41) لقد تحدثنا عن التعليم، وقلنا: إنه، في جميع المجتمعات، قد كان محاولة لإعطاء الحي مقدرة على المواءمة بين حياته وبين بيئته.. وقلنا إن المشكلة إنما هي البيئة!! ما هي؟؟ ولقد فهمناها فهما خاطئا.. ولقد ظل هذا الفهم الخاطئ يلازمنا إلى اليوم، وإليه ترجع مشاكل المجتمع البشري برمتها، وأخطاء تعليمه، بصورة خاصة.. ولقد قلنا إن العلم المادي التجريبي قد كشف لنا، بانفلاق الذرة، أن المادة، بالصورة التي تألفها حواسنا، وتعرفها عقولنا، ليست هناك، وإنما هي، لدى التحليل الأخير، طاقة، تدفع وتجذب، في الفضاء.. هذه الطاقة معروفة الخصائص، مجهولة الكنه، وليس في طوق العلم المادي أن يعرف كنهها، لا الآن، ولا في المستقبل، بل إنه لا يدّعي لنفسه هذه الإمكانية، بل إنه يقرر أنها خارج نطاقه.. هو يقف ههنا ويسلمنا إلى العلم الروحي - توأمه الأكبر - ليسير بنا، أمامه، في رحاب الوادي المقدس.. هذا هو موقف العلم المادي التجريبي، بعد أن قطع مراحل التطور البدائية، من التعدد، إلى أن وصل إلى الوحدة.. فما هو موقف العلم الروحي التجريبي، بعد أن قطع مراحل التطور البدائية، من التعدديات، إلى أن وصل إلى الوحدة؟؟
((كان الله ولا شيء معه.. وهو الآن، على ما عليه كان..
))، هذا حديث نبوي شريف.. وفي حديث قدسي قال تعالى:
((كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت إليهم، فبي عرفوني..
)) وأصحابنا الصوفية يقولون:
((ما في الكون إلا الله - ذاته، وأسماؤه، وصفاته، وأفعاله..
)) وأسماء الله، وصفاته، وأفعاله، إنما هي تنزلات من ذاته.. وهي، لدى التناهي، ذاته.. فرجع الأمر إلى صاحب الأمر..
((ألا له الخلق، والأمر
))..
((كنت كنزا مخفيا
))، ذاتا، صرفا، مطلقا، فوق العبارة، وفوق الإشارة - فوق الأسماء والصفات..
((فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق
)).. ولقد كانت أول حركة في الخلق تنزل الذات من الصرافة - من الإطلاق - إلى القيد - إلى مرتبة الاسم،
((الله
)).. وهذه مرتبة الإنسان.. وهي مرتبة
((أحسن تقويم
)) التي جاءت الإشارة إليها في قوله، تبارك، وتعالى:
((لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
)).. ولقد خلق الله بالإنسان الأكوان.. فجاء الفتق: (ثم رددناه أسفل سافلين
)).. و
((أسفل سافلين
)) هي أدني، وأوهن، صور التجسيد، هي ذرة بخار الماء - ذرة غاز الهيدروجين، وهي في مركز الأرض.. لقد كان الفتق من أعلى علّيّين إلى أسفل سافلين - من ألطف اللطائف، إلى أكثف الكثائف، فظهر بذلك النقيضان، وتحرك بندول الإنسان، في طريق الرجعى، من
((أسفل سافلين
)) إلى
((أحسن تقويم
)).. ولقد قلنا تحرك بندول الإنسان لأنه، ما في الكون الحادث، إلا الإنسان.. إن الاختلاف بين
((أحسن تقويم
)) و
((أسفل سافلين
)) ليس اختلاف نوع، وإنما هو اختلاف مقدار.. التوحيد يمنع اختلاف النوع أن يدخل في المملكة، فلم يبق إلا اختلاف المقدار.. وعن البندول يقول تبارك، وتعالى:
((الله الذي خلق سبع سماوات، ومن الأرض مثلهن، يتنزل الأمر بينهن، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما..
)) فالنقيضان هنا هما السموات السبع، والأرضين السبع، والبندول الذي يتحرك بين النقيضين - بين اللطيف، والكثيف، هو الأمر -
((يتنزل الأمر بينهن
)).. والأمر هو روح الله المنفوخ في الإنسان.. الأمر هو روح الإنسان.. الأمر هو الإنسان حين تتزاوج نفسه مع روحه هذه - حين تتم وحدة بنيته.. قال تعالى عن عيسى بن مريم:
((قال: كذلك!! قال ربك: هو على هين، ولنجعله آية للناس، ورحمة منا.. وكان أمرا مقضيا!!
))
42) الإنسان، من حيث الحجم، لا يذكر، إذا ذكرت الأكوان، ولكنه من حيث القيمة لا يذكر معه شيء، لأنه هو سيد الأكوان.. خلق الله الإنسان بذاته من ذاته، وخلق الله بالإنسان الأكوان.. نفخ الله روحه في الإنسان، ونفخ روح الإنسان في الأكوان.. وقال الله، تبارك وتعالى،
((خلقت الإنسان لي وخلقت الأكوان للإنسان
)).. وقال تعالى:
((ما وسعني أرضي، ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن
)).. لقد خلق الله كل شيء بالفتق - فتق النقيض من النقيض - فجاءت المثاني.. قال تعالى:
((ومن كل شيء خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون..
)) ثم حرك بندول فكر الإنسان بين النقيضين ليتعلم، فهو يفهم الضد، بالضد - يفهم الخير، بالشر.. وقال تعالى:
((سبحان الذي خلق الأزواج كلها، مما تنبت الأرض، ومن أنفسهم، ومما لا يعلمون..
)).. وأعلى الأزواج الذات المطلقة والذات المقيدة - حيث قيدت الذات المطلقة نفسها، بمحض الفضل، في مقام الاسم، الله - الإنسان - الذات المحمدية، التي هي أول قابل لتجليات الذات المطلقة.. فتنزل الذات الصرفة المطلقة لمقام الاسم - الله - هو أول الحركة - أول الفتق - أول الزمن - وإن كان زمنا يكاد يلحق بالمطلق.. ثم جاء الفتق الثاني من روح الإنسان إلى نفس الإنسان - من
((أحسن تقويم
)) إلى
((أسفل سافلين
)).. ثم جاءت الفتوق كلها، ذلك بأن كل زوجين إنما هما مفتوقان من بعضهما، لتقوم الضدية، وتحدث حركة فكر الإنسان، بين الضدين، فيحصل العلم،
((ومن كل شيء خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون..
)). قال، تبارك، وتعالى:
((يا أيها الناس!! اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا، ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به، والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا!!
)).. فالنفس الواحدة ههنا هي نفسه، تبارك، وتعالى، في المكان الأول، ثم نفس آدم - الإنسان - في المكان الثاني.. وزوج آدم المخلوقة منه هي حواء، وعنها جاءت الإشارة في آية
((يس
)) بقوله
((ومن أنفسهم
)).. وزوج الذات المطلقة، المخلوقة منها، هو آدم، وعنه جاءت الإشارة في آية
((يس
)) بقوله:
((ومما لا يعلمون
)).. ومن لقاء حواء بزوجها آدم جاء الاستمتاع الجنسي، في علاقة زواج الحقيقة، والشريعة، وجاءت المعارف، وجاءت الذرية، من رجال ونساء.. ومن لقاء آدم بزوجه الذات الصرفة جاءت العبودية، وجاءت المعارف.. ومن المعارف رجال ونساء - معارف فكر، ومعارف شعور..
((سبحان الذي خلق الأزواج كلها، مما تنبت الأرض، ومن أنفسهم، ومما لا يعلمون!!
)) وداخل الفتق الثاني - من روح الإنسان، إلى نفس الإنسان - تقع كل العوالم، ما نرى منها، وما لا نرى، وما نعرف منها، وما لا نعرف.. كل العوالم في الإنسان مطوية ولقد قال أحد العارفين في ذلك:
وتزعم أنك جرم صغير* وفيك انطوى العالم الأكبر؟؟
وهذا هو المعنى الذي أشرنا إليه، عندما قلنا: إن الله تبارك، وتعالى، قد خلق الإنسان بذاته، ثم خلق بالإنسان الأكوان..
43) وعن فتق الأكوان قال تعالى:
((أو لم ير الذين كفروا، أن السموات، والأرض، كانتا رتقا، ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي؟؟ أفلا يؤمنون؟؟
)) ولكن هل رأى الذين كفروا
((أن السموات، والأرض، كانتا رتقا؟؟
)) نعم!! ولا!! وإلا لما جاز السؤال!!، رأوا، لأنهم كانوا في جرم الإنسان.. وبالإنسان خلقت السموات، والأرض، مرتتقة.. وبالإنسان فتقت.. وهم قد كانوا هناك!! ولم يروا، عندما برزوا، من جرم الإنسان، إلى أجرامهم الخاصة بهم، والتي وقع عليها التكليف الشرعي بالأيمان.. فالحقيقة دائما بين بين، لا هي في النقيض الأيمن، ولا هي في النقيض الأيسر، وإنما هي بينهما، ويمر عليها البندول، وهو في حركته يمنة ويسرة.. بانفتاق السحابة التي كانت مرتتقة برز الكون، بأجرامه التي لا تحصى.. والكون كونان، انفتق أحدهما من الآخر، وفق السنة الإلهية في خلق الزوجين.. الكون الخارجي، والكون الداخلي.. الكون الخارجي هو كون الشموس، والمجرات - كون الشموس الثابتة.. وهي لم تسم
((الثابتة
)) لأنها غير متحركة، فما في الكون الحادث إلا متحرك، وإنما سميت
((الثابتة
)) لأنها محفوظة النسب، في مواقعها، رغم حركتها الدائبة، حول نفسها، وحول ونحو مركز، هو نفسه، متحرك، يطلب من لا تصح في حقه، الحركة، ولا السكون:
((وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم!!
)).. والكون الداخلي هو كون المجموعة الشمسية - وهو جيب صغير جدا، داخل الكون الخارجي.. ولقد كان الكون الخارجي سحابة مرتتقة، فانفتقت، فبرزت، من تلك السحابة، النجوم، والشموس، والمجرات.. ولقد كان الكون الداخلي سحابة مرتتقة، فانفتقت، فبرزت من تلك السحابة شمسنا المعروفة، وبناتها، الكواكب السيارة التسعة - الأرض، والزهرة، وعطارد، والمريخ، والمشتري، وزحل، ويورينص، ونبتون، وبلوتو.. ومن الناحية المادية فإن مركز الكون الداخلي الشمس.. ولكن، من الناحية الروحية، فإن مركزه الأرض، لأن الأرض هي موطن الإنسان.. والإنسان سيد الأكوان.. وكان القدامى، السذج، البسطاء، الطيبون، يظنون هذا الظن.. فلما تقدم العلم المادي، وجاء الفلكيون، المحدثون، اكتشفوا أن مركز الكون الداخلي، إنما هو الشمس، وما الأرض إلا كوكب سيار، لا نور له من ذاته، وإنما يستمد نوره من الشمس.. وهذا صحيح، في المرحلة.. وعندما يجئ الوقت المعلوم - عندما تتحد المادة والروح - فستظهر الأرض الكبرى، من الشمس، وبناتها، ومنها، وأهمها الأرض.. ويومها تنطفئ الشمس، وتبرد، وتنشأ فيها الحياة الأخرى.. وتصبح هذه الأرض الكبرى هي الكون الداخلي، وحولها يدور الكون الخارجي، والجميع يدور حول المطلق، حيث لا حول.. يومها يتحقق حلم القدامى السذج، البسطاء، الطيبين، الذين ضحك، من سذاجتهم، الفلكيون، الماديون، المتحذلقون، اليوم.. يومها يصبح مركز الكون الداخلي، والكون الخارجي، مركز الأرض الجديدة، الأرض الكبرى - يصبح المركز المادي، والروحي، واحدا، لأن المادة، والروح، قد زوجتا، فبرزت الوحدة..
44) الكون الداخلي صغير جدا.. أبعد كواكبه، من الشمس، كوكب بلوتو.. وهو على بعد 3671 مليون ميل، تقريبا، من الشمس.. وأقرب نجم، من نجوم الكون الخارجي من الشمس، يقع على بعد 4.22 سنوات ضوئية.. يعنى أن نوره يصل إلى الشمس في 4.22 سنوات.. فإذا علمنا أن النور يسير بسرعة 186282 ميل في الثانية الواحدة، تبين لنا كيف أن الكون الداخلي جيب صغير، داخل الكون الخارجي.. إن الكون الداخلي هو بمثابة الرحم، من الكون الخارجي.. وفي هذا الرحم تكونت الحياة - حياة واللحم، والدم - في الأرض، كما تتكون حياة الأحياء في أرحام الأمهات اليوم.. الكون الداخلي صغير، ومحدود.. ولكن الكون الخارجي غير محدود، وغير متناه، وإنما هو مطلق، لأنه مظهر المطلق.. ونحن لم نقل إن الكون الداخلي صغير، ومحدود، إلا باعتبار المادة - باعتبار المسافات، وإلا فإنه أهم من الكون الخارجي، بنحو قريب من كون الإنسان - برغم صغر جرمه - أهم من جميـــع الأكوان.. وما دمنا نتحدث عن الأبعاد لتصوير صغر الكون الداخلي، إذا ما قورن، من حيث الحجم، بالكون الخارجي، فلنذكر أن نور القمر يصل إلى الأرض في 1.28 ثانية،
((ولقد قطعت مسافة القمر من الأرض مركبة القمر في أربعة أيام..
)) فهل نستطيع أن نتصور بعد أقرب نجم إلينا من الكون الخارجي، حين يسافر نوره إلينا، في 4.22 سنوات؟؟ وما هي فرصة الإنسان في السفر في الفضاء الخارجي؟؟ أو ما سمي بالفضاء الخارجي؟؟ (وفي الحقيقة ليس هناك فضاء في الكون، وإنما كله معمور بالحياة، ولكنها ليست الحياة التي نعرفها نحن بعقولنا).. وما دمنا في ذكر القمر، فلنقل إنه، عند الفلكيين، ليس بكوكب من الكواكب السيارة، وإنما هو تابع للأرض، والأرض هي الكوكب السيار حول الشمس.. ولكن، من وجهة نظر الدين، فإن القمر أهم من جميع الكواكب السيارة، ما خلا الأرض.. وثالوث الأرض، والشمس، والقمر، يرد كثيرا في القرآن.. ولقد ورد ذكر القمر، في القرآن، سبعا وعشرين مرة.. وورد ذكر الشمس، ثلاثا وثلاثين مرة. وورد ذكر الأرض، من حيث هي، نحوًا من أربعمائة وستين مرة.. ولأهمية الكون الداخلي فإن الدين، في المرحلة، ركز عليه كثيرا.. يقول تعالى:
((ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض، وسخر الشمس، والقمر، ليقولن الله.. فأنّى يؤفكون؟؟
)) ويقول تعالى:
((الله الذي رفع السموات بغير عمد، ترونها، ثم استوي على العرش، وسخر الشمس، والقمر، كل يجرى لأجل مسمى، يدبر الأمر، يفصل الآيات، لعلكم بلقاء ربكم توقنون..
)) قولــه تعالى:
((كل يجــرى لأجل مسمى
)) هو ما قلنا عنه: إن الدين ركز، في المرحلة على، الكون الداخلي، وإلا، فإن، في عبارة السموات، موجود الكون الخارجي، المرئي الآن، وغير المرئي، المعروف الآن، وغير المعروف.. وفي الكون الداخلي، فإن السموات سبع، باعتبار أن الأرض هي المركز.. السماء الأولى القمر، والثانية الزهرة، والثالثة عطارد، والرابعة الشمس، والخامسة المريخ، والسادسة المشترى، والسابعة زحل.. والكواكب السيارة، فوق زحل، وهي ثلاثة، لا تكاد ترى بالعين المجردة.. وعلى عهد العرب، فإن الفلكيين كانوا يعتبرون زحلا أبعد الكواكب.. ولقد قال أبو العلاء المعري، في ذلك:
زحل أشرف الكواكب دارا * من لقاء الردى على ميعاد
فالسموات السبع هن، الأجرام السبعة، ومداراتها السبعة، قال تعالى، في ذلك:
((ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق، وما كنا، عن الخلق، غافلين..
)) وإلى هذه الأجرام السبعة وثامنتها الأرض، تشير، لدى التجسيد، الأسماء الحسنى الثمانية، وهي: الملك للأرض، والقدوس للقمر، والسلام للزهرة، والمؤمن لعطارد، والمهيمن للشمس، والعزيز للمريخ، والجبار للمشترى، والمتكبر لزحل.. وهذه الأسماء، وجميع الأسماء الحسنى، هي في حق الإنسان، وتتعالى عنها الذات العلية، فهي فوق الأسماء، وفوق الإشارات.. ولأن الكون، من الإنسان، أبرزه الله خارجه ليعلمه به، قال تبارك، وتعالى:
((سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه، على كل شيء شهيد؟؟
)) و
((أنه الحق
)) هنا تعود على الإنسان، ومن ورائه إلى الذات المطلقة، ولكن عندما يصبح الحق حقيقة، وعندما تنقطع العبارة، والإشارة..
45) كل ذرة، من ذرات الكون، أرضه، وسمواته، المرئي منها، وغير المرئي، والمعروف منها، وغير المعروف، له مقابل في بنية الإنسان - قلبه، وجسده، وعقله.. ذلك بأن الله، تبارك، وتعالى، قد خلق الكون على صورة الإنسان، وخلق الإنسان على صورته هو، سبحانه وتعالى، ولقد قال المعصوم:
((إن الله خلق آدم على صورته
)).. وهذه العلاقة الحميمة هي التي جعلت قوى العبادة في الإنسان تتجه إلى نظائرها في الكون، فعبد الشجر، وعبد الحجر، وعبد النار، وعبد الأجرام السماوية، وعبد الظواهر المختلفة، في البيئة التي تكتنفه.. وأرفع العبادة، لقوى الطبيعة، في طريق التوسل بها إلى خالقها، ما اتفق لإبراهيـم الخليل، حيث يقص علينا الله، تبارك، وتعالى، من خبره:
((وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات، والأرض، وليكون من الموقنين * فلما جنّ عليه الليل رأى كوكبا.. قال هذا ربى!! فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا، قال: هذا ربى.. فلما أفل، قال: لئن لم يهدني ربى، لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة، قال: هذا ربى.. هذا أكبر.. فلما أفلت، قال: يا قومي!! إني بريْ مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات، والأرض، حنيفا، وما أنا من المشركين
)).. وكذلك هداه الله إلى الحق بآيات الآفاق..
((سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم انه الحق..
)).. إن الكون هو الإنسان، ولكن الإنسان ليس الكون، لأن الإنسان أهم من الكون.. وإن الإنسان هو الله، ولكن الله ليس الإنسان، لأن الله باقٍ - كائنٌ - والإنسان فانٍ - مستمر التكوين.. وهو مستمر التكوين يطلب كينونة الله!! وهيهات!! هيهات!! وإنما حظه من ذلك أن يكون مستمر التكوين، في السرمد، وهذا هو كماله، وليس لكماله نهاية، لأن نهايته إنما هي عند الله، حيث لا عند..
((وأن إلى ربك المنتهى
)) ولا منتهى..
هذا هو الله.. وهذا هو الكون.. نحن من الله، وإلى الله.. والكون منا، قد خلقه الله لنا ليعيننا، فهو منا، وإلينا.. ولكن الجهل، منذ أول النشأة، وإلى اليوم، قد أوهمنا أننا إنما نعيش في وسط العداوة.. قال شاعرنا، وفي وقت متأخر جدا، إذا ما قورن ببدء النشأة:
كأن فجاج الأرض، وهي عريضة * لدى الخائف، المطرود، كفة حابل
يؤتـى إليـه، أن كـل ثنيـة * تيممهـا ترمـى إليه بقـاتــل..
هذا الخوف الساذج، الفطري، الذي أملاه علينا الجهل، المطبق، في سالف عصورنا، لا يزال يوهمنا بالعداوات، ويغرى بيننا البغضاء، والأحقاد، والضغائن، ويثير الحروب.. وفى تطورنا نحو التحرر من الخوف ننزل المنازل المختلفة، ونعرف، في مستوى من المستويات، كل حين، حقيقة البيئة التي نعيش فيها.. ولقد جاء القرآن ليوحد هذا الخوف في الله وحده، ريثما يحررنا، بالعلم، من الخوف العنصري، الساذج، وحتى من خوف الله.. إقرءوا هذه الآيات، شديدة الدلالة على جهلنا، بالغة الحكمة في علاجنا، من ذلك الجهل.. قال تبارك وتعالى:
((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات، أو قتل، انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب، على عقبيه، فلن يضر الله شيئا، وسيجزى الله الشاكرين * وما كان لنفس أن تموت، إلا بإذن الله، كتابا مؤجلا، ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها.. وسنجزي الشاكرين * وكأيّن من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا، وما استكانوا، والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، والله يحب المحسنين * يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم، فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم، وهو خير الناصرين * سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب، بما أشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانا، ومأواهم النار، وبئس مثوى الظالمين * ولقد صدقكم الله وعده، إذ تحسّونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم، وتنازعتم في الأمر، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم، ليبتليكم، ولقد عفا عنكم، والله ذو فضل على المؤمنين * إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، والرسول يدعوكم في أخراكم، فأثابكم غما بغم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم، ولا ما أصابكم، والله خبير بما تعملون * ثم أنزل عليكم، من بعد الغم، أمنة، نعاسا يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم، يظنون بالله غير الحق، ظن الجاهلية يقولون: هل لنا من الأمر من شيء؟؟ قل إن الأمر كله لله.. يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك.. يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا.. قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، وليبتلي الله ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، والله عليم بذات الصدور * إن الذين تولوا منكم، يوم التقى الجمعان، إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، ولقد عفا الله عنهم.. إن الله غفور حليم * يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا، وقالوا لإخوانهم، إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزَّى: لو كانوا عندنا ما ماتوا، وما قتلوا، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، والله يحيي، ويميت، والله بما تعملون بصير * ولئن قتلتم في سبيل الله، أو متّم، لمغفرة من الله، ورحمة، خير مما يجمعون * ولئن متّم، أو قتلتم، لألى الله تحشرون * فبما رحمة، من الله، لنت لهم، ولو كنت فظا، غليظ القلب، لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين * إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى الله فليتوكل المؤمنون
)).. ومشكلتنا كلها واردة في قوله تعالى:
((وطائفة قد أهمتهم أنفسهم، يظنون بالله غير الحق، ظن الجاهلية!!
)) سبب الخوف جهلنا، وحرصنا على سلامة أنفسنا، حتى لقد ظننا بالله غير الحق.. والآن فإن كل وكد الدين هو تحريرنا من الخوف، عن طريق العلم، وعن طريق تسليم أنفسنا لله، فهو أولى بها منا.. وإنما من أجل ذلك، كتب علينا أن نقاتل في سبيل نصرة الله، بنصرة الحق، قال تعالى:
((كتب عليكم القتال، وهو كره لكم.. وعسى أن تكرهوا شيئا، وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم، وأنتم لا تعلمون..
))..