إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

حيثيات المحكمة العليا
في قضية الأستاذ محمود محمد طه

ففي المقام الأول أخطأت محكمة الاستئناف فيما ذهبت اليه من أن المادة 3 من قانون أصول الأحكام لسنة 1983 كانت تبيح لها – أو لأي محكمة أخرى – توجيه تهمة الردة. وان كان ثمة ما يفرّق في هذا بين محكمة الاستئناف وأية محكمة أخرى، فإن ذلك هو أن محكمة الاستئناف كانت مقيدة كسلطة تأييد بقيود اضافية أخرى على ما سنتناوله من تفصيل فيما بعد – على أننا نرى حاجة ملحة في هذه المرحلة، الى بيان وجه الخطأ في التأويل الذي أوردته محكمة الاستئناف بشأن المادة 3 المشار اليها نظرا لما يبدو لنا من أن هذا المفهوم الخاطئ ليس قصرا على تلك المحكمة ونظرا للخطورة البينة في كل ذلك. ورغم أن المادة 3 – على أي معنى أخذت – لم تعد تسري على المسائل الجنائية (أنظر التعديل الصادر فيها بتاريخ 24/4/1986) الاّ أن الحاجة الى تحديد اطارها ما زالت قائمة لا بشأن آثارها محل النظر أمامنا فحسب، وإنما لأغراض الفقه والسياسات التشريعية في المستقبل.
ان المادة 3 من قانون أصول الأحكام كانت تقرأ كما يلي: -
"على الرغم مما قد يرد في أي قانون آخر، وفى حالة غياب نص يحكم الواقعة.. الخ" ومؤدى ذلك أن سكوت القانون عن مسألة ثابتة شرعا لا يحول دون تطبيق المبدأ الشرعي. ولا خلاف بعد هذا على أن في الإسلام جريمة تسمى الردة وعلى أن قانون العقوبات، وهو القانون الجنائي الشامل، لم ينص صراحة على الردة كجريمة، فهل في ذلك ما كان يبيح للمحكمة توجيه تهمة الردة؟
ان الإجابة التي أوردتها محكمة الاستئناف لهذا السؤال، وان لم تكن محمولة على أسباب، تكشف عن فهم قاصر للمادة 3 هو أن مجرد السكوت عن مسألة ما يكفي لإطلاق يد المحكمة في تطبيق ما عنّ لها من قواعد تعتقد في ثبوتها شرعا، ولم تفطن المحكمة، الى أن سكوت القانون عن مسألة ما قد يقترن بمعالجة للمسألة ذاتها في صيغة أخرى لا تجعل شرط السكوت متحققا في واقع الأمر. فالجريمة "المسكوت عنها" في قانون العقوبات فيما قالته محكمة الاستئناف غير مسكوت عنها في المادة 70 من الدستور الملغى اذ أن تلك المادة كانت تقرأ كما يلي: -
"لا يعاقب شخص على جريمة ما إذا لم يكن هناك قانون يعاقب عليها قبل ارتكاب تلك الجريمة.."
ومؤدى ذلك انه ما لم يكن هناك قانون يجرّم الفعل وقت ارتكابه فانه لا مجال لاعتبار الفعل جريمة، والقانون هذا هو التشريع، رئيسيا كان أو فرعيا.
اننا نرى بداية أن ما نصت عليه المادة 3 لم يكن من شأنها اضفاء سلطة ترقى في طبيعتها الى سلطة التشريع لا تختص بها المحاكم أصلا. ونرى أيضا ان المادة 70 من الدستور حين أحالت أمر النص على الجريمة الى القانون انما هدفت الى أن تكون السلطة في يد المشرّع دون غيره يمارسها بوضع نصوص صريحة ولا يمكن بأي حال تفسير المادة 70 على وجه يجعل الإشارة الى عبارة "القانون" اشارة الى جهة لا صفة لها في التشريع، سواء أكانت هي المحاكم او خلاف ذلك. ذلك لأن إحالة الأمر للقانون لم تكن دون حكمة، اذ أن التشريع بطبيعته يتميّز بالعلانية والمستقبلية والخلو من المفاجآت وفى هذا ما يضمن تحقيق الهدف من المادة 70 وهو عدم رجعية القوانين الجزائية، أما وضع سلطة تقرير الجريمة في يد القاضي فانه من شأنه أن يهدر ذلك الحق نظرا الى ما قد يحمله قرار القاضي من مفاجآت – بسبب أن تلك القرارات ترد بطبيعتها على مسائل وقعت قبل ذلك القرار. وحيث انه لا ينبغي تفسير القانون بما يتعارض مع الحقوق الدستورية فإن القانون الذي كان ينبغي أن يحدد الجرائم طبقا للمادة 70 من دستور سنة 1973 الملغى هو التشريع (راجع في هذا التعريق عبارة "قانون" في قانون تفسير القوانين والنصوص العامة)، فاذا خلا القانون العقابي الشامل، فيما رأيناه، عن أي نص صريح على جريمة الردة، فهل كان من شأن نص المادة 3 من قانون أصول الأحكام ما يجعل تلك الجريمة منصوصا عنها بطريقة أو أخرى؟
انه مما لا جدال عليه أن قانون أصول الأحكام لا يشتمل هو الآخر على نص صريح على جريمة اسمها الردة (أو حتى أية جريمة أخرى) اذ أن ذلك القانون ليس قانونا عقابيا من حيث المبدأ، الا أن ما أدى الى هذا الخلط هو أن المادة 3 من ذلك القانون أضفت على المحكمة سلطة غير مألوفة في استحداث المبادئ غير المنصوص عنها، ويبدو أنه ما من أحد وقف يتأمل فيما إذا كان في ذلك ما يضفى على المحاكم سلطة تشريعية فيما يتعلّق باستحداث جرائم خلافا للمبدأ المقرر فقها ونصا في عدم رجعية القوانين العقابية، وما إذا كانت السلطة الممنوحة للقضاة على الوجه الذي نصت عليه المادة 3 مما يمكن أن يغنى عن النص الصريح أو يقوم مقامه بما يجعلها متسقة مع نص المادة 70 من الدستور؟ الصريح الصادر من جهة تشريعية مختصة دون غيره وما كان ليغنى عنه نص مبهم في قانون صدر متزامنا مع قانون عقوبات شامل لم يترك شاردة، ولا واردة ومع ذلك لم يجرؤ على النص على جريمة خطيرة كجريمة الردة كانت هي الأولى بالنص الصريح فيما لو كان المشرّع راغبا حقا في ذلك، جادا في توجهه ونهجه وواعيا بمنهجه.
ان ما تقدم بحكم تطبيق المادة 3 من قانون أصول الأحكام عموما وفى أية حالة كانت عليها الدعوى الجنائية، غير أن تطبيق المادة وفى مرحلة التأييد بإضافة تهمة جديدة لم يتم توجيهها في مرحلة المحاكمة يضيف عيبا جديدا هو أن اشتطاط المحكمة لا يكون قد وقف عند حال اغفال التقاليد القضائية التي سادت هذه البلاد عبر السنين الطويلة فحسب، وانما أيضا يكون قد امتد الى مخالفة النصوص الصريحة لقانون الإجراءات الجنائية الذي يحكم إجراءات التأييد، اذ لا سند في المادة 238 من ذلك القانون الى تحدد سلطات جهة التأييد لما اتخذته محكمة الاستئناف من إجراء.
على أن محكمة الاستئناف لم تكن عابئة فيما يبدو بدستور أو قانون اذ انها جعلت من إجراءات التأييد التي ظلت تمارسها المحاكم المختصة في سماحة وأناة وبغرض مراجعة الأحكام مراجعة دقيقة وشاملة، محاكمة جديدة قامت فيها المحكمة بدور الخصم والحكم بما حجبها عن واجبها، حتى بفرض صحة توجيه تهمة جديدة في هذه المرحلة في أن تعيد الإجراءات مرة أخرى لمحكمة أول درجة لإعادة المحاكمة بموجب التهمة الجديدة وذلك فيما تقضى به المادة 238 (هـ) من القانون أو أن تتجه الى سماع المحكوم عليهم بنفسها وفاء بواجبها في ذلك بموجب المادة 242 من القانون ذاته، التي، وإن كانت ترد في صيغة سلطة تقديرية، الاّ انها تأخذ شكل الإلزام عندما يكون السماع ضروريا. ولا نرى ضرورة توجب السماع أكثر من أن يكون الحكم الذي تقرر المحكمة اصداره بالردة عقوبتها الإعدام.
ومها كان من أمر النصوص القانونية فان سماع المتهم قبل ادانته مبدأ أزلي لم يعد في حاجة الى نص صريح بل تأخذ به كافة المجتمعات الإنسانية على اختلاف عناصرها وأديانها باعتباره قاعدة مقدّسة م قواعد العدالة الطبيعية.
وقد كان منهج محكمة الاستئناف أكثر غرابة حين استندت في حكمها على مسائل ليس من شأنها أن تقوم مقام الأدلة التي يجوز قبولها قانونا. ومن ذلك ما أشارت اليه تلك المحكمة من الأقوال "المعروفة للناس عامة" والأفعال "الكفرية الظاهرة" في ترك الصلاة وعدم الركوع او السجود.. وما الى ذلك مما لا يتعدى في أحسن حالاته الأقوال النقلية والعلم الشخصي وليس في أي منهما ما يرقى الى الدليل المقبول قانونا (راجع المادتين 16 و35 من قانون الإثبات لسنة 1983).
ولم تكتف المحكمة في مغالاتها بهذا القدر وانما تعدته الى الاستدلال بقرارات وآراء جهات لا سند في القانون للحجية التي أضفتها المحكمة على اصداراتها. أما حكم محكمة الاستئناف الشرعية العليا التي عوّلت محكمة الاستئناف الجنائية عليها كثيرا، فانه يستوقفنا فيه انه حكم وطني يلزم استبيان حجيته نظرا الى ما يمكن ان تثيره طبيعته الوطنية من تساؤل حول تلك الحجية. والحكم المشار اليه صدر في 18/11/1968 في القضية 1035/68 حيث قضت محكمة الاستئناف الشرعية العليا بالخرطوم بإعلان محمود محمد طه مرتدا. وأول ما تجدر ملاحظته في شأن ذلك الحكم أنه صدر حسبة كما وقع غيابيا، والسؤال الذي يفرض نفسه هو ما إذا كان في ذلك ما يقوم مقام الحكم الجنائي بالردة؟
وفى تقديرنا أن الإجابة القطعية أن ذلك الحكم لا يستحق هذه الصفة وذلك لأن المحاكم الشرعية – ومن بينها محكمة الاستئناف الشرعية العليا في ذلك الوقت – لم تكن تختص بإصدار أحكام جنائية، بل كانت اختصاصاتها مقتصرة على مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين من زواج وطلاق وميراث وما الى ذلك مما كانت تنص عليه المادة الخامسة من قانون المحاكم الشرعية لسنة 1967 الساري وقتئذ (وليست المادة 6 من قانون 1902 فيما تشير اليه هيئة الادعاء..)
ولعل أبلغ دليل على عدم على عدم اختصاص المحكمة الشرعية فيما أصدرته من حكم أن ذلك الحكم جاء غيابيا فما نحسب أن محمود محمد طه كان حصينا من سلطة الإجبار التي كانت تتمتع بها المحكمة فيما لو كانت محكمة ذات اختصاصات جنائية. كما يقف دليلا على عدم الاختصاص أن المحكمة لم تجد سبيلا لتنفيذ الحكم لا في ذلك الوقت ولا في وقت لاحق وهو ما لم يكن يحول دونه غياب المحكوم عليه خاصة وأن للحكم عقوبة مقررة شرعا هي أعلى مراتب العقوبات المدنية.
ونخلّص من كل ما تقدم الى أن إجراءات محكمة الاستئناف الجنائية في اصدار حكم الردة في مواجهة محمود محمد طه ورفاقه كانت، وللأسباب التي سبق تفصيلها، جاحدة لحقوق دستورية وقانونية شرّعت أصلا لكفالة محاكمة عادلة.
أما السلطة العامة لتلك المحكمة في تأييد أحكام المحاكم الجنائية التي تم تشكيلها بموجب المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هـ فقد نص عليها القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405 هـ ومن الناحية العامة، فان ذلك، فيما نوهنا به من قبل، قرار يتحمّل وزره من أصدره، على أنه ينبغي النظر الى سلطة التأييد تلك من زاويتين، أولاهما في مدى سلامة القرار الجمهوري في هذا الشأن، وثانيتهما، أثر ذلك في عدالة الإجراءات التي تمت بممارسة تلك السلطة.
وبالنظر الى الأمر من الزاوية الأولى يبين أن المادة 18 من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هـ التي كانت تصلح سندا لتشكيل محاكم الاستئناف الجنائية كانت تنص على ما يلي: -
"تستأنف أحكام وقرارات المحاكم الجنائية المكوّنة بموجب المادة 16 (أ) من هذا القانون أمام محكمة الاستئناف التي يحددها قرار التكوين ويحدد إجراءاتها."
وقد نص القرار الجمهوري رقم 35 (وهو قرار التكوين المشار اليه في المادة 18) في الفقرة (ز) من المادة الثالثة منه على ما يلي: -
"تتولى محكمة الاستئناف التوصية لرئيس الجمهورية بشأن أحكام الإعدام والرجم قبل رفعها للتأييد"
والسؤال الذي يثيره هذان النصان هو ما إذا كان فيهما ما يضفي على محكمة الاستئناف سلطة في تأييد الأحكام تطغى على سلطة المحاكم العليا في هذا الشأن والمنصوص عليها في المادة 234 من قانون الإجراءات الجنائية.
والإجابة على ذلك تعتمد في المقام الأول على ما إذا كان منح مثل هذه السلطة مما يدخل في معنى عبارة "تحديد الإجراءات" الواردة في المادة 18؟
وفى تقديرنا أنه من الجائز عموما أن ينطوي تحديد الإجراءات على منح بعض السلطات التي قد تكون ضرورية ولازمة في معرض تلك الإجراءات الاّ أنه من غير المتصور أن تمتد تلك السلطات الى مستوى يشكل تغوّلا واعتداء على جهات تستمد صلاحياتها من القانون نفسه. وعلى وجه الخصوص فإننا نرى انه ليس من شأن السلطات الممنوحة على هذا الوجه أن تسلب محكمة أعلى مقاما كالمحكمة العليا، من صلاحيتها التي يقررها قانون نافذ لا يقل درجة عن القانون المانح للسلطة، بل ومن الدستور نفسه وهو مصدر القوانين والسلطات. فالقول بخلاف ذلك ينتهي الى نتيجة غير مستساغة هي أن السلطات المقررة للمحكمة العليا عرضة للمصادرة بتشريع فرعى أو قرار تنفيذي وهو ما لا يجد سندا لا في نص صريح ولا في المبادئ العامة للشرعية.
على أنه، ومهما كان وجه الرأي بشأن سلطات محكمة الاستئناف الجنائية فانه طالما ظلت المادة 234 من قانون الإجراءات قائمة ونافذة، فانه كان ينبغي عرض الأحكام الصادرة ضد محمود محمد طه وزملائه على المحكمة العليا سواء قبل تأييدها في محكمة الاستئناف الجنائية أو بعد ذلك.
وإذا كان هذا هو التكييف القانوني للقرار الذي منحت به محكمة الاستئناف سلطة تأييد الأحكام، فان لذلك القرار وجها آخرا ذا أثر خطير ومباشر في تأييد حكم الإعدام في حق المحكوم عليهم ومن بعد ذلك في تنفيذ ذلك الحكم على أحدهم وهو محمود محمد طه.
ففي هذا الشأن لم تقتصر مخالفات محكمة الاستئناف الجنائية (التي استقلت بسلطة التأييد) في اصدار حكم بالردة، وإنما امتدت الى تأييد أحكام الإعدام التي صدرت ترتيبا على الإدانة بموجب قانون العقوبات وأمن الدولة. وهذا التأييد، وإن كان محمولا على أسباب هي في ظاهرها اقتناع المحكمة بثبوت الإدانة وتناسب العقوبة، الا أنه في واقع الأمر محمول على الردة التي استحوذت على جل، ان لم يكن كل، اهتمام محكمة الاستئناف الجنائية.
وقد ترتب على استقلال محكمة الاستئناف بسلطة التأييد على هذا الوجه ان فات على المحكمة العليا، ليس فقط حصر الإدانة – ان كان ثمة ما يسندها – في الاتهامات الموجهة بموجب قانوني العقوبات وأمن الدولة دون غيرهما، وإنما أيضا أن تقصر العقوبة على ما كان يتناسب وفعل المحكوم عليهم وهو فيما نعلم لا يتعدى إصدار منشور يعبّر عن وجهة نظر الجمهوريين في قوانين، كانت، وما زالت، محلا للآراء المتباينة على الساحتين الدولية والمحلية، مما لا يعدو أن يكون مخالفة شكلية (ان كانت كذلك أصلا) لا تتناسب عقوبة الإعدام جزءا لها. غير أن محكمة الاستئناف وفى محاولة متعجّلة لربط الفعل بقناعتها المسبقة في ردة المحكوم عليهم، انتهت الى تأييد حكم الإعدام كعقوبة "شاملة" فيما أسمتها.
على أن الآثار المترتبة على حجب الإجراءات عن المحكمة العليا وحصرها في محكمة الاستئناف الجنائية اتخذت شكلها المأساوي حين تم تنفيذ حكم الإعدام على محمود محمد طه بإغفال تام لنص المادة 247 من قانون الإجراءات الجنائية رغم أنه كان من الثابت أنه جاوز السبعين من عمره وقتئذ. ولعلنا لا نتجنى على الحقيقة لو أننا قلنا إن تنفيذ الحكم ما كان ليتم لولا أن محكمة الاستئناف أضافت الإدانة بالردة وهو ما لم يكن أصلا فيما لو كانت الإجراءات قد عرضت على المحكمة العليا بدلا من أن تستقل محكمة الاستئناف بإجراءات التأييد لتنتهي الى ذلك الحكم من خلال المخالفات القانونية والدستورية التي تناولناها فيما تقدّم.
هذا ما كان من أمر ما تم باسم القضاء، أما ما صدر من رئيس الجمهورية السابق عند التصديق على الحكام فإنه يكفي لوصفه أن نقرر أنه مجرد من أى سند في القوانين والأعراف ولا نرى سببا للاستطراد فيه بأكثر من ذلك عما فيه من تغوّل على السلطات القضائية فقد كاد أن يعصف بها كلها من قبل. على أنه ومن وجهة النظر القانونية البحتة، فانه ولما كان من الجائز قانونا للرئيس السابق ان يصدر قراره في تأييد حكم الإعدام دون إبداء سبب لذلك، فإن استرساله في الحديث على الوجه الذي كشف عنه البيان المعروف والمدّون، لا يعدو أن يكون تزيّدا لا أثر له في تقويم الحكم الذي تصدى لتأييده.
ولو كان لذلك البيان أثر يجدر ترتيبه عليه، فانه انما فيما تضمنه من عبارات ربما كانت هي الأسباب الحقيقية لتقديم محمود محمد طه ورفاقه للمحاكمة.
ومذهب هيئة الادعاء في هذا الشأن هو أن المحاكمة استهدفت محاكمة فكر الجمهوريين وتقييد حرياتهم السياسية والدينية وحظر نشاطهم إهدارا لحقوقهم الدستورية في كل ذلك.
وهذه المحكمة، وإن كانت تجد أنه من العسير عليها تفسير ما هو ثابت أمامها الاّ في إطار ما ذهبت اليه هيئة الادعاء، الاّ أنها، وفى ذات الوقت، لا ترى في ذلك ما يتيح لها إصدار قرار جازم في هذا المعنى خاصة وإقرارات النائب العام في هذا الشأن تتجاوز صلاحياته كممثل قانوني للحكومة في صفتها المعنوية لتشمل مسائل تتعلّق بها مسئوليات شخصية أخرى لا يمثلها النائب العام.
ولما كان الحكم الصادر في حق المدّعيين مشوبا بكل العيوب التي تم تفصيلها فيما تقدّم، فإن إجراءات ما سميت بالاستتابة تكون قائمة على غير ما ضرورة قانونية وذلك فضلا عن افتقارها لأي سند صريح أو ضمني من القانون. غير أنه يجمل أن نقرر من باب الاستطراد ان تلك الإجراءات وقعت بقهر بيّن للمحكوم عليهم نظرا الى الظروف التي تمت فيها حيث لم يكن من المتصور عقلا أن يمتنع المحكوم عليهم عن إعلان التوبة التي طلبت منهم وسيف الإعدام مشهور في وجوههم فكان في ذلك إقرار ضمني بحكم الردة الذي صدر من وراء ظهورهم. وحيث أن ذلك الحكم قد وقع باطلا على ما سبق تقريره فانه يترتب على ذلك بداهة أن تكون التوبة التي صدرت بالإكراه خالية من أى معنى هي الأخرى.
وحيث أن المسائل التي أثارتها هذه الدعوى مما لم يكن من المتاح التصدي له في إطار قواعد الإجراءات السارية حاليا الاّ من خلال دعوى دستورية ودون أن يكون في ذلك ما يخل بمبدأ حجية الأحكام فيما تتوفر له شروط تطبيق ذلك المبدأ، فان هذه الدائرة تقرر، وتأسيسا على ما تقدم بيانه ان الحكم الصادر من محكمة الاستئناف الجنائية بالخرطوم في حق محمود محمد طه ورفاقه بتاريخ 15/1/1986 صدر بإهدار لحقوقهم التي كانت تكفلها لهم المواد 64و70و71 من دستور السودان لسنة 1973 (الملغى).
أما ما ترتب على ذلك من أحكام بالإعدام، فقد ألغيت في مواجهة جميع المحكوم عليهم فيما عدا والد المدعية الأولى. ورغم ما شابتها من مخالفات للقانون والدستور، فقد أصبحت حقائق في ذمة التاريخ، تقع المسئولية عنها سياسية في المقام الأول، ولم يعد من الممكن استدراك كثير من النتائج التي ترتبت على كل ذلك (الا ما بقي منها دون نفاذ) كما لم يعد من المتاح النظر الى الوراء الا لأغراض العظة والعبرة، فلم يعد من الميسور بعث حياة وئدت مهما بلغت جسامة الأخطاء التي أدت الى ذلك، تماما كما أصبح من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – العثور على جثمان أخفى بترتيب دقيق. بيد أنه يبقى أمر جوهري هو أن للمدعيين حقا في الحصول على إعلان بالحقائق المتعلقة بهذه المحاكمة التاريخية، وإن كان على ذلك الحق قيد فانه انما ينشأ عن طبيعة الإجراءات القضائية عموما وما تقوم عليه، على وجه الخصوص في مثل هذه الدعوى، من شكل هو بدوره محدد في طبيعته وخصومه وما يصلح محلا للتنفيذ في ضوء ذلك كله.
وعلى هدى من ذلك تقرر هذه الدائرة ما يلي: -
1/ اعلان بطلان الحكم الصادر في حق المواطنين محمود محمد طه والمدعى الثاني في هذه الدعوى من المحكمة الجنائية ومحكمة الاستئناف.
2/ إلزام المدعين برسوم وأتعاب المحاماة في هذه الدعوى.

محمد ميرغني مبروك فاروق أحمد إبراهيم
رئيس القضاء قاضى المحكمة العليا
رئيس الدائرة الدستورية عضو الدائرة الدستورية