أليس في الإمكان إستنباط عالم خال من الشر؟؟
يسأل الأستاذ محمد عمر محمد سؤالين، فيقول: (كيف ينسجم وجود الشر، بصوره المختلفة، مع وجود قوة خلاقة (خيرة)؟؟ وكيف يمكن أن تكون القوة الفاعلة، البناءة، المحافظة، التي شملت بعنايتها كل شيء، هي علة الشر الهدام؟؟)..
(وهذه القوة!! أتنظر إلى كل جزئية، من جزئيات الطبيعة، على حدة، أم تنظر إلى الكون كله على أنه وحدة عظمى لا تتجزأ؟؟).. ثم يقول: (ليس بيننا من يقول بالرأي الأول، لاستحالة الأخذ به.. أما القول بالراي الثاني، وهو الصحيح عقلا، فإنه يتطلب منا أن نتساءل:
(هل أريد بالشر التضحية الجزئية في سبيل خير الوحدة، أو المجموعة العامة؟؟ وألا سبيل هناك إلا بوجود الشر في حدود عامة لخير الكون الأكبر؟؟) إذا صح هذا الدفع عن وجود الشر، فإن السؤال لا يزال قائما: (أليس في الإمكان إستنباط عالم خال من الشر؟؟ فإن حصر الشر في مناطق معينة ليس بالإجراء الذي تقتضيه العدالة الإجتماعية..)..اهـ..
هذه جميعها أسئلة شيقة.. وقبل ان أشرع في الرد عليها أحب أن أقرر حقيقتين دقيقتين، هامتين، من لا يعرفهما لا يستطيع ان يدرك كبريات حقائق الوجود التي تعالجها هذه الأسئلة الشيقة.. فأما الحقيقة الاولى فهي ان الكون كله موجود في كل جزء منه..واما الحقيقة الثانية فهي أن ليس في الوجود كائن، وإنما كل شيء مستمر التكوين، ما خلا الله – (القوة، الخلاقة، الخيرة-)..
فبتقرير الحقيقة الأولى يزول اللبس القائم في قولك: (وهذه القوة!! أتنظر إلى كل جزئية، من جزئيات الطبيعة، على حدة، أم تنظر إلى الكون كله على أنه وحدة عظمى لا تتجزأ؟؟).. ذلك بأنه، في نظر تلك القوة، ليس هناك جزء، ولا كل، وإنما هو الكون، قائم، بتمامه، في أي جزء من أجزائه.. فهي حين تنظر ترى الشمس في الذرة، وما الكل، ولا الجزء، وما الكبر، ولا الصغر، إلا في الأوهام التي تمنى بها العقول القواصر، ويترفع عنها العقل المحيط، أو (القوة الخلاقة، الخيرة) على حد تعبيرك، وينتفي بتقريرها أيضا اللبس الماثل في قولك: (هل أريد بالشر التضحية الجزئية في سبيل خير الوحدة، أو المجموعة العامة؟؟ وألا سبيل إلا بوجود الشر، في حدود عامة، لخير الكون الأكبر؟؟).. وإنما ينتفي اللبس لأنه بتكامل الكون، هذا التكامل الذي تقرره الحقيقة الأولى، يصبح من غير المعقول، أن تخدم مصالح الكل بإهدار مصالح الجزء.. ذلك بأن الكل، والجزء، في حقيقة الأمر، شيء واحد، وإنما وقع التفريق بينهما من وجهة نظرنا نحن.. وذلك نظر قاصر.. فإنه إنما تخدم مصالح الكل بخدمة مصالح الجزء، وفي نفس الوقت.. وههنا مزية تشريعية كبرى، وهي: أن أي تشريع نضعه، نحن البشر، لتنظيم كوننا لا يمكن أن يخدم حقيقة أغراضنا، في هذه الحياة، إذا ما أهدر حق الفرد في سبيل تحقيق حق الجماعة – على نحو ما تفعل الشيوعية مثلا.. ولنعد للموضوع.. ولنبدأ بأول السؤال: (كيف ينسجم وجود الشر، في صوره المختلفة، مع وجود قوة خلاقة (خيرة)؟؟ وكيف يمكن أن تكون القوة الفاعلة، البناءة، المحافظة، التي شملت بعنايتها كل شيء، هي علة الشر الهدام؟؟)..
وهنا تفيدنا الحقيقتان المقررتان آنفا، فبأولاهما نعلم: أن وحدة الوجود لا تقر الثنائية المتمثلة في الخير والشر، وإنما الوجود خير محض، في حقيقته.. وما الثنائية إلا مظهر سببه أوهام عقولنا نحن.. ويكفي أن نقول أنه، حتى بعقولنا القواصر، قد استطاع الممتازون منا أن يدركوا إدراكا يقينيا، أن الخير موجود، حتى في الشر، وأن الموت، الذي هو أكبر الشرور، إنما هو، في الحقيقة، ميلاد جديد، في حيز جديد، نجهله نحن جهلا كبيرا..
أما بثانيتهما فإننا نعلم: أن كل ما في الوجود، ما خلا الله، في تطور مستمر.. وهو، في تطوره، خاضع، كل الخضوع، لإرادة العقل المحيط: (الله).. أو قل: ((القوة الخلاقة (الخيرة))) على حد تعبيرك أنت.. ثم أنه إذا ما ارتقى، في تقلبه، وتطوره، إلى مرتبة الإنسان المدرك لحقائق الوجود، إدراكا يقينيا، أصبح تطوره خاضعا لإرادة عقله هو، ذلك بأنه حين استيقن عقله من حقائق الوجود ما وصله بالعقل المحيط قد صار طرفا منه، أو صار هو إياه.. فهو، في ذلك المقام، لا يرى ثنائية الخير والشر، وإنما هو الخير المطلق..
فالشر ليس اصلا، وإنما هو عارض سببه أوهام العقل القاصر، وسيزول باكتمال العقل، وبإحاطته بحقائق الوجود، إحاطة المستيقن، حق الإستيقان.. وذلك أمر آت، وقريب..
(أليس في الإمكان إستنباط عالم خال من الشر؟؟) بلى!! ولكنه عالم غير كامل، لأنه لم يكتسب معرفته بالتجارب، وإنما هو قد ضربت عليه الهداية، ضربة لازب، وبذلك فقد الحرية، ومن ثم جاءه النقص.. ذلك بأنك لا تبلغ الكمال إلا ببلوغ الحرية الفردية المطلقة.. وأنت لا تبلغ الحرية الفردية المطلقة إلا بممارستها، وتحمل المسئولية عنها.. ولا يستقيم لك هذا إلا باضطرابك في محيط الثواب: (الخير)، والعقاب، (الشر)، حتى تنتصر، بترويض عقلك، على موجبات العقاب، فتنتصر بذلك على الشر.. وتعيش في عالم الخير المطلق، الذي ليس للشر إليه من سبيل..
المخلص
محمود محمد طه