إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الشيعة

عصمة النبوة واستخلاف أبي بكر:


ومن عصمة النبوة استخلاف النبي لأبي بكر من بعده، بقرينة استخلافه علي الصلاة بالمسلمين في مرضه الأخير.. فقد جاء مؤذنه بلال يوما من أيام مرضه، فقال له: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فقالت عائشة: "يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس.. فلو أمرت عمر!!).. فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس.. "فأشارت عائشة إلى حفصة لإعادة مقالتها على النبي، ففعلت حفصة.. فقال النبي: "إنكن صويحبات يوسف!!" ثم قال لعائشة: "مروا أبا بكر فليصل بالناس!!" وروي عبد الله بن زمعة أنه خرج من عند رسول الله، فإذا عمر في المسجد، وأبو بكر غائب.. فقال: "يا عمر قم فصل بالناس.. "فتقدم، فكبر، وكان رجلا مجهرا.. فلما سمع رسول الله صوته سأل فأين أبو بكر؟؟) يأبى الله ذلك ورسوله والمسلمون!!" ولام عمر عبدالله بن زمعة، قائلا: "أمرتني إلاّ أن أصلي بالناس ويحك!! ما صنعت بي يا ابن زمعة؟؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلاّ أن رسول الله أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس".. قال ابن زمعة: "والله ما أمرني رسول الله بشيء ولكنني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس.. "
وإمامة أبي بكر للمسلمين في الصلاة إنما تمثل إمامته لهم في أمر دينهم، وفي أمر دنياهم، حيث كانت دنيا الناس يومئذ دينا، (الدنيا مطية الآخرة)، و(الصلاة عماد الدين) كما قال النبي الكريم، وكما قال أيضا: (أئمتكم شفعاؤكم، فانظروا بمن تستشفعون).. وكما قال أيضا: (يؤم الناس خيرهم)..
ولقد احتج عمر على الأنصار، في استخلاف أبي بكر، بإمامته للمسلمين في الصلاة، وذلك حين اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة لاختيار الخليفة من بينهم، فقال: (يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس.. فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟؟) – (الصواعق المحرقة، صفحة 9).. ولقد روي إن عليا قد أقر لاحقا، خلافة أبي بكر علي أساس إمامته في الصلاة، فقال: (لقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يصلي بالناس، وأنا حاضر غير غائب، صحيح غير مريض، ولو شاء أن يقدمني لقدمني، فرضينا لدنيانا من رضيه الله ورسوله لديننا) – النووي.
وكان استخلاف النبي لأبي بكر علي أمة الرسالة الأولى من أبلغ دلالات العصمة النبوية، كما شهدت بذلك مواقف أبي بكر، في خلافته الراشدة، والتي بلغ فيها شأوا بعيدا في حفظ الدين بتوخي الاتباع.. ومن هذه المواقف ما يلي:

وفاة النبي الكريم:


أنكر عمر وفاة النبي الكريم، وذهب يخطب في الناس: (إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، وأن رسول الله قد مات، والله ما مات، ولكنه ذهب إلى لقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات.. والله ليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله قد مات).. فخطب أبوبكر في الناس بقوله: (أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.. ) وذكرهم بقوله تعالى: (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل، انقلبتم علي أعقابكم؟؟ ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين.. ) فلما سمع الناس ذلك صقعوا، وكأنهم لم يسمعوا قبل ذلك هذه الآية حتى تلاها أبوبكر.. قال عمر: (والله ما هو إلاّ أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت ساعتئذ أن النبي قد مات.. ) وبذلك أخرج أبو بكر المسلمين من هول، واضطراب كانا قد كادا أن يؤديا بهم إلى الفتنة.. وهو موقف قد دل على مبلغ استحصاد التربية النبوية لأبي بكر، كما دل علي مبلغ علم أبي بكر بمقام الله تعالى، وبمقام النبي الكريم، مما أهله لخلافة الرسالة تمام التأهيل.. فقد قال النبي الكريم عن أبي بكر: (ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاة، ولا بكثرة صيام، وإنما بشيء وقر في صدره).. فإن ما وقر في صدر أبي بكر هو المعرفة بمقام النبي الكريم من مقام ربه تعالى.. فقد كان أبو بكر، في حياة النبي، يستشعر معية الله تعالى، ومعية النبي الكريم، معا.. ولذلك كان منخفض الجناح للنبي الكريم، بالغ الأدب معه، حتى عرف بالخمول (عدم الظهور) إلى جانبه.. وعن معية الله تعالى وعن معية النبي الكريم لأبي بكر، جاء قوله تعالى: (ثاني أثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه: لا تحزن، إن الله معنا!!).. وعن تأدب أبي بكر مع النبي، القائم علي المعرفة بمقامه جاء في الأثر أن النبي قد أقبل علي المسجد، أيام مرضه، وأبو بكر يصلي بالناس، فتزحزح للنبي عن مقام الإمامة، فأشار اليه النبي بالاستمرار فيها، فلم يفعل، وأكمل صلاته مأموما خلف النبي.. فسأله النبي عقب الصلاة: (ما منعك، إذ أمرتك، أن تصلي بالناس)؟؟ فقال أبو بكر: (ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بالمسلمين وفيهم رسول الله!!) تلك دلالة على أن أدب أبي بكر مع النبي إنما كان قائما علي المعرفة بمقامه منه، وبمقام النبي من مقام ربه.. كان يجد معية النبي، ومعية الله.. فلما انتقل النبي لازمته معية الله، فلم تنفك عنه.. ولذلك لم يرعه ما راع الأصحاب، وما كاد أن يفتنهم في دينهم..

بعثة أسامة:


وتلاحقت تلك المواقف المشهودة لأبي بكر، بعد انتقال النبي، فبرزت فيها شخصيته علي صورة متفردة من القوة، بعد سكون شديد تحت جناح الجناب النبوي.. وكان ثاني تلك المواقف هو موقفه من بعثة أسامة بن زيد، حيث كان النبي قد جهز جيشا لفتح الشام جعل إمارته لأسامة، وجعل فيه أبا بكر، وعمر، وأبا عبيدة، ونفرا من أكابر الصحابة (وكانت إمارة أسامة إمارة حرب خاصة).. فأخذ الجيش في التحرك، ولما اشتد المرض الأخير بالنبي، عسكر الجيش قريبا من المدينة، وهو ينتظر انجلاء الأمر.. فلما قبض النبي الكريم واستخلف أبو بكر، فانتفضت العرب، مرتدا بعضهم، مانعا بعضهم الزكاة، مهددين المدينة بالخطر، أصر أبو بكر على إنفاذ بعثة أسامة، أشد الأصرار، فأشار عليه كبار الصحابة، وعلى رأسهم عمر، بتأخير تلك البعثة، وتأخير غزو الروم، حتى ينجلي موقف المرتدين، وتأمنهم المدينة.. فرد أبو بكر بقولته الشهيرة: (والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تأكلني في المدينة لأنفذت هذا البعث.. كيف ورسول الله ينزل عليه الوحي من السماء يقول: انفذوا جيش أسامة؟؟) ثم لما رأى الأصحاب عزمه علي إنفاذ البعث كلموه في تولية القيادة من هو أكبر من أسامة سنا، فرد عليهم بقوله: (استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرونني أن أنزعه؟؟ والله ما أحل عقدة عقدها رسول الله).. واستأذن أبو بكر أسامة في أن يترك له عمر للمشورة، فأذن له راضيا، وخرج يشيع الجيش ساعة، وهو راجل وأسامة راكب، مصرا علي ذلك، برغم تحرج أسامة، وهو يقول: (وما عليَّ أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله؟!) وأوصى أسامة بقوله: (فأنفذ لأمر رسول الله فإني لست آمرك ولا أنهاك، إنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول الله)..
هذه الواقعة شديدة الدلالة على مبلغ قدم أبي بكر في حسن الاتباع.. فهو ينفذ البعثة، برغم ما كان يبدو من حاجة للجيش في المدينة، ثم هو يصر على قيادة أسامة للجيش كما عقد لواءها الرسول، ثم هو لا يؤخر عمر عن البعث حتى يستأذن أسامة، ثم هو يمشي راجلا وأسامة راكب حتى يقم له حظ من المشاركة في البعث تحت إمرة أسامة كما عينه الرسول.. ثم هو لا يوجه أسامة بشيء سوى إنفاذ أمر الرسول..ولقد ظهرت الحكمة من بعثة أسامة لاحقا، حيث هابت القبائل التي مر بها الجيش أمر المسلمين، مما سكن روح الردة فيهم، ومما صرف الروم عن الاستعانة بهم علي حرب المسلمين.. فالبعث قد درأ الخطر عن المدينة بأكثر مما كان يرجوه بعض المسلمين من بقائه بها.. وفوق ذلك، فقد ظفر المسلمون منه، بفضل أبي بكر، فضل الاتباع – وهو أكبر الفضائل..
فكيف يكون من هو هذه حاله من الحرص البالغ علي الاتباع، كأبي بكر، متهما بصرف أمر من أمور الدين أوصى به النبي عن غير وجهه، كما زعم الشيعة وهم ينسبون إلى أبي بكر صرف أمر الخلافة عن عليٍّ اليه؟؟

حرب الردة:


وهذه، كبرى الوقائع الدالة على عصمة النبوة في استخلاف أبي بكر، وعلى استحقاق أبي بكر بهذا الاستخلاف.. ذلك بأن بعض العرب، والعجم، قد ارتد، وبعضهم قد منع الزكاة، عقب انتقال النبي، فاستشار أبو بكر الأصحاب، فأشاروا، في معظمهم، عليه بعدم قتال من منع الزكاة، فأصر أبو بكر علي قتالهم، حتى أنفذه.. وقد قال له عمر: (يا أبا بكر كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا اله إلاّ الله، فمن قال لا اله إلاّ الله فقد عصم مني نفسه، ماله، إلاّ بحقه، وأمرهم إلى الله.. فقال أبو بكر: أولم يقل إلاّ بحقه؟؟ فإن الزكاة حق المال.. والله لأقاتلنَّ من فرق بين الصلاة والزكاة.. والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه حتى يؤدوه.. إنه قد انقطع الوحي، وتم الدين، أوينقص وأنا حي؟؟) وقال لعمر: (رجوت نصرتك فجئتني بخذلانك!! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟؟)، وحارب أبو بكر المرتدين، ومانعي الزكاة حتى ردهم إلى الدين، وإلي إيتاء الزكاة صاغرين.. وبذلك رد أبو بكر غوائل الفتنة، وحفظ زمار الدين.. ولقد روي عن عمر أنه قبل رأس أبي بكر، بعدها، قائلا: (لولا أنت لهلكنا).. وروي أن أبا هريرة قال: (لو أن أبا بكر ما استخلف ما عبد الله!!).. وبحق فقد كانت حرب الردة بمثابة بعث ثان للإسلام بعد أن ارتد العرب عنه، وكادت أن تذهب ريح المسلمين، ويستضعف أمرهم.. ولقد كشفت هذه الواقعة عن خصائص متفردة في شخصية أبي بكر، قد كانت خفية قبل استخلافه، فتهيأت، باستخلافه، الظروف لإبرازها.. ومنها علمه بحقائق الدين، كما ظهر من فهمه للحديث الذي احتج به عمر، ومنها مضاء عزمه، وقوة إقدامه في إنفاذ الحق متى ظهر له وجهه.. وذلك مما دل على أن أبا بكر، في خفض جناحه، وخموله، بجوار النبي، إنما كان يصدر عن قوة، لا عن ضعف، فبرز قويا في مواطن القوة.. ولقد كان خليقا أن يكون موقف القوة، في ذلك الموطن، هو موقف عمر، مما يتمشى مع طبيعته، لولا أن أبا بكر قد أعد، إعدادا خاصا من النبي بالتربية السديدة، لمثل هذا الموقف المصيري في تاريخ الإسلام.. ومفتاح شخصية أبي بكر إنما يتمثل في قولته الجامعة: (إني متبع ولست بمبتدع)- ومن ههنا مصدر قوته.. ومقدرته علي الاتباع صادرة من مقدرته علي التصديق.. حتى سمي الصديق.. فقد ارتد أناس في حياة النبي لما سمعوا بحديث الإسراء فلم يتبينوه.. أما أبو بكر فما زاد علي أن قال: (أوقد قال ذلك؟؟ لئن قال ذلك فقد صدق!!) ولما عادوا يسألونه: (أتصدق أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وعاد قبل أن تصبح؟ قال: (نعم!! إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك من خبر السماء في غدوة أو روحة.. ) ثم ذهب إلى النبي، فطفق يسمع منه، ويصدقه، ويقول: (أشهد أنك لرسول الله!! وفي صلح الحديبية حينما صالح النبي قريشا بشروط رآها بعض الأصحاب، في البداية، مجحفة في حق المسلمين، قال عمر للنبي: أولسنا علي الحق وعدونا علي الباطل؟؟ قال النبي: "بلى!!" فقال عمر (فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟؟ قال النبي: "إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري "فأتيت أبا بكر – والرواية لعمر – فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟؟ قال: "بلى!!" "قلت: (ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟؟) قال: "بلى!!" قلت لم نعطي الدنية في ديننا إذا؟؟) قال: "أيها الرجل إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه لعلى حق.. )..
هكذا كان أبو بكر عنوان الاتباع، والتصديق.. فكان بذلك، مثابة للمسلمين يصححون بها حالهم من نقص الاتباع والتصديق، وقد حفظهم الله به.. وذلك من أدلّ الدلالات علي عصمة النبوة في استخلافه..