السيدة فاطمة والحفظ الإلهي لها:
وواقعة الميراث التي جرت بين أبي بكر وفاطمة إنما هي، في الحقيقة، من دلائل الحفظ الإلهي لآل البيت.. فقد أرسلت فاطمة إلى أبي بكر تسأله ما حسبته ميراثا لها من فدك – وهي قرية كان النبي يقسم فيئها بين آل بيته، وفقراء المسلمين ومما بقي من خمس خيبر.. فقال أبو بكر: (إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) – صحيح البخاري، غزوة خيبر.. وفي رواية لعائشة: فوجدت فاطمة على أبي بكر، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت.. وقد جاءت روايات أخرى لحديث الميراث في "شرح نهج البلاغة، المجلد الرابع، صفحة 82" منها قول أبي بكر (سمعت رسول الله يقول: إن النبي لا يورث، ولكني أعول من كان النبي يعوله، وأنفق على من كان النبي ينفق عليه) ومنها قول أبي بكر لها إذ ذهب اليها في بيتها يسترضيها: (يا ابنة رسول الله، والله ما خلق الله خلقا أحب إلىَّ من رسول الله أبيك.. ولوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك، ووالله لأن تفتقر عائشة أحب إلىَّ من أن تفتقري.. أترينني أعطي الأبيض والأحمر حقه، وأظلمك حقك، وأنت بنت رسول الله؟؟ إن هذا المال لم يكن للنبي، وإنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل به النبي الرجال، وينفقه في سبيل الله، فلما توفي وليته كما كان يليه) وفي رواية أخرى أنه قال لها: (يا حبيبة رسول الله، والله إن قرابة رسول الله أحب إليَّ من قرابتي، وإنك لأحبّ إلىَّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني متُّ ولا أبقى بعده.. أفتراني أعرفك، وأعرف فضلك، وشرفك، وأمنعك حقك، وميراثك من رسول الله؟؟ إلاّ أني سمعت أباك، رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.. ) وروي أنها ذكرته بقول النبي: (رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي.. ) فقال لها باكيا: (أنا عائذ بالله تعالى من سخطه، وسخطك، يا فاطمة!! وخرج باكيا، فاجتمع اليه الناس، فقال لهم: (يبيت كل رجل منكم مسرورا بأهله، وتتركوني وما أنا فيه!! إن فاطمة بنت محمد ساخطة عليَّ، أقيلوني من بيعتي!!
ويبدو أن حديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) لم يكن إذ ذاك شائعا بين المسلمين، فذكره أبوبكر.. وهو من أحاديث النبوة التي لم تكن في شيوع أحاديث الرسالة.. والحديث يتحدث عن خلق من أخلاق النبوة يدل على كمال العبودية.. وهو أن النبي لا يملك الأشياء، ملكية عين، وإنما يملكها ملكية ارتفاق، فلا تتعدى ملكيته إياها حد الارتفاق بها، فهو، لذلك لا يورثها لعقبه، كما يفعل سائر الناس.. ذلك من كمال التوحيد الذي يقرر أن عين الأشياء مملوكة لله تعالى: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون).. فإن آية ملكية عين الأشياء، عند الموحدين، إنما هي مشاركة لله تعالى في ملكه تقدح في عبوديتهم له.. ولذلك ذهب النبي يضيق ملكية ارتفاقه بالأشياء، وهو الحاجة الحاضرة، وأن ينفق عنه ما فضل عن هذه الحاجة: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو!!) أي الفضل عن الحاجة.. وحتى الحاجة الحاضرة فإنه قد قصرها على الكفاف، فقال (اللهم اجعل قوت آل محمد الكفاف).. فكما كان لا يدّخر شيئا لغد ناهيك عن أن يدّخر ما يبلغ النصاب ويمر عليه الحول فيتصدق به، كان لا يأكل الصدقة، وهو القائل: (الصدقة أوساخ الناس، فهي لاتجوز لمحمد ولا لآل محمد).. فأهل بيته إنما هم لاحقون بسنة نبوته في المال.. ولذلك فهم لا يرثون ما يرث الناس عن ذويهم – وهذا من الحفظ الإلهي لهم..
ولقد تمسك أبو بكر بانفاذ وصية النبي الكريم في حديث (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة!!)، تمسكه بانفاذ كل وصية، وكل أمر أمر به النبي.. ولقد وجد في سبيل إنفاذ هذه الوصية، في هذا الحديث، أقسى العنت، وأمرّ الأسى، من غضب السيدة فاطمة.. ولكنه إنما كان ينفذ وصية نبوية فيها العصمة، كل العصمة للنبي الكريم، وفيها الحفظ، كل الحفظ للسيدة فاطمة.. فإن من دلائل الحفظ الإلهي لآل البيت أن قيض الله لهم مثل أبي بكر، المتبع غير المبتدع، لينفذ فيهم وصية المعصوم، وليحفظهم من أن ينزلوا دون منزلتهم، فيرثوا عن سيد الأنبياء ما يرث سائر الناس عن ذويهم من سائر الناس..
أما رضا فاطمة، وسخطها، المشار اليهما في الحديث: (رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي) فإنما المقصود به رضاها بحق، وسخطها بحق.. فإن رضا النبي، الحق، عن أبي بكر، وعن فاطمة، إنما هو في انفاذ تلك الوصية المتعلقة بعصمته، وحفظها..
ولقد كانت السيدة فاطمة ترى أن ذلك الفيء، والخمس حق لبيت النبوة، وشأن من شئونه لا يزايله، حتى قيض الله لها أبابكر فحفظها عن أن تأخذ ما ليس لها بحق.. فلم تكن فاطمة في طلبها ذلك الفيء، والخمس، تصدر عن رغبة في متاع الدنيا، أو عن شهوة لحب الامتلاك، وهي التي كانت مثلا في كمال الزهد.. وحسب السيدة فاطمة منزلة عند ربها أن أجري سخطها في مجري حفظها، فكانت ساخطة علي أمر هي محفوظة به..