شجرة الزيتون
تعقيب على الأستاذ الجليل عباس محمود العقاد
1958/3/29
عزيزي موسى:-
تحية طيبة مباركة..
وبعد فقد اطلعت على جوابك الذي حوى سؤالك عن شجرة الزيتون التي ورد ذكرها في الآيات الخمس التي سقتها من سورة ((النور)) و((الأنعام)) و((النحل)) و((التين)) و((عبس))، كما إطلعت على رأي الأستاذ العقاد الذي تفضلت فأرسلته لي في جوابك مع السؤال، وهو رأي، كما قلت أنت، لا يحوي شيئا يحسن السكوت عليه.. والتفاسير التقليدية في هذا الباب، لا تبلغ مبلغ الرضا من عقل متطلع.. وأول ما تجب الإشارة إليه هنا أن تفسير القرآن في سبحاته العليا، لا يلتمس إلا في التوحيد.. وقليل جدا من المفسرين، الفينة بعد الفينة، يستطيعون أن يردوا هذا المورد الصافي..
هنالك عبارة صوفية، لا بد أنك قد سمعت عنها، وهي قولهم: ((ما في الكون إلا الله)).. يريدون بذلك أن التعدد البادي على شخوص المخلوقات المختلفة، المتعددة، إن هو إلا رمز يشير إلى الوحدة، ودليل يقود إليها.. بل أن التعدد إن هو إلا مظهر الوحدة.. وهم يقولون في قوله تعالى، مخبرا عن عباده الصالحين: ((يحبهم ويحبونه))، يقولون إنما يحب نفسه.. وفي هذه النقطة أمر دقيق جدا تاه في آفاقه أكثر الصوفية، وهو التمييز بين التعدد والوحدة، أو قل بين الخلق، والخالق، إلى الحد الذي لا يبطل الشرع، ولا يوقع في الشرك.. ودقة هذا الأمر تأتي من كونه وسطا بين طرفين، فمن الصوفية من يرى طرف الخلق، ويشغل به عن طرف الخالق، فيتورط في الشرك.. وهو بذلك أقرب إلى علماء الشريعة، الفقهاء.. ومن الصوفية من يرى طرف الخالق ويذهل عن طرف الخلق، ويصرف عن معايشة الجماعة.. وهو بذلك أقرب إلى الممحقين، المجذوبين.. وكلا الطرفين ناقص، على تفاوت فيه. والكمال هو التوسط بين الطرفين، حيث يستطاع التمييز الدقيق، المؤدي، للتخلص من الشرك الخفي، وإلى تنظيم حياة المجتمع بتطبيق الشريعة..
هذا استطراد قصير أردت به إلى تقرير حقيقة علمية، دقيقة، يقوم عليها التوحيد، وهي أن الخلق ليسوا غير الخالق، ولا هم إياه، وإنما هم وجه الحكمة العملية، عليه دلائل، وإليه رموز.. ومن هنا نخلص إلى قوله تعالى: ((والتين، والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين)).. يقول المفسرون في ذلك أن الله، تبارك، وتعالى، أقسم بهذه الأعيان.. ((والتين)).. هو المعروف، المأكول.. ((والزيتون)) كذلك.. ((وطور سينين)) جبل بسيناء هو الذي كلم الله عليه موسى بن عمران.. وهذا ((البلد الأمين)) مكة المكرمة.. ولكن هذا التفسير قريب من القرب، وهو ما تعطيه اللغة.. وفي المعرفة الحقيقية أن الله لا يقسم إلا بنفسه.. وهذه الأعيان في السورة إن هي إلا رموز إليه، تعالى، تترقى، في سلم، من القاعدة إلى القمة.. وهو سلم على شكل هرمي إن صح هذا التعبير.. وهي، قبل أن تصل في سلم الترقي إلى مستوى الرمز إليه، تعالى، إنما ترمز إلى الإنسان، لأنه، في هذا السلم، بينهما – أعني بين الأعيان، وبين الله، تبارك وتعالى.. وذلك لأن الله، تبارك، وتعالى، قد خلق الإنسان على صورته، وليس المقصود، بالطبع الصورة الحسية، وإنما المقصود قرب صفات العبد من صفات الرب، على حد تعبير السادة الصوفية.. وجماع صفات الله تعالى هي: العالم، المريد، القادر.. وجماع أسمائه هي: الله، الرحمن، الرحيم.. والنسب الموصول بين الله، تبارك، وتعالى، وبين الإنسان إنما هو هذه الصفات، وهذه الأسماء.. وقد جعل الله تبارك، وتعالى، الإنسان عالما، مريدا، وقادرا، والفرق بينه، تبارك، وتعالى، وبين الإنسان، هو أن صفاته تعالى في جانب الكمال، وصفات الإنسان في جانب النقص.. وما عمل الإنسان، في العبادة، إلا محاولة قطع هذه المسافة التي تفصل بين صفات النقص، وصفات الكمال.. وإلى هذه الإشارة بقول المعصوم: ((تخلقوا بأخلاق الله إن ربي على سراط مستقيم)).. وما ذاك إلا بترفع العابد عن نقص صفاته، وتعلقه بكمال صفات الله.. ويمكن التمثيل، وتعالى الله عن كل مثيل، لكمال الصفات بقمة الهرم، وللنقص بالقاعدة.. والحق أن هذه الصورة ليست غريبة، فإن قوى البشرية، المركوزة في البنية الجسدية، لها هذا الشكل الهرمي.. وهي بذلك ذات مستويات لا تقع تحت حصر. ولكن أهمها أربع مستويات، تشكل هرما صغيرا، قرب القمة.. وهذه هي النفس الحيوانية، والنفس الإنسانية، والنفس الملائكية ((الروح))، و ((الروح))، هي النفس العليا، وهي القلب.. والقلب هو مقرها، جميعها، وهو جماعها.. ولقد وردت الإشارة، في القرآن، إلى كل أولئك: فإلى النفس الحيوانية قوله تعالى: ((وما أبرئ نفسي: إن النفس لأمارة بالسوء)).. وإلى النفس الإنسانية قوله تعالى: ((لا!! أقسم بيوم القيامة * ولا!! أقسم بالنفس.. اللوامة.. )) وإلى النفس الملائكية – ((الروح)) أو ((الذكاء))، قوله تعالى: ((ونفس وما سواها * فألهمها فجورها، وتقواها)) وإلى القلب، وهو النفس الكبرى، قوله تعالى: ((يا أيتها النفس المطمئنة * أرجعي إلى ربك، راضية، مرضية)).. وفي هذه الآيات، التي نحن بصددها، رمز إلى هذه المستويات الأربع بالأعيان الأربعة، هكذا: ((التين)) النفس الحيوانية، و((الزيتون)) النفس الإنسانية، و((طور سينين)) النفس الملائكية، ((الروح)) و ((هذا البلد الأمين)) القلب..
ولما كان سؤالك يخص ((شجرة الزيتون)) فإنا نترك جانبا الأعيان الأخرى.. وقد وصلنا، في استطرادنا، إلى أن ((الزيتون)) يرمز إلى ((النفس الإنسانية)).. وهي وسط بين ((النفس الحيوانية)) و ((النفس الملائكية))، ولذلك قال تعالى في سورة ((النور)).. ((شجرة مباركة – زيتونة – لا شرقية، ولا غربية)) ، أي وسط بين طرفين: الملك والحيوان.. وهي تنشأ من لقاح الحيوان والملك، كما ينشأ الجنين من لقاح المرأة والرجل.. وهذا الثالوث هو قوى العقل الثلاث: الذاكرة – النفس الحيوانية – والخيال – النفس الملائكية – والفكر – النفس الإنسانية.. وهذه القوى الثلاث أعني قوى العقل – وهي الذاكرة، والخيال وبينهما الفكر، يمكن الحديث عنهما من نواح كثيرة.. وإنما يهمني هنا أن أبرز قيمة العبادة، الإسلامية منها بشكل خاص، في التأثير على تطوير هذه القوى.. نحن كثيرا ما نتحدث عن جارحتي العقل، والقلب، ونقول الإنسان الكامل من جمع صفاء الفكر، وسلامة القلب، أو، بتعبير آخر، من استمتع بحياة الفكر، وحياة الشعور، والحق أن حياة الفكر، وحياة الشعور، حياة واحدة، ذلك بأن حياة الفكر هي السبب المباشر، والوحيد، لتحقيق حياة الشعور.. وهذه الأخيرة هي الحياة الكاملة، وهي المعبر عنها بالدار الآخرة، أو بالحياة الآخرة، ولقد قال الله تعالى فيها: ((وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو، ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون))..
وإنما أراد بكلمة ((الحيوان)) الحياة الكاملة، وهي حياة الشعور، وهي، كما سلف القول، نتيجة لحياة الفكر.. فكلما صفا الفكر، كلما اتسعت، وتعمقت، حياة الشعور.. والفكر هو بمثابة الولد الذي ينجب بين والدين: الذاكرة، والخيال.. وكلما نجب الوالدان، كلما كان الولد نجيبا – بمعنى أنه كلما كانت الذاكرة قوية، ومحيطة، ودقيقة، وكان الخيال، واسعا، مجنحا، طليقا، كلما كان الفكر سليما، نافذا، عبقريا..
والخيال والذاكرة مرتبطان.. وهما يمثلان الماضي والمستقبل.. وكلما رجعت الذاكرة بعيدا في الماضي، كلما انسرح الخيال بعيدا في المستقبل.. والأصل كله الذاكرة – ((النفس الحيوانية)).. ولأمر ما سمي ((ذكر الله)) ذكرا!! ولأمر ما قال الله تعالى: ((ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مدكر؟؟ )) أي متذكر!!
وما الذي يتذكره المتذكر، أو يذكره الذاكر؟؟ سيقولون لك يذكر ((الله)).. ولكن هذا قول يحتاج إلى شرح، وتفسير.. ولست أدري هل أمضي في هذا الحديث المتشعب أم أقتصر؟؟ لعل من الخير أن أكتفي بهذا الآن في هذا الباب..
وما أحب أن أختم حديثي دون أن أنبهك إلى أمر هام جدا هو أن تفسير القرآن آن له أن يتعمق، وأن يرجع إلى أصله الأصيل في النفس البشرية بعد أن كان متعلقا، عند جميع المفسرين، بالأعيان المذكورة في الآفاق البعيدة، لأنه بذلك يصبح ميسرا للذكر، معرفا بالنفس، هاديا إلى الله.. وهذه هي وظيفة القرآن بالأصالة.. والله تعالى يقول: ((سنريهم آياتنا – في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟؟ ))
إن القرآن علم نفس.. وهنا قيمته الحقيقية، ومعناه الأخير، الذي تفتقر إليه الإنسانية، قاطبة.. وواجب أهله أن يبينوا ذلك للناس بكل سبيل.. ويوم تتبين للناس قيمة القرآن الحقيقية سيلزمونه بجوع بطونهم، ومشقة أنفسهم..