مولد الفكرة الجمهورية
في هذا المناخ ولدت الفكرة الجمهورية يحملها عصبة من الشباب المثقف .. أبى صفاؤها الديني ، وحسها الوطني ، ووعيها السياسي ، أن تخوض مع الخائضين .. فولّت وجهها شطر الله ، ويممت نحو الشعب .. فدعت للجمهورية .. فماكان من القوم الا أن سخروا منها ، وقالوا: ان شعبنا شعب متخلف ، لايصلح معه النظام الجمهوري .. ودعوا الى المذهبية ، وصمموا على الاعتماد على الشعب ، ووطنوا النفس على عزل الطائفية عن الحركة الوطنية .. ولكن المثقفين ، من رجال المؤتمر والاحزاب ، قالوا ان هذه مثالية ، سيطول علينا الأمد حتى تتحقق ولذلك سارعوا بالانضواء تحت لواء الطائفية ، تتخذهم واجهة ، ويتخذونها سندا ولندع السفر الأول للجمهوريين ، الذي صدر بتاريخ 26 اكتوبر 1945 يلقي بعض الضوء على تلك الفترة التى نشأت فيها الفكرة الجمهورية :-
((أما بعد ، فعندما قيّض الله للبلاد فكرة المؤتمر استجابت لها والتفت حولها فدرج المؤتمر مرعيا مرموقا ، وانخرط الخريجون بزمامه في حماس باد ، وأمل عريض .. فدعا الى اصلاحات جمة ، فأصاب كثيرا من النجاح ، ووفق بوجه خاص ، في يوم التعليم .. فقد جمع الأموال وافتتح المدارس ، في شتى أنحاء القطر ، أو ان أردت الدقة ، انه ساعد العاملين من ابناء مدن القطر على انشاء المدارس الوسطى التي أرادوها ، وقد كان كلما أنشأ مدرسة ، أو ساعد على انشاء مدرسة ، تخلّى عنها لمصلحة المعارف ، تسيرها وفق مناهجها ، وأولاها ظهره ، وتطلّع الى غيرها .. فقد جعل وكده انشاء المدارس ولاشيء بعد ذلك – ثم ان المؤتمر كان له رأي ونشاط في الميدان الأقتصادي ، وفي اصلاح القرية ، واصلاح الفرد ، ومحاربة الأمية ، وتحسين الصحة العامة ، الى آخر ما الي ذلك مماجعل المؤتمر مرجوا – ثم ولدت الحركة السياسية في المؤتمر وذلك يوم بعث بمذكرة للحكومة يطالب فيها الى جانب حقوق أخرى بحق تقرير المصير ، وقد أحاط المؤتمر هذه المذكرة بتكتم رصين عاشت فيه حتى اللجان الفرعية في ظلام دامس ، ثم أخذ يتداول مع الحكومة الردود بهذا الشأن بدون أن يعني بأن يقول للجان الفرعية ، بله الشعب ، كيف يريد أن يكون هذا المصير الذي يطلب أن يمنح حق تقريره ، ثم انقضت فترة ومشت في المؤتمر روح شعبت أتباعه شيعا على أساس الصداقات وتجانس الميول باديء الرأي ، ثم اتخذ كل فريق اسما سياسيا وجلس يبحث مبادئه ودساتيره فمنهم من يريد للبلاد اندماجا مع مصر ومنهم من يريد لها معها اتحادا ، ومنهم من يريد لها شيئا لاهو بهذا ولاهو بذاك ، وانما هو يختلف عنها اختلافا هو على أقل تقدير في أخلاد أصحابه كاف ليجعل لهم لونا يميزهم عن هؤلاء وأولئك . أنبتت هذه الأحزاب وتعددت واختلفت فيمايوجب الاختلاف وفيما لايوجب الاختلاف ، ولكنها كلها متفقة على الاحتراب على كراسي المؤتمر ، وعلى الاستمرار في حرب المذكرات هذه مع الحكومة . وان الحال لكذلك واذا بالخبر يتناقل بقرب مولد حزب جديد ، ثم ولد حزب الأمة بالغا مكتملا ، وجاء بمباديء يغاير المعروف منها مباديء الأحزاب الأخرى مغايرة تامة ويكتنف المجهول منها غموض يثير الريب .. والمؤتمر في دورته هذه بيد الأشقاء ، وهم قد كان مبدؤهم الاندماج أول أمرهم ، ولكنهم عندما قدّموا مذكرتهم للحكومة – حسب العادة المتبعة - ظهر أنهم اعتدلوا وجنحوا الى الأتحاد ، ولكن الحكومة ردت عليهم ردا لايسر صديقا . فعكفوا عليه يتدارسونه حسب العادة أيضا .. ولكن هذه مساعي التوفيق تسعى بين الأحزاب لتتحد وتقدم مذكرة جديدة للحكومة ، فكانت مساومات ، وكانت ترضيات ، بين من يريدون الانجليز ، وبين من يريدون المصريين ، وظهرت الوثيقة – هكذا أسموها هذه المرة – الوثيقة التي تنص على حكومة ديمقراطية حرة في اتحاد مع مصر وتحالف مع بريطانيا.
هذه صورة سريعة جدا مقتضبة جدا لنشاط المؤتمر في السياسة وفي الاصلاح ، ولسائل أن يسأل لماذا لم يسر المؤتمر في التعليم على هدى سياسة تعليمية موضوعة ، منظور فيها الى حاجة البلاد كلها في المستقبل القريب والبعيد ؟ ولماذا لم يعن المؤتمر بمناهج الدراسة كما عني بانشاء المدارس ؟ وله أن يسأل لماذا عندما ولدت الحركة السياسية في المؤتمر اتجهت الى الحكومة تقدم لها المذكرات تلو المذكرات ، ولم تتجه الى الشعب تجمعه وتنيره وتثيره لقضيته ؟؟ ولماذا قامت عندنا الأحزاب أولا ثم جاءت مبادؤها أخيرا ؟؟ ولماذا جاءت هذه المباديء حين جاءت مختلفة في الوسائل ، مختلفة في الغايات ؟؟ ولماذا يحدث تحوّر وتطوّر في مباديء بعض هذه الأحزاب بكل هذه السرعة ؟ ثم لماذا تقبل هذه الأحزاب المساومة في مبادئها مساومة جعلت أمرا كالوثيقة عملا محتملا . وقد وقع واستبشر به بعض الناس ؟ نعم ، لسائل أن يسأل عن منشأ كل هذا – والجواب قريب ، هو انعدام الذهن الحر المفكر تفكيرا دقيقا في كل هذه الأمور . فلو كان المؤتمر موجها توجيها فاهما لعلم أن ترك العناية بنوع التعليم خطأ موبق لايدانيه الا ترك العناية بالتعليم نفسه ، ولأيقن أن سياسة ((سر كما تشاء)) هذه المتبعة في التعليم الأهلي سيكون لها سوء العواقب في مستقبل هذه البلاد .. فان نوع التعليم الذي نراه اليوم لن يفلح الا في خلق البطالة ، وتنفير النشيء من الأرياف ، وتحقير العمل الشاق في نفوسهم ، وانعدام الذهن المفكر تفكيرا حرا دقيقا ، هو الذي طوّع للمؤتمر ، يوم ولدت فيه الحركة السياسية – وهي قد ولدت ميتة- أن يعتقد أن كتابة مذكرة للحكومة تكفي لكسب الحرية ، حتى لكأن الحرية بضاعة تطلب من الخارج ويعلن بها الزبائن بعد وصولها ، حتى تكون مفاجأة ودهشة .. ولو ان جميع الأحزاب القائمة الآن استطاعت أن تفكر تفكيرا دقيقا لأقلعت عن هذه الألاعيب الصبيانية ، التي جعلت الجهاد في سبيل الحرية ضربا من العبث المزري )) هكذا يصور السفر الأول في عبارات مختصرة ، مبينة ، حالة الحركة الوطنية عند نشأتها ، ويشير بنظر ثاقب ، دقيق ، الى عدم نضجها ، وخطورة اتجاهها ، مما أثبتته السنوات التي عايشناها بعد نيلنا للاستقلال ، من فشل في الحكم ، واستمرار لصور الصراع على السلطة ، وتمكين الطائفية من رقاب الشعب ، واستغلالها للسياسيين ، وللحكومات ، لتضليل الشعب وتحريكه بالاشارة في الأنتخابات ، وفي اقامة الحكومات وفي اسقاطها ..