إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الصَّـوم بين الكبت وفض الكبت

التعبير عن الحياة:


هناك علاقة وثيقة بين شهوة البطن و(الغريزة الجنسية)، فقد كانتا تمثلان، عند بداية النشأة، أكبر تعبير عن الحياة.. فأما الغريزة الجنسية فهي حقا كذلك – هي الشهوة الصادقة.. وأما شهوة الطعام فهي شهوة كاذبة وهي حظ الحيوان في الإنسان ولن تصحب الإنسان في سبحاته العليا كما تصحبه شهوة الجنس.. وشهوة الطعام في الحقيقة فرع من شهوة الجنس ولقد لواها الخوف فظهرت في مظاهر البخل والحرص وحب الملكية وحب التخزين والاحتكار والاختزان والتقاتل الشديد على الأرض وعلى المرعى وعلى الماء..
وجاءت تعاليم الدين لتخرج الإنسان من هذا التصور الخاطيء، فنادت بالاعتدال في تناول الطعام، ونفرت من الشبع وحببت الصيام، وجعلته علاجا للأمراض، ومنهاجا للذكاء ورهافة الحس.. فجاء في القرآن: (كلوا وأشربوا ولا تسرفوا)، وفي الحديث (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع)، و (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه) و (صوموا تصحوا).. وقولة السيد المسيح (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان وانما بكل كلمة من الرب) وجاءت تعاليم الدين أيضا بالمعرفة التي تعين على التحرر من الخوف على تحصيل الرزق. ففي القرآن يقول الله تعالى: (لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى)، و(ان الله هو الرزاق ذو القوة المتين).. أو (وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض، انه لحق، مثل ما انكم تنطقون).. وفي الحديث: (ما قدر لماضغيك أن يمضغاه لا بد أن يمضغاه فخذه بعزة نفس تربت يداك، ولا تأخذه بذلة نفس!!)..
ومما مد في وهم الفرد الأول بأن شهوة البطن هي أيضا تعبير أصيل عن الحياة، هو ارتباطها بتوقد الغريزة الجنسية، التي هي الأصل.. فالشبع يقوي الغريزة الجنسية، والجوع يضعفها.. وقد كان ذلك كذلك، لأن الغريزة الجنسية، عند البشر، مرتبطة بالجسد، والعقل معا، طرف منها في الجسد، والطرف الآخر في العقل.. فالجسد الجائع، أو المريض، أو المتعب، تضعف عنده هذه الغريزة، وكذلك الحال عند العقل الموزع، أو الخائف، أو القلق.. وقد كانت هذه الغريزة، قبل ذلك، عند الحيوان في الجسد فقط، يمارس الجنس في مواسم الاخصاب عندما تنبعث مثلا، رائحة معينة، وتفوح من جسد الأنثي، فتتحرك عند الذكور الحاجة إلى الجنس.. فلما ظهر العقل البشري بظهور الإنسان ارتبط طرف من الغريزة الجنسية بالعقل، وبقي الطرف الآخر في الجسد.. وجاء الدين بالرياضة في العبادات، وبالصوم، بصورة خاصة، لتسليم زمام هذه الغريزة إلى العقل، وحينئذ تصبح في نهاية المطاف، عملا اراديا يتحكم فيه العقل تحكما تاما.. والعابد في هذا المستوى، لا تتحرك شهوته الا نحو امرأة واحدة، هي زوجه لأن ذلك هو فكره وقناعته – راجع كتابنا (الرسالة الثانية من الإسلام) – او كتابنا: (تطوير شريعة الأحوال الشخصية) – وبذلك تتحرر الغريزة الجنسية من شهوة البطن، لتصبح هي الشهوة الوحيدة الصادقة في التعبير عن الحياة الواسعة – حياة الفكر وحياة الشعور. بأكثر مما تعبر اي وسيلة أخرى. لقد شاءت إرادة الله الهادية أن توقع على الغريزة الجنسية أول القيد في الأعراف، وفي الأديان، حتى انضبطت عندنا، في الإسلام، في قانون الحدود ليكون ترشيدها عن طريق القانون، وجاء الصوم ليتم تقويمها عن طريق التربية (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).. و(ان الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالصوم)..