متى قال الله: يا عيسى ابن مريم!! أأنت قلت للناس؟؟
الجبلين في 23/ 7/ 1962
حضرة الأخ الكريم الشيخ عبدالرحيم
تحية طيبة، مباركة، زاكية..
أما بعد، فقد ظللت دائم التفكير في سؤالك الممتع من الآيات الكريمات:
(وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم: أأنت قلت للناس اتخذوني، وأمي، إلهين من دون الله؟؟ قال: سبحانك!! ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق.. إن كنت قلته فقد علمته.. تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك.. إنك أنت علام الغيوب.. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله، ربي، وربكم.. وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم، فإنهم عبادك.. وإن تغفر لهم، فإنك أنت العزيز الحكيم قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم.. لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، رضي الله عنهم، ورضوا عنه.. ذلك الفوز العظيم.. لله ملك السموات، والأرض، وما فيهن، وهو على كل شيء قدير)..
فقد سألت أنت في أحد مجالسنا الليلية بمدني: (وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين..) إلخ الآية.. سألت: متى قال الله ذلك؟؟ وقد أجاب بعض الأخوان الحاضرين: إنه يقول ذلك يوم القيامة، وإنما عبر عنه بالماضى لتحتم وقوعه.. وهذا هو التفسير الذى يطالعك به المفسرون.. وقد علمت أنك لا تسأل عن هذا، لأنه غير كاف.. وقلت لك لا يحضرنى الآن فيها شىء، وسأخبرك فيما بعد.. وقد ظللت مشغول الخاطر بهذا السؤال الطريف طوال هذه المدة الطويلة..
واضح لكل من يعرف التوحيد انه لا يمكن أن يقال أن الله سيقول يوم القيامة، لأن الله قائل في الأزل، وفي الأبد، وفيما بين ذلك، وفي كل لحظة: (كل يوم هو في شأن) من غير أن يطرأ عليه الحدثان.. ولو أن الله ليس بقائل، أبدا، وسرمدا، ثم قال يوم القيامة لقامت به الحوادث.. وهذا خطأ في أوليات التوحيد.. لم يبق إلا أن الله قال ذلك، وهو لم يزل قائلا، تبارك، وتعالى، ولن ينفك.. ولقد قلنا، نحن الجمهوريين، في كتيبنا (الإسلام): (نحن نسمع الناس يقولون: إن القرآن كلام الله، فما معنى هذا؟؟ إن الله ليس كأحدنا، وليس كلامه ككلامنا بأصوات تنسل من الحناجر، فتقرع الاذان.. إن كلام الله خلق فالشمس تطلع، فترسل الضوء، والحرارة، فتبخر الحرارة الماء، وتثير الرياح، وتحرك الهواء، فتحمل الرياح بخار الماء، في سحب كثيفة، إلى بلد بعيد، فينزل المطر، فيروي الأرض، ويحييها بعد موتها، فينبت الزرع، وتدب الحياة بمختلف صورها، وشكولها.. هذه صورة موجزة قاصرة، مفككة الحلقات، لكلام الله.. فالقرآن هو صورة هذا الكلام، أو قل هذا العلم، مفرغا في قوالب التعبير العربية)..
ولقد قلنا، في مواضع أخرى من هذا الكتاب،: إن القرآن يسوق معانيه مثاني.. معنى قريبا، ومعنى بعيدا.. فمن فهم المعنى القريب، وغاب عنه المعنى البعيد، فما فهم القرآن.. ومن فهم المعنى البعيد، وغاب عنه المعنى القريب، فما فهم القرآن، وإنما يفهم القرآن من يرى المعنيين في اللحظة الواحدة.. وهذا يحتاج إلى قوة في نور البصيرة يفلق الشعرة.. والسبب في سوق المعنيين، المعنى القريب، والمعنى البعيد، ان اسم الله، تبارك، وتعالى، يطلق على معنيين أيضا: معنى بعيد، وهو ذات الله الصرفة – في صرافتها – وهي امر فوق الإدراك، وفوق الأسماء، وفوق الإشارات، ولولا أنها تنزلت ما عرفت.. ومعنى قريب وهو مرتبة البشر الكامل الذي أقامه الله خليفة عنه في جميع العوالم، وأسبغ عليه صفاته، وأسماءه، - حتى إسم الجلالة – فكلمة الله حيث قيلت، تشير إلى هذين المعنيين، وفي نفس الوقت.. هي تشير إلى (صرافة الذات) وتشير إلى (التعين الأول) الذي ليس بينه وبين صرافة الذات أحد من الخلق، وإنما هو بين جميع الخلق وبين الذات.. وإنما تقوم جميع الأسماء، والصفات، بالتعين الأول أولا، ثم هي تشير، إشارة مبهمة، قاصرة، إلى الذات الصرفة التي هي فوق أن تسمى، أو توصف، أو تعرف..
فمعنى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم!! أأنت قلت للناس: اتخذوني، وأمي، إلهين، من دون الله؟؟) أن الله خلق في عيسى القوى التي تدعي الربوبية، والتي هي مودعة في كل فرد من أفراد البشر، وهي التي بها تمت لهم خلافة الله في الأرض.. وهى هى المعبر عنها بالأمانة في قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات، والأرض، والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان.. إنه كان ظلوما جهولا..).. ولقد عبر بالإستفهام: (أأنت قلت؟؟) ولم يقل بالجزم: (أنت قلت) إشارة إلى أنه تعالى قد خلق فيه (القوى العقلية)التي تحد من اندفاع إرادة النفس إدعاء الربوبية، وتردها إلى ما ينبغي لها من العبودية.. فإن فرعون، حين لم يخلق الله له قوى كافية تستطيع رد إرادة إدعاء الربوبية، ادعاها ولم يتردد في ذلك.. فأخبر الله تعالى عنه، فقال، جل من قائل، مخاطبا نبيه، ورسوله، موسى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى).. أي فات حد العبودية إلى ادعاء الربوبية.. وهو أمر كان من الممكن أن يحصل من المسيح لولا أن الله نصره، واجتباه.. ثم قال، تبارك، وتعالى، عن فرعون، في نفس السياق: (فكذب وعصى – ثم أدبر يسعى * فحشر، فنادى * فقال: أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى)..
ولقد قال أحد السادة الصوفية.. في نفس كل منا أن يقول ما قال فرعون: (أنا ربكم الأعلى)، غير أن فرعون استفز قومه، فأطاعوه فقالها.. يعني أن اجتماع الناس عليه، وطاعتهم إياه، غرته عن نفسه وقوت فيه إرادة ادعاء الربوبية، حتى ضعفت القوى العقلية عن مقاومتها، فانطلقت تدعي، وتفتري.. وإنما من أجل ذلك يحذر مشايخة الصوفية المريدين، وبخاصة صغار المريدين، من اجتماع الناس عليهم. وشيء آخر!! فإن الاستفهام في: (أأنت قلت) بدلا من الجزم: (أنت قلت)، حين أفاد أن الله قد خلق في المسيح قوة العقل الكافية لصد إرادة ادعاء الربوبية، أفاد أيضا أن المسيح قد قال، بلسان حاله، ولكنه لم يقل بلسان مقاله، وحاشاه أن يقول!! ولقد عفا الله عما يجول في الصدر ما لم يجر على اللسان، فكيف بما أدق من ذلك..
ثم قال: (اتخذونى، وأمي: إلهين، من دون الله)، ولم يقل: (اتخذوني إلها، من دون الله)، كما قال فرعون، مثلا، بوحدانيته، وحده.. وذلك يفيد أن الله قد جعل فيه الثنائية بارزة، قوية فهو، بالطبع، لم يكن في وحدانية الغفلة التي كان عليها فرعون.. وهو بالطبع، لم يبلغ وحدانية الحضرة، والكمال، التي يكون عليها الله – (بالمعنى القريب).. (قال سبحانك!! ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق.. إن كنت قلته، فقد علمته..).. إشارة صريحة إلى خلق الله، تبارك، وتعالى، في المسيح القوى العرفانية التي بها يعرف ما هو حق (لله)، وهو (الربوبية)، وما هو حق له وهو (العبودية) وبفضل هذه القوى العرفانية انتصر على إرادة ادعاء الربوبية، كما سبق القول.. ثم قال: (تعلم ما في نفسى، ولا أعلم ما في نفسك.. إنك أنت علام الغيوب).. ولم يقل: (تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسى)، وهو ما قد يتبادر إلى ذهن الإنسان المنكر التائب، المتنازل، عن أي ادعاء.. ولكنه قال بالصيغة أعلاه للدلالة على أن النفس واحدة، وهي نفسه تعالى: (يا أيها الناس!! اتقوا ربكم، الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا، ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا).. فالمعنى القريب هو: أن هذه النفس الواحدة هي نفس آدم. والمعنى البعيد هو: أن هذه النفس الواحدة هي نفس الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه.. وإلى الله المصير).. وهكذا إلى آخر الآيات الكريمات، مما لا يتسع لتفصيله زمنى الحاضر.. ولكن، قبل أن أترك هذا السياق، أحب أن ألفت نظرك إلى الآية: (إن تعذبهم، فإنهم عبادك.. وإن تغفر لهم، فإنك أنت العزيز الحكيم..).. فإنه جاء في الفاصلة بصفتى (العزيز الحكيم) ليثبت (الجبر)، ولينفي (الاختيار)، عن المسيح، وعن الناس.. المراد في السياق: فإنهم عباد مربوبون.. ولم يقل، كما قد يتبادر إلى ذهن السامع: (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم).. المراد في السياق: فإن اتخذوا المسيح وأمه، إلهين، من دون الله، فإنما ذلك لحكمة قاهرة أرادها الله بهم، ولم يجدوا عنها (مندوحة).
وقد ختم تلك الآيات بما لا يدع مجالا للشك في هذا المعنى المراد.. اسمع قوله، تبارك، وتعالى: (لله ملك السموات، والأرض، وما فيهن.. وهو على كل شيء قدير..).. هذا الذي شرحنا هو القول الأزلي (لله) ، (بالمعنى البعيد) .. وستقول : فهل يقال هذا القول قولا مستأنفا يوم القيامة؟؟ والجواب: نعم!! سيقال، في عرض الحساب ولكن يقوله (الله)، (بالمعنى القريب).. يقوله (الله) الذي هو الإنسان الكامل.. الإنسان الذي ليس بينه وبين ذات الله المطلقة أحد وهو بين الذات وبين سائر الخلق.. وهو الذي يتولى حسابهم، نيابة عن الله، وهذا الإنسان الكامل المسمى: (الله) هو المعني، في المكان الأول، بقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم (الله)، في ظلل من الغمام، والملائكة، وقضي الأمر، وإلى الله ترجع الأمور؟؟) وهذا القول المستأنف يوم القيامة هو أيضا قديم، ولكنه متطور في كل لحظة..
كل ذرة من ذرات الوجود، المنظور لنا، وغير المنظور، غازاته، وسوائله، وجماداته، ونباتاته، وحيواناته، وحشراته، وإنسه، وجنه، وملائكته، وأنواره، وظلماته، كل ذرة من ذرات هذه الأجساد، كلمة من كلمات الله.. وكل حركة تتحركها هذه الذرات كلمة من كلمات الله .. والله متكلم بكل هذه الألسن.. (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مددا).
ما أحب أن أطيل اكثر من هذا، ولو أن مجال القول ذو سعة واسعة.. ولكني إنما أختلس هذه السويعات من زمن العمل اختلاسا، وقد أصبح العمل في أخرياته، ولا بد من بذل مجهود كبير لينتهي.. وسيكون لدينا فراغ طويل نصرفه عندكم، إن شاء الله.. وسيكون المجال، يومئذ، مجال تطويل، واستقصاء.. فإن وجدت أن أمرا من أمور هذا الكتاب تستحق استقصاء فستجدني عندما تحب، إن شاء الله هذا وعليك، وعلى الأخوان جميعا، التحيات، المباركات، الناميات، الزاكيات..
محمود محمد طه