إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية - الكتاب الثانى

غرابة رأي الجمهوريين


لقد أبى الناس، يومئذ، رأي الجمهوريين، واستنكره بعضهم في خضم العواطف التي كانت تلفهم، ولكنهم اضطروا أخيراً إلى ما هو دونه بكثير، وبعد أن خرج الزعماء العرب من مؤتمر الخرطوم بُعَيْد حرب 1967 بقرارهم المشهور "لا تفاوض ولا صلح مع إسرائيل" عادوا الآن والمفاوضات تجري، والاتفاقات تعقد، والسعي للصلح النهائي على أشده.. بل ها هي السفن المحملة بالبضائع الإسرائيلية تمر بقناة السويس بعد أن كان المكتب العربي لمقاطعة إسرائيل يحصي على المتعاونين معها أنفاسهم، ويقاطع كل شركة تتعامل معها، حتى الممثلين المتعاطفين مع إسرائيل يحرم على أفلامهم دخول البلاد العربية ـ أما الآن فإن الصحف العربية تنشر، وكأمر عادي، مثل هذا النبأ الذي جاء في جريدة "الصحافة السودانية" بتاريخ 3/11/1975م:ـ

(شحنات إسرائيلية عبر قناة السويس.
أبحرت أمس من قناة السويس سفينة شحن يونانية، وهي تحمل أول شحنة من البضائع لإسرائيل.. وتتجه السفينة التي تحمل ثمانية آلاف وخمسمائة طن من الأسمنت الروماني إلى ميناء إيلات على خليج العقبة. وقد غادرت ميناء بورسعيد أمس قافلة مكونة من عشرين سفينة.. وقد سمحت السلطات المصرية للسفينة بالمرور في القناة بعد تفتيش شديد لحمولتها للتأكد من أنها لا تحمل مواداً غير الأسمنت. وتجيء هذه الخطوة ، من جانب السلطات المصرية، تنفيذا لإتفاقية فصل القوات الأخيرة في سيناء التي تنص على السماح للشاحنات الغير استراتيجية بالمرور من وإلى إسرائيل)


وقليلاً قليلاً يصبح أمر التعامل مع إسرائيل شيئاً مألوفاً تماماً!!
وفي ختام هذا الحديث المقتضب عن موقف الجمهوريين من ثورة 23 يوليو المصرية، نذكر أنه كانت قد تمت في عام 1958 الوحدة بين مصر وسوريا وسميت الدولة الجديدة: "الجمهورية العربية المتحدة" وكان الجمهوريون يرون أنها وحدة مصطنعة لن تلبث أن تنهار. واتفق في ذلك الوقت إرسالهم الخطاب المذكور آنفاً إلى جمال وقد إستهل هكذا:
"سيادة الأخ جمال عبد الناصر، رئيس جمهورية مصر"..
وقبل أن يخرج في شكل كتيب حملوا النسخة الخطية إلى مكتب أحد أصدقائهم وهو المرحوم الأستاذ صالح محمود ليكتب بالآلة الكاتبة ليرسل إلى القاهرة.. فلاحظ الأستاذ صالح وصف الخطاب لجمال "برئيس جمهورية مصر" فقال: إن الصحيح هو أنه "رئيس الجمهورية العربية المتحدة" وأمسك بالقلم ليجري التصحيح فاعترضه المرحوم الأخ ذا النون جبارة بأننا نقصد هذا، إذ عندنا أن جمال هو رئيس جمهورية مصر وحسب!!
وأرسل الخطاب بتلك الصفة ونشر بعد ذلك في شكل كتيب بنفس الصورة.. ولم تمض غير سنوات قلائل حتى انفضت تلك الوحدة. ولكن عز على جمال أن يعود إلى إسم "مصر" القديم.. حتى جاء أنور السادات فاعترف بالواقع شيئا ما ورجع إلى قريب من الإسم الأول فأطلق على بلاده إسم "جمهورية مصر العربية"!!