إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الشيعة

الحفظ الإلهي لعلي والبيعة لأبي بكر:


ومن دلائل الحفظ الإلهي لعلي مبايعته لأبي بكر بالخلافة بعد أن توقف عن هذه البيعة بعض الوقت.. قال ابن قتيبة في كتاب (الإمامة والسياسة طبعة 1969، صفحة 14): (لما توفيت – فاطمة – أرسل عليٌّ إلى أبي بكر: أن اقبل الينا.. فأقبل أبوبكر حتى دخل على عليٍّ، وعنده بنو هاشم، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: أما بعد، يا أبابكر، فإنه لم يمنعنا أن نبايعك إنكار لفضيلتك، ولا نفاسة عليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددت علينا به. ثم ذكر عليٌّ قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يذكر ذلك حتى بكى أبوبكر، وقال: لقرابة رسول الله أحب اليِّ، أن أصل، من قرابتي!! إني والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلاّ صنعته إن شاء الله.. ثم خرج أبوبكر إلى المسجد الشريف، فأقبل عليه الناس، فعذر عليا بمثل ما اعتذر عنده، ثم قام عليٌّ فعظم حق أبي بكر، وذكر فضيلته، وسابقته، ثم مضى، فبايعه، فأقبل الناس على عليٍّ، فقالوا: أصبت يا أبا الحسن، وأحسنت.. فلما تمت البيعة لأبي بكر أقام ثلاثة أيام يقيل الناس ويستقيلهم، فيقول: قد أقلتكم من بيعتي.. هل من كاره؟؟ هل من مبغض؟؟ فيقوم عليٌّ في أول الناس، فيقول: والله لا نقيلك ولا نستقيلك أبدا، قد قدمك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لتوحيد ديننا من الذي يؤخرك عن توجيه دنيانا؟؟ انتهى..
وهكذا ما تلبث علي بن أبي طالب عن مبايعة أبي بكر لبعض الوقت إلاّ لما كان يراه من حق له في الخلافة دون أبي بكر، وذلك كما قال هو: (كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا).. لكأنه يعتذر عن رأي سالف.. وقد جاء في "شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد، المجلد الثاني، صفحة 5: (ولقد قال أبوعبيدة لعلي لما امتنع عن المبايعة: "يا أبا الحسن: إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم، ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبابكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالا، واضطلاعا، فسلم له هذا الأمر وأرض به، فإنك إن تعش، ويطل عمرك، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق، في فضلك، وقرابتك، وسابقتك، وجهادك.. فقال عليٌّ – فيما قال: (يا معشر المهاجرين.. الله.. الله!! لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته، إلى دوركم وبيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس، وحقه.. فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم، أما كان منا القاريء لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنة المضطلع بأمر الرعية؟؟ والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الله بعدا) انتهى.. هذا ما كان يحتج به علي بن أبي طالب، في مبدأ أمره، حينما كان يرى أن له حقا في الخلافة، مما صححه بمبايعته أبابكر، لاحقا.. فعليٌّ، في البداية، إنما كان يرى ألاّ تخرج الخلافة عن بيت النبوة، وكذلك كانت ترى السيدة فاطمة.. وكانت يومئذ، دون الثلاثين وكان عليٌّ لم يتجاوز الثلاثين إلاّ بقليل.. وكانا، في حداثة هذه السن، علي حب بالغ للنبي الكريم، وتوله، وتعلق شديدين به، وهما يستشعران خصوصيتهما عنده، وينفردان بمودته المحضة، وبره الغامر، ويستظلان برعايته منذ أن درجا مدارج الطفولة في بيت النبوة، وقد شبا مع مبتدأ قيامه بأمر الدعوة، وقد شهدا معه منشطها ومكرهها، حتى أوفى عليٌّ تمام الأداء لأمانتها.. ولطالما سمعاه يذكر المسلمين بأن يخلفوه خيرا في آل بيته، وأن يأووا إلى حصن هذا البيت، وأن يتمسكوا بغرزه وهو يجعل حب المسلمين لهذا البيت قرين حبه هو، وبرهان الولاء له هو.. وبذلك اختلطت مشاعرهما بأبوته بمشاعرهما بنبوته بصورة أذهلتهما، وهما في حداثة هذه السن، عن أن يتصوروا خروج إمامة المسلمين عن بيته، لا طمعا منهما في إمارتها، وإنما ضنا بها، في حسن ظنهما، عن أن تبتعد عن دائرة النبوة التي يمثلها بيتهما، مما قد يكونان يخشيان به ضياع الدين!! فهي صورة من صور الغيرة على النبي، وعلى بيته، أذهلها هول الفاجعة بقبضه، عن أن تجد فرصة الاعتدال.. ولقد ذهل عن الجادة، في ذلك الخطب، رجال كعمر، على ما عرف به من قوة الشكيمة، ورباطة الجأش، فأنكر قبض النبي أشد الإنكار كما سلف القول.. ولقد عرف أن السيدة فاطمة لم تعش بعد انتقال النبي سوى ستة أشهر قضتها متواصلة الأحزان عليه.. ولقد كان عليٌّ يرى في البداية أن ما خصه به النبي من علم النبوة، وأدبها، كاف لأن يجعل الخلافة علي المسلمين من بعده، في بيته، لا تتعداه.. وقد أذهله ذلك عن أن يرى أن الاضطلاع بمسئولية الخلافة، في تلك الظروف الدقيقة، إنما كان يتطلب جملة خصائص منها هذا العلم، وهذا الأدب ومنها أيضا الحكمة التي لا تورثها إلاّ تجربة السن، مما كان يتوفر لأبي بكر بأكثر مما كان يتوفر لعلي، لا سيما بين قوم يولون اعتبارا كبيرا لفضيلة السن.. ولم يكن البعث النبوي في سن الأربعين إلاّ لمثل ذلك الاعتبار.. وفوق ذلك، فإن الوقت لم يكن لخلافة النبوة، وإنما هو لخلافة الرسالة: فكان أبوبكر هو صاحب الوقت، لا علي – كما سلف القول..
ولربما كانت شخصية أبي بكر، نفسها، مما كان يدعو إلى نشوء الشبهة بعدم استحقاقه للاستخلاف، عند علي في البداية.. فقد كان أبوبكر، في حياة النبي، أسيرا لأدب الصحبة مع النبي، فلم يعرف له ذلك البروز الذي عرف لعمر، ولعلي إذ ذاك.. فلما ولي الخلافة كشفت الأحداث عن معدن القوة الأصيل الذي كانت تتمتع به شخصية أبي بكر – قوة الحق.. فصحح عليٌّ رأيه، في استخلاف أبي بكر، فبايعه، وأحسن له النصح، وعضده، وأبره، وأوفى له.. وعليٌّ ممن يعرفون الفضل لأهل الفضل، وممن لا يعطون الدنية في أمرهم، ولا يدهنون في دينهم.. فكانت بيعته لأبي بكر عن أمانة، وصدق.. فمن الحفظ الإلهي لعلي أن صحح موقفه من استخلاف أبي بكر، فلم يطل به هذا الموقف طويلا..