مقامات النبوة، والرسالة، والولاية:
محمد نبينا، عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، صاحب مقامات ثلاثة: مقام الولاية، ومقام النبوة، ومقام الرسالة.. وعن هذه المقامات الثلاثة قال، في حديث المعراج: (سألني ربي فلم أستطع أن أجيبه عزّ وجلّ، فوضع يده على كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فأورثني علم الأولين، والآخرين، وعلمني علوما شتى: فعلما أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنه لا يقدر علي حمله غيري، وعلما خيرني فيه، وعلما أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي) – (السيرة الحلبية، الجزء الأول، طبعة 1349 هـ، رقم 425، صفحة 328، وصفحة 383).. فالعلم الذي نهي عن تبليغه هو علم الولاية، وهو الذي قال عن لحظة تلقيه: (لي ساعة مع ربّي لا يسعني فيها نبيٌّ مرسل، ولا ملك مقرّب)، والعلم الذي خير في تبليغه هو علم النبوة، والعلم الذي أمر بتيليغه هو علم الرسالة: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين.. )
وعن هذه المقامات الثلاثة قال، أيضا: (قولي شريعة، وعملي طريقة، وحالي حقيقة).. فالشريعة هي الرسالة، والطريقة هي النبوة، والحقيقة (الحقيقة المحمدية) هي الولاية.. ومحمد، في رسالته، صاحب شريعة عامة لكل الناس، وهو، في مقام نبوته، صاحب شريعة خاصة به، هي السنة النبوية.. فالسنة هي مستوى عمله في خاصة نفسه، و قوله الذي يعبر عن عمله، وينم عن حاله.. أما الشريعة فهي مستوى قوله لأمته لتعمل حسب حالها، ومستوى إقراره إياها على عملها.. ومقام ولاية النبي محجوب بمقام نبوته، كما أن مقام نبوته محجوب بمقام رسالته.. والنبوة محجوبة بالرسالة بسبب التداخل بين شريعة النبوة (السنة)، وشريعة الرسالة (الشريعة).. وذلك لخفاء النقطة التي يقف فيها تكليف الأمة ويستمر منها تكليف النبي.. فالصلاة المكتوبة، مثلا، مفروضة علي النبي، وعلي الأمة، ولكن تكليفه قد زاد على تكليف الأمة بصلاة الثلث الأخير من الليل، فكانت هذه الصلاة فرضا عليه، بينما لم تكن في حق الأمة إلاّ من قبيل الندب، والتطوع.. والركن التعبدي الأصلي الزكاة الذي كان فرضا علي النبي هو (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو)، حيث لم يكن يدَّخر، وإنما كان ينفق عنه كل ما زاد عن حاجته الحاضرة.. ولقد تم التنزل من هذا الركن الأصلي إلى الركن الفرعي، وهو الزكاة ذات المقادير: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم، وتزكيهم بها.. ).. وذلك تنزلا من مستوى النبوة إلى مستوى الرسالة، حيث لم تكن الأمة لتطيق الركن الأصلي.. والنبوة والرسالة قد تردان أحيانا منضويتين في سياق واحد من الأحاديث النبوية.. فقد قال النبي: (أدبني ربي فأحسن تأديبي، ثم قال: "خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين") فإن صدر الحديث نبوة، وعجزه رسالة.. ومن أحاديث الرسالة، وهي مستفيضة، (كنت قد نهيتكم عن زيارة المقابر، ألا فزوروها).. ومن أحاديث النبوة، وهي ليست بتلك الاستفاضة (إن الله احتجب عن البصائر، كما احتجب عن الأبصار، وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه).. وعن احتجاب النبوة بحجاب الرسالة قال أويس القرني عن النبي لأصحابه: (ما رأيتموه إلاّ كالسيف في غمده.. ).. وسبب هذا الحجاب المعايشة..
وسبب احتجاب ولايته بحجاب نبوته هو أنه، في مقام، نبوته إنما يتلقى عن الله بواسطة الملك جبريل، وهو، في مقام ولايته إنما يتلقى من الله مكافحة، وقد سقطت وساطة جبريل، كما جرى له في المعراج، بالرواية السابقة ("انطلق بي جبريل حتى انتهى إلى الحجاب الأكبر عند سدرة المنتهى.. قال جبريل: تقدم يا محمد".. وفي رواية أخرى أنه لما توقف جبريل قال له النبيُّ: "أفي مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟؟ فقال: "إن تجاوزت احترقت بالنار".. قال: "ثم زجّ بي في النور، فخرق بي إلى سبعين ألف حجاب، ليس فيها حجاب يشبه حجابا، غلظ كل حجاب خمسمائة عام، وانقطع عني حس كل ملك!!").. انتهى..