولا بد أن تشتاق لساعة الغروب، واشتياقك لساعة الغروب إنما يعني كراهتك للصوم.. ومن أجل ذلك فقد وجب أن تعيش معتدلاً، فلا تتورط في عادات من
((الكيف
)) تستولي على عقلك.. ومن
((أدب الوقت
)) في الصوم أن تعجل بالفطور.. وألا تعجل نفسك عن الأخذ بحاجتها منه.. أقبل على الفطور، وخذ حاجتك منه، في غير إسراف، قبل أن تنهض لصلاة المغرب.. ومن
((أدب الوقت
)) في الصوم أن تؤخر السحور، إذا كنت ممن يتسحرون.. فإن صيام المجودين يقوم على وجبة واحدة في اليوم، ولكن الرخصة بأكثر موجودة.. ومن أدب الصوم ألا يجري الاستعداد لرمضان بأطايب الأكل والشراب، وبالإسراف الذي نرى الناس عليه اليوم.. فإن الناس، في الوقت الحاضر، يأكلون في رمضان أكثر مما يأكلون في غيره من الشهور.. ومن
((أدب الوقت
)) في الصيام ألا تتعمد نوم
((النهار
)) وذلك بتكلف السهر في الليل، في غير ذكر، ولا فكر، كما يفعل الناس اليوم.. ومن
((أدب الوقت
)) في الصيام ألا تتخذ الصوم ذريعة
((لتقليل العمل
))، فتُظهر رمضان وكأنه موسم للتبطل، والكسل، والنوم، وقلة الإنتاج.. إنك بذلك تعرضه للذم، وهو أبرك الشهور، وأبعدها عن الذم.. ومن
((أدب الوقت
)) في الصوم، إذا كان تطوعاً، أن تحتفظ به سراً.. ومن
((أدب الوقت
)) في الصوم ألا تكون لك به شهرة، كأن تسمى
((الصائم
)) مثلاً، لكثرة ما تعرف به، فإن السنة أن تصوم وتفطر.. ومن
((أدب الوقت
)) في الصوم ألا يكون عادةً لك، حتى يصبح الإفطار أصعب عليك من الصيام.. فإن محاربة العادة، روح العبادة، فإنهم قد قالوا:
((آفة كل عبادة أن تصبح عادة
)).. ومن
((أدب الوقت
)) في الصيام مرافقته للقيام ـــ قيام الثلث- القيام مطلوب، في رمضان، وفي غير رمضان، ولكنه في رمضان أوكد منه في غيره، وذلك للقرينة القائمة بين رمضان والقرآن..
((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
)).. قم الثلث، وأكثر من قراءة القرآن، في الصلاة ـــ أكرر!! في الصلاة ـــ فإن القرآن، في الصلاة، خير العبادة.. والقرآن يعطي أسراره في رمضان، أكثر مما يعطيها في غيره من الأزمان.. وأنت حين، تقرأ القرآن، في رمضان، في الثلث، في الصلاة، استمع له، وأنصت.. قال، جل من قائل:
((وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له، وأنصتوا.. لعلكم ترحمون * واذكر ربك، في نفسك، تضرعاً، وخيفة، ودون الجهر من القول، بالغدو، والآصال.. ولا تكن من الغافلين * إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحونه، وله يسجدون
))..
((استمعوا له
))، يعني كونوا حاضرين، عند القراءة،
((فاستمعوا
)) و
((فكروا
)).. استمعوا بآذانكم، وفكروا بعقولكم.. ومما يعينك على
((الاستماع
)) تجديد الآيات المقروءة في الصلاة.. فإنك كلما صليت بقرآن جديد، كلما وجدت عقلك مشدوداً إلى الحضور.. وهذه من أنفع الحيل ليكون الإنسان حاضراً، أثناء القراءة.. أما قوله:
((وأنصتوا
)) فليس معناه مرادفا لـ
((فاستمعوا
))، وإنما معناه أن نحاول بالإنصات أن نرفع
((حجاب الفكر
))، وذلك بأن يؤدي السمع إلى القلب، في غير تفكر في المعنى.. فكأنه، في
((الاستماع
))، الأذن تؤدي إلى العقل، وأما، في
((الإنصات
))، فإن الأذن تؤدي إلى القلب، بلا واسطة العقل.. وهذا هو معنى قوله تعالى:
((إن ناشئة الليل هي أشد وطأً
)).. يعني يواطئ القلب فيها اللسان.. فإذا خرج الصوت بالقرآن، من اللسان، أحدث نقرة، في القلب، من غير أن يتفكر العقل في المعنى.. فتكون الأذن، كأنما هي صبابة، تصب نور القرآن في القلب صباً.. وهذه تبعث واردات القرآن، من القلب إلى العقل، فيكون العبد، ساعتئذ، متلقياً من الله بلا واسطة.. والإنصات أعز حالات التلقي.. وهو لا يتم، إلا بفضل الله، ثم بفضل المران الطويل على
((الاستماع
)).. ومن الأدب الذي يعين على تحصيل
((الإنصات
)) أنك، حيث سمعت القرآن يتلى، سواء، أكان في بيت مأتم، أو من المذياع
((فاستمع
)) له، ولا تنشغل عنه بغيره.. حتى ولو وصلك صوت التلاوة من مذياع الجيران، متقطعاً، مرة يبلغك، في وضوح، ومرة ينخفض، فلا يكاد يبلغ أذنك، فحاول أن
((تستمع
))، وأن تتابع.. إن هذا التنفيذ
((الحرفي
)) ((للأمر
)) ((بالاستماع
)) من قوله تعالي:
((فاستمعوا له
)) يفيض عليك من البركة، والخير ما ينقلك لإحسان
((الإنصات
)).. أحب القرآن، ووقره، وأعظم شأنه، يبح لك بأسراره..
لقد ذكرنا من
((آداب
)) أوقات العبادة طائفة صالحة.. وإنما أردنا بها أن تعين العابد المجود على البحث، ليستزيد منها، لا أن يكتفي بها.. ونؤكد له: أن الدخول في ممارستها، وإتقان مراعاتها، يفتح أبواب الخير على مصاريعها.. فإن موعود الله:
((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا.. وإن الله لمع المحسنين
)).. هذا وعد غير مكذوب..
وفي حين أن للعبادات وقتاً، فإنه ليس للذكر وقت.. ويكفي هنا أن نقرر: إن العبادات، وقتها الكبير إنما هو
((الحياة الدنيا
)).. ولكن ليس للذكر وقت.. فأهل الدنيا، في الدنيا، يذكرون الله.. وأهل البرزخ، في البرزخ، يذكرون الله.. وأهل الجنة، في الجنة، يذكرون الله.. وأهل النار، في النار، يذكرون الله، ولذلك فإن هم العباد، في الدنيا، أن تكون
((عبادتهم
)) وسيلة إلى
((الذكر
)).. ولقد ورد في ثلاث الآيات، التي سلف ذكرها، قبل قليل، قوله تعالى، مخاطباً حبيبه:
((واذكر ربك، في نفسك، تضرعاً، وخيفةً، ودون الجهر من القول، بالغدو، والآصال، ولا تكن من الغافلين
)).. عندما قال:
((ولا تكن من الغافلين
)) إنما أشار إلى اتصال الوقت بالذكر، بلا انقطاع.. ثم قال:
((إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحونه، وله يسجدون
)) أشار بقوله تعالى:
((إن الذين عند ربك
))، إلى
((الملائكة
)).. والملائكة ليس لهم، من الذكر، وقت فراغ.. وأشار بها أيضاً إلى
((العبيد
)).. و
((العبيد
)) يحاولون، دائماً، ألا يكون لهم، عن الذكر، وقت فراغ.. ذلك بأن العبودية إنما هي أن تكون مع الله كما هو معك.. وهيهات!! ثم قال:
((وله يسجدون
)) والسجود هنا عبادة، وعبودية ـــ شريعة، وحقيقة ـــ وللعقول سجود العبادة، وللقلوب سجود العبودية.. وسجود العقول منه رفع، ولكن سجود القلوب لا رفع منه.. فإذا سجد القلب فإنه لا يرفع أبداً، ولا يرجع.. وإنما قال تعالى:
((واسجد، واقترب..
)) في حق سجود العقل.. والغرض من هذه المساوقة في السجود، الغرض من السجود والرفع منه، إنما هو أن تسجد القلوب، ثم لا يكون هناك رفع، أبد، الأبيد..