إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الكتاب الأول من سلسلة رسائل ومقالات

تعقيب على تعليق الدكتور محمد النويهي


الخرطوم في 6/9/1952
عزيزي الدكتور محمد النويهي.
حفظه الله
نشكر لك، أجزل الشكر، جوابك الممتع حقا في التعليق على كتيب الجمهوريين. ومما لا شك فيه، أن ملاحظاتك عليه قيمة، تستحق المناقشة، والتعقيب.
وقولك عما ورد في مبدأ الجمهوريين عن الحرية الفردية المطلقة (ولست أدري أتعنون الحرية الفردية المطلقة أم إنساق القلم إنسياقا إنشائيا – فإنني لا أومن بالحرية المطلقة للفرد في أي مجتمع منظم ولا أصدق بإمكان تحقيقها – ولو تحققت لإستحال المجتمع إلى فوضى تامة وتهدم في زمن وجيز).
نحن نعني الحرية الفردية المطلقة، والتعليل يسير، ذلك أن كل فرد من أفراد المجموعة يختلف عن كل فرد آخر، تمام الإختلاف. وكمال كل فرد هو أن يكون نفسه – هو أن يحقق فرديته التي تميز بها عن سائر أفراد القطيع البشري.. وهذا يقتضي تحرير الفرد تحريرا كاملا عن كل الإعتبارات الخارجية، فلا يتقيد إلا بقيود مداركه، وفهمه، وشعوره، وليست الحرية الفردية المطلقة متناقضة مع قوانين الجماعة، وإنما هي إمتداد لها.. ولا ينالها الفرد إلا بفضل المعرفة التي تجعله فوق القوانين.. لأنه قد ترفع أن يأتي من الأعمال ما يؤذي صالح الجماعة.. بل أنه قد وظف نفسه لصالح الجماعة بل أنه ليترك ما لا بأس به، خوف ما به بأس.. ذلك أنه موكل بالتجويد.. ولا تمنح قوانين الجماعة، التي ستظل قائمة، الفرد الحرية المطلقة، إلا في معنى أنها تعنى بتعليمه تعليما يمكنه، في آخر الأمر، من التمتع بتلك الحرية، بفضل ترفعه عن صغائر الأعمال، التي تضعه تحت طائلة القوانين.. الفرد الحر حرية مطلقة لا يخضع لقيود القوانين، وإنما يخضع لقيود الأخلاق، وهي أدق من قيود القوانين، وفي الخضوع لها، وفي التقيد بها الحرية المطلقة..
وقولك في تفسيرنا لقوله تعالى: ( ((وكذلك جعلناكم أمة وسطا))، أي وسطا بين تفريط الغرب المادي، وإفراط الشرق الروحاني): ((بأن هذا التفسير، بهذا الوضع، غريب جدا، لأنه، حين نزلت الآية، لم يكن هناك غرب مادي، أو غير مادي، كما نفهم الآن.. ومعنى الآية المقصود في القرآن أمة وسطا بين تطرفات الأديان الأخرى)) فهو قول لا يخالفنا فيما ذهبنا إليه.. تقول: ((ومعنى الآية المقصود أمة وسطا بين تطرفات الأديان الأخرى)) وهذا حق، وحق أيضا أن الأديان المقصودة هنا هي اليهودية، والنصرانية.. وطابع اليهودية المادية، وطابع النصرانية الروحية.. وفي كليهما تطرف في ناحيته.. ولا عبرة بالقول بأنه: ((لم يكن، حين نزلت الآية غرب مادي أو غير مادي، كما نفهم الآن)). وذلك أن القرآن لا يتقيد بما كان يعرف وقت نزوله من المعاني، وإنما هو مطلق، ويحتمل الإستخدام في المعاني المحدثة، التي تناسب المشاكل القائمة، في كل زمان ومكان.. قولك: (ثم أن مقابلتكم بين تفريط، وإفراط، ليس إستعمالا صحيحا، ولا أظنكم تقصدونه.. فإذا تأملتم قليلا وجدتم أن الغرب لا يوصف بالتفريط المادي، وإنما يوصف بالإفراط المادي – وهذا بالطبع ما تقصدونه – كما يوصف الشرق بالإفراط الروحاني.. إذن لا سبيل لكم إلى استعمال المقابلة، بل ينبغي أن تقولوا: ((إفراط الغرب المادي وإفراط الشرق الروحاني))) قول صحيح، لو أردنا ما أردت.. ولكنا أردنا أن نقول أن الغرب المادي فرط في الروحانية.. وأن الشرق المادي أفرط في الروحانية.. وواضح أن ((المادي)) و ((الروحاني)) ليستا صفتين ((لتفريط))، و ((إفراط))، وإنما هما صفتان ملازمتان، غير مزايلتين، ((للغرب)) و ((للشرق)).. الغرب المادي، والشرق الروحاني.. وكذلك قلنا ((تفريط الغرب المادي)) و((إفراط الشرق الروحاني)).. ويشفع لنا في ذلك ما جاء في حديثنا في المذكرة التفسيرية التي منها أخذت الجملة موضوع النقاش: ((الفلسفة الإجتماعية التي تقوم عليها تلك المدنية الجديدة هي ديمقراطية، إشتراكية، تؤلف بين القيم الروحية، وطبائع الوجود المادي، تأليفا متناسقا، مبرأ، على السواء، من تفريط المادية الغربية، التي جعلت سعي الإنسانية موكلا بمطالب المعدة والجسد.. ومن إفراط الروحانية الشرقية التي اقامت فلسفتها على التحقير لكل مجهود يرمي إلى تحسين الوجود المادي بين الأحياء)).. قولك: ((في ص 5 تجدون في بند 4 الملكية الفردية التي تسمحون بها مقتصرة على ملكية المنزل، والحديقة حوله إلخ.. وهذه في نظري ليست إشتراكية، ولا أعرف مذهبا إشتراكيا متطرفا لهذا الحد فلعلكم تعيدون النظر الدقيق بما تقصدونه)) قول صحيح، ومهما يكن من الأمر فإن الملكية ينبغي أن تستقيم مع الحرية الفردية، فلا يملك الرجل الرجل.. ونحن لم نقصد بتحديدها إلا إلى هذا، حين قلنا، في نفس البند الذي ذكرته إلخ.. ((ما لا يستلزم إستخدام مواطن إستخداما يستغل فيه عرقه لزيادة دخل مستخدمه))
قولك عن البند نمرة 7 بأنه ((تكرار للبند نمرة 5 ولا جديد فيه)) صحيح، وسنعيد فيه النظر حين نخرج طبعة جديدة.. قولك عن الآية ((الطيبات للطيبين بدون واو عطف)) غير صحيح، فإنها بواو عطف.. بقي شيء مهم هو قولك: ((ولكن أظن أن كتيبكم لا يزيد عن شرح الأهداف، وينقصه رسم المنهاج السياسي، العملي، الذي يتخذ لتحقيقها، ولعلكم تعقبونه بآخر، يفصل البحث في المصاعب العملية التي تنشأ في طريق من يحاول تحقيق هذه الأهداف، والوسائل العملية، للتغلب عليها، إليكم مثلا حديثكم عن عدم التعاون مع الحكومة المستعمرة الذي ينتهي إلى العصيان المدني، لا يخفى عليكم أن مثل هذا الهدف تقوم دون تحقيقه في بلد كالسودان، بحالته الحاضرة عقبات جسام، فما هي؟؟ وكيف يتغلب عليها بالضبط؟؟ وماذا يكون تجاوب مختلف الطبقات مع مثل هذه الدعوة؟؟ وكيف نعالج رد فعلها؟؟ ماذا يكون تصرف السلطات وكيف نقابل هذا التصرف؟؟ كل هذا يحتاج إلى بحث مفصل، ودراسة دقيقة، وتحقيق ملي)).. هذا قولك، وهو قول جميل، ونقد بصير، وأنا أوافق أنه لن يكفي، في الرد عليه، أن نورد ما جاء في مذكرتنا التفسيرية: (وأما سبيلنا إلى تحقيق العصيان فهو الإستقتال في سبيل نشر الدعوة حتى تتم لنا الوحدة القومية بخلق سودان يؤمن بذاتية متميزة، ومصير واحد، يفهم أفراده المسائل العامة، على نحو قريب من قريب، فتزول بذلك الفوارق الوضعية من إجتماعية، وسياسية، فترتبط أجزاء القطر من شماله وجنوبه، وشرقه، وغربه، فيصبح كتلة سياسية واجتماعية، متحدة الأغراض، متحدة المنافع، متقاربة الإحساس)
ولا ما جاء في خاتمة الكتاب: (ونحن نتقدم بهذه المدنية إلى الإنسانية جمعاء.. لا نفرق بين قبيل منهم، ونعلم، حق العلم أن علينا لأن نطبقها داخل حدودنا الجغرافية، قبل أن نتوقع لها استجابة من الآفاق الأخرى.. وأن أول خطوة في سبيل تطبيقها لهي إجلاء الإستعمار، إجلاء تاما، ناجزا، ولإجلاء الإستعمار لا بد من ضم الصفوف، ولا تضم الصفوف إلا إذا فكر الناس جميعا في شيء واحد، وأحبوا جميعا شيئا واحدا وسلكوا جميعا سبيلا واحدا.. ولقد نعلم جيدا أن داءنا العضال هو التفرقة التي نشأت من سوء فهم بعض الناس لأغراض البعض – ومرد سوء الفهم هو اختلاف الأمزجة والميول، في أفراد البيئة الإجتماعية الواحدة، إختلافا كبيرا، ذلك بأن الأمزجة المختلفة تحمل الناس على عادات مختلفة، وهذه العادات المختلفة تقوى، بطول المراس، حتى تصبح حواجز بين الأفراد، تفرق أهواءهم، وتباعد بين قلوبهم، وتباين أساليب تفكيرهم.. فإذا ما عدنا جميعا إلى ترسم روح السنة ((بتقليد محمد))، وإلى الإهتداء بأخلاق القرآن، فستتوحد بيئتنا الإجتماعية، وستتشابه عاداتنا، وستتقارب أساليب تفكيرنا، وسنلتقي جميعا في فكرة واحدة، هي الحرية، وسنحب جميعا شيئا واحدا هو الكمال، وسنسلك جميعا طريقا واحدا هو طريق الحق.. وستلقي علينا معرفة الحق تبعة العمل بالحق، وأيسر ما يقضي به العمل بالحق عدم التعاون مع الباطل – فإنك حين تدفع الضريبة لحكومة مستعمرة، أو حكومة مفسدة، إنما تعينها على باطلها، وتتحمل بذلك كفلا من إصرها.. وأيسر سبيليك أن تمتنع عن إعانتها، وتأبى التعاون معها.. وهذا ما عنينا بالعصيان المدني، الذي لا يجلو الإستعمار بأيسر منه، ولا أقل).. فأنت ترى أن أهم ما لدينا هو نشر الدعوة حتى يتربى الفرد.. أما كيف ننشر الدعوة، فإنه، كان، ولا يزال، ولن ينفك موضع درسنا، وسننتهي إلى رسمه عما قريب، بعون الله..
أرجو أن تسمح لي فأكرر شكري على نقدك المتبصر، وتوجيهك السديد..

محمود محمد طه