لقد أثبتت هذه الأحداث أن الشعب السوداني شعب أصيل، شجاع، كريم .. يجود بالنفس في سبيل العزة، والشرف ولا ينقصه غير القائد الذي يفجر كوامن أصالته، ويحرك حسه الوطني .. فاذا وجد قائدا، في مستواه، فان المعجزات تجري على يديه، والبطولات تسعى اليه خاطبة وده.. حقا كما قال الأستاذ محمود في تحقيق معه في جريدة الأخبار، فيما بعد، ((الشعب السوداني شعب عملاق يتصدره أقزام))

معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية - الكتاب الاول

menu search

الشيعة

الخلافة بين أبي بكر وعلي:


لقد كانت الأمة الماضية هي أمة الرسالة المحمدية (الرسالة الأولى).. أما الأمة المقبلة فهي أمة الرسالة الأحمدية (الرسالة الثانية).. وقد علم النبي ثلاثة علوم: علم الولاية، وعلم النبوة، وعلم الرسالة، فيما قال: (علمت ثلاثة علوم: فعلما نهيت عن تبليغه، وعلما خيرت في تبليغه، وعلما أمرت بتبليغه).. ولذلك كان يخص بعض أصحابه، دون بعضهم، بعلم النبوة، بمقتضى حكمة النبوة: (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس علي قدر عقولهم!!)، إذ لا يتأتّى تلقي العلم إلاّ بالاستعداد له بالتقوى: (واتقوا الله ويعلمكم الله.. والله بكل شيء عليم.. ) والأصحاب إنما يتفاوتون في درجات التقوى (هم درجات عند الله، والله بصير بما يعملون).. وبتفاوتهم في التقوى كان تفاوتهم في العلم: (وفوق كل ذي علم عليم).. ثم إن ما كان يعلِّمه أصحابه من علم النبوة، ليس مما كان يعلِّمه لسائر المسلمين.. أما علم الرسالة فإنه مأمور بتبليغه للخاص، وللعام، من أمته، من الأنس والجن.. ثم إنه قد خص علي بن أبي طالب، دون سائر الأصحاب، بأكبر نصيب من علم النبوة حتى يعده ليكون خليفة النبوة، كما خص أبا بكر من علم النبوة ما يعده ليكون خليفة الرسالة.. ولما كان الوقت، كما سلف القول، ليس هو وقت الرسالة الأحمدية، وإنما قد نسخت الرسالة الأحمدية بالرسالة المحمدية – نسخت شريعة النبوة، فيما يخص الأمة، بشريعة الرسالة – كانت خلافة الرسالة هي صاحبة الوقت، لا خلافة النبوة.. ولذلك أشار النبي بخلافة الرسالة لأبي بكر، وأعده لها، فاستقام أمر هذه الخلافة له.. وأشار بخلافة النبوة لعلي، وأعده لها، فظلت هذه الخلافة معطلة التنفيذ، ثم إنه هو لم يستقم له أمر خلافة الرسالة، وإنما صار أمره، وأمر بنيه من بعده، إلى الإمامة الروحية في تعليم علوم النبوة والرسالة – كما سنرى..
وحتى خلافة الرسالة (الخلافة الراشدة) فقد كان عمرها قصيرا لم يتجاوز الثلاثين عاما، مصداقا لنبوءة النبيِّ:(الخلافة ثلاثون عاما ثم تكون ملكا عضودا)، وذلك حين علا سلطان الدنيا على سلطان الدين_ كما سنرى..
وقد تأهل عليٌّ لخلافة النبوة بما خصه النبي به من التربية في بيت النبوة، منذ طفولته، حيث كان كافله، ووصيه.. كما تأهل لها بفضل السبق في الإسلام، حيث شب في كنف الدعوة الإسلامية وبفضل النسبة العرقية للنبي، حيث كان ابن عمه، وبفضل مصاهرته للنبي، حيث كان زوج ابنته، وبضعته، ووالد سبطيه، الحسن والحسين، اللذين كانا بقية النبي الباقية، ورحمه الموصولة، فكانا ينسبان إلى النبي بأكثر مما ينسبان إلى علي.. وقد انحصرت دائرة البيت النبوي في علي، وفي زوجه، وفي ابنيهما فعنتهما الأية الكريمة: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس، أهل البيت ويطهركم تطهيرا).. وإنما كان هذا الاصطفاء من الله تعالى لهم حتى يعدهم لحمل خلافة النبوة.. وعن علم النبوة، وعن اختصاص عليٍّ به جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا مدينة العلم، وعلي بابها).. وكذلك قال النبي له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي) ولما سأله عليٌّ: (ما أرث منك؟؟) قال: (ماورث الأنبياء من قبلي، كتاب ربهم، وسنة نبيهم).. فصلة الأخوة بين النبي وعلي بسبيل من الصلة بين النبوة، وخلافة النبوة – هو أخوه في خلافته على نبوته، فقام الشبه بين هذه الصلة وبين صلة موسى بهارون، حيث كان هارون وزير موسى، وقد خلفه علي بني اسرائيل حين ذهب للقاء ربه.. ومن ثم كانت المؤاخاة بين النبي وعلي بعد الهجرة..
أما ما ورثه علي من محمد فهو علم النبوة المعبر عنه في الحديث السالف ب (كتاب ربهم، وسنة نبيهم).. والإشارة في الحديث إلى السنة واضحة الدلالة على النبوة، دون الرسالة: (فالسنة هي مستوى النبوة، بينما الشريعة مستوى الرسالة).. فعلي وصي النبي، ووارثه، ووزيره، وخليفته علي علم النبوة..
وهناك واقعة في حياة النبي لها دلالتها علي ما كان النبي يعد به أبا بكر من إعداد لخلافة الرسالة، وعليا من إعداد لخلافة النبوة.. فلقد كان أبوبكر أول أمير للحج بعث به الرسول، وهو بالمدينة، سنة تسع من الهجرة.. واتفق، وهو في طريقه، أن دعا إلى صلاة الصبح، فسمع رغوة ناقة وراء ظهره فوقف عن التكبير، وقال: هذه رغوة ناقة النبي الجدعاء، فلعله أن يكون رسول الله، فنصلي معه.. فإذا علي بن أبي طالب علي الناقة، فسأله أبو بكر: أمير أم رسول؟؟ قال: بل رسول، أرسلني رسول الله ببراءة أقرؤها علي الناس.. فلما قدموا مكة قام أبوبكر فخطب في الناس محدثا عن المناسك، وقرأ عليٌّ سورة براءة حتى خاتمتها، ثم كان يوم عرفة، فخطب أبوبكر، وقرأ عليٌّ السورة، وهكذا حتى انتهت المناسك.. فأبوبكر قد جعل أميرا على المسلمين في شأن من شئون الرسالة، هو أداء فريضة الحج، وتعليم مناسكها، وعلي بن أبي طالب قد جعل وصيا في شأن من شئون النبوة، هو إبلاغ ما نزل به الوحي من القرآن، عن النبي.. يجري هذا لأبي بكر ولعلي، في وقت واحد، وفي مكان واحد، من غير أن يتدخل أحدهما في شأن الأخر.. وقد نام علي بن أبي طالب علي فراش النبي، بديلا عنه، ليلة الهجرة، كما جعله النبي وصيه في قضاء الديون، وأداء الودائع.. وهذه وتلك من الشئون التي تتعلق بالنبي في خاصة نفسه، فتتعلق بنبوته بأكثر مما تتعلق برسالته، تعلقهما بالرسالة موجود وذلك لمكان التداخل بين ما يخص الرسالة وما يخص النبوة..
وبعض معتدلة الشيعة يذهبون إلى بعض ما ذهبنا اليه من أن وصية النبي لعلي لم تكن بالخلافة علي المسلمين يومئذ.. فابن أبي الحديد، في كتابه (شرح نهج البلاغة)، المجلد الأول، صفحة 46، طبعة القاهرة، يقول: (لا ريب عندنا أن عليا عليه السلام كان وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن خالف ذلك من هو منسوب عندنا للعناد، ولسنا نعني بالوصية النص علي الخلافة، ولكن أمورا أخرى لعلها إذا لمحت أشرف وأجل) انتهى.. وقال ابن أبي حديد عن علم علي (ومن العلم علم الطريقة والحقيقة، وأقوال التصوف.. وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون.. وقد صرح بذلك الشبلي والجنيد والسري وأبو يزيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي، وغيرهم.. ويكفيك دلالة على الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام.. ) انتهى.. ولقد قيل لابن عباس: أين علمك من علم ابن عمك؟؟ فقال: بنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط!! وابن عباس هو من دعا له النبي بقوله (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).. وقال النبي عن علم علي بالقضاء: (أقضاكم علي، وأفرضكم زيد)، وقال عمر: (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن).. وقد تضمن (نهج البلاغة) أقوال عليٍّ الدالة علي وراثته لعلم النبوة..