إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
لقد لاحظنا أن الوهابية، لتكفير المسلمين، يستخدمون النصوص الواردة في حق الكفار، ويأولونها في حق المسلمين، ويضيفون عبارات من عندهم، لتبرير ادِّعاءتهم الباطلة، مثل: إضافة عبارة "من دون الله" في الدعاء.. ويقولون، يدعون من دون الله، ويستشهدون بالأحاديث الواردة في حق غير المسلمين، بالنسبة لزيارة المقابر، أو في حق المسلمين قبل أن يأمر النبي بزيارتها.. ويهملون إهمالا تاما، النصوص والممارسات العملية، من النبي صلى الله عليه وسلم، والأصحاب، وكبار علماء المسلمين، وأئمتهم.. وابن تيمية بالذات، وهو إمامهم، ينفي ما هو ثابت عند الآخرين، دون إيراد أيِّ دليل، ويعمم رأيه الخاص، فيجعله رأي السلف، أو الإجماع .. الخ فيقول مثلاً: "إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، لم يستثن الصحابة رضوان الله عليهم الدعاء عند قبره ولا أقسموا به على الله، ولا عرفوا عند قبره، فكيف غيره" الرد على البكري 2 ـ 469 ويقول في مجموع الفتاوى 1ـ159 "ومنهم من يتأوَّل قوله تعالى (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم، جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيماً) يقولون إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة، ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر المسلمين، فإن أحدا منهم لم يطلب من النبي بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئاً، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم" الخطوط تحت الكلمات من عندنا.. ويقول في مجموع الفتاوى 24/327 (أما الزيارة البدعة وهي زيارة أهل الشرك ومن جنس زيارة النصارى الذين يقصدون دعاء الميت، والاستغاثة به، وطلب الحوائج عنده، فيصلون عند قبره، ويدعون به، وهذه ونحوه، لم يفعله أحد من الصحابة ولا أمر به رسول الله، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها)!! الخطوط تحت الكلمات من وضعنا.. لاحظ أنه يقول(لم يفعله أحد) من الصحابة ومن سلف الأمة وأئمتها!! وهذا كله قول باطل، ومغالطة في حقائق تاريخية، المصادر فيها متوفرة بكثرة..
لقد أوردنا كنماذج لزيارة الأصحاب للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان من السيدة عائشة وآخرين من الأصحاب، ونحن هنا سنورد أفعال وأقوال بعض سلف الأمة، وأئمتها، في الأمور التي ينفي ابن تيمية أنه ورد بقول أو فعل، عن واحد منهم بصددها!!
قال القاضي عياض في الشفاء 2-68و69: (وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها وواجب شد المطي إلى قبره صلى الله عليه وسلم، نريد بالوجوب هنا وجوب ندب وترغيب وتأكيد لا وجوب فرض) وقد سبق أن ذكرنا حديث العنتبي والأعرابي، والعنتبي من السلف الصالح، فهو شيخ الإمام مالك..
ومن الذين فسروا آية: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك..) ولم يجعلوا المجيء مقيدا بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ـــ وبالطبع هذا التقييد غير مذكور في الآية أصلا.. من هؤلآء المفسربين القرطبي والثعلبي وابن كثير والنسفي.. ومن الفقهاء الحنفية: الكمال ابن همام في فتح القدير 3/ 179 ـ 181والشربنلاني في نور الإيضاح 1/155.. والحنابلة: ابن عقيل الحنبلي في تذكرته وعبد القادر الجيلاني، في كتاب الغنية وابن الجوزية في المنتظم وابن قداسة المقدسي في المغنى.. الشافعية: أبو منصور الدباغ في كتابه الشامل، والبيهقي في شعب الإيمان، والنووي في المجموع، والقاضي الماوردي، والقاضي عبد الطيب، والسبكي في شفاء السقام ـ والسيوطي في الدر المنثور، وابن حجر الهيثمي في الجوهر المنظوم.. والمالكية: القاضي عياض في الشفاء، وشهاب القرآفي في الذخيرة، والزرقاني والقسطلاني في المواهب اللدنية..
والمؤرخون: ابن كثير في الكامل 8/506 وابن خلكان في وفيات الأعيان، وابن كثير في البداية والنهاية 12/150ـ151 راجع د. محمود السيد صبيح (أخطاء ابن تيمية) ص 307 ـ 308.
أما عن أسماء بعض الحفاظ والمحدثين المتوسلين بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالحين، فقد أورد المصدر السابق الأسماء، والأقوال في التوسل التي قالوها، وذكر المراجع، ونحن لا نحتاج ذكر كل هذه القائمة وأقوالهم، وكلهم من الأئمة المشهود لهم عند جميع المسلمين، سواء أن كانوا من الحفظة أوالفقهاء..
1. بالنسبة للحفاظ أورد عدد 92 حافظا وأقوالهم..
2. الأئمة الأربعة: أحمدبن حنبل، أبو حينيفة، الشافعي ومالك، أورد أقوالهم في الشفاعة ومصادرها..
3. أورد أسماء عدد من فقهاء كل مذهب من المذاهب الأربعة.. ثم أورد عدد 81 من المشاهير من الفقهاء، وأورد أقوالهم في التوسل ومصادرها..
4. أما المفسِّرون فأورد أسماء ستة من كبارهم، وأقوالهم ومصادرها..
5. ومن أصحاب المعاجم وعلماء اللغة أورد أسماء 12 وأقوالهم ومصادرها..
6. ومن المؤرخين أورد أسماء 19 وأقوالهم في التوسل ومصادرها.. المرجع السابق ص 330 – 344..
كل هؤلآء عند بن تيمية والوهابية، كفار ومشركين الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة، ويخلد في النار!؟ هم وأتباعهم، الذين هم تقريبا كل المسلمين، إذا استثنينا الوهابية !!..
يرى الوهابية، وابن تيمية أن بقاء الكفار في النار، بقاء لا نهاية له وعلى ذلك هم يعتبرون كل من يكفرونهم، محكوم عليه بالبقاء الدائم، والذي لا انقضاء له في النار، وبالطبع هذا، عندهم، أيضا مصير غير المسلمين!! في كتابهم (شرح العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام بن تيمية.. يجيء قولهم من ص77 (ومذهب أهل السنة في الجنة والنار هو الاعتقاد الجازم بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة دار أوليائه، والنار دار أعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون، وأهل النار من الكفار فيها مخلدون) لاحظ العبارة( مخلوقتان لا تفنيان)!! فكأنما وضعت في مقابل الآية الكريمة "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام" والآية الأخرى "ولا تدعوا مع الله الها آخر، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون).. فالجنة والنار عندهم يشاركان الله تعالى البقاء الدائم، السرمدي!! وقد قادهم إلى هذا الشرك الغليظ، والجهل الفاضح بالتوحيد، التفكير بالكلمات، فهم قد فهموا من الخلود البقاء السرمدي، مع إن الخلود زمن محدد، هو الزمن من الفتق إلى الرتق، وإليه الإشارة بقوله تعالى: "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض" ودوام السموات والأرض هو الفترة من الفتق إلى الرتق، وفي ذلك يجيء قوله تعالى: "أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما!؟" وقوله: "كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدا علينا إنا كنا فاعلين" وفناء النار وارد بالنص في الأحاديث النبوية.. والوهابية وابن تيمية يعلمون أن (من آمن فقد آمن بقضاء وقدر، ومن كفر فقد كفر بقضاء وقدر) ومع ذلك يحكمون على أهل النار بالبقاء السرمدي فيها!! تعالى الله عن هذه الجهالات علوا كبيرا، فإن الله تعالى، أرحم، وأكرم، من أن يتعامل مع خلقه وفق هذا التصور المريض!!
فإذا كان أمر الوهابية أمر دين، فإن آية ( ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) آية كافية جدا لتصحيح كل تخريجات الوهابية التي يكفِّرون بها المسلمين.. (فالآية تقول"جاءوك فاستغفروا الله)" ولولا أن "جاءوك" هذه، مقصودة من الله تعالى لقال (فاستغفروا الله)، من دون ذكرها.. فهي تفيد بوضوح تام، أن الاستغفار، عند الرسول مطلوب، وهو يختلف عن استغفار المرء دون هذه العندية ومع ذلك الآية تقول (واستغفر لهم الرسول) توكيدا للمعنى، وترسيخا لمبدأ التوسل، فإن استغفار المسلم لنفسه أقل بما لا يقاس من استغفار النبي له وقد أشرنا، ونحن نستعرض آيتي التوسل، إلى عبارة (أيهم أقرب)، وبالطبع النبي صلى الله عليه وسلم، أقرب من أيِّ مسلم، كما أنه أحرص علينا من أنفسنا، وأولى بنا من أنفسنا، وأعرف بمصلحتنا منا، فمن لا يعرف له هذا القدر من المكانة، والأهمية، من الذين يتبعونه، عمله عمل آلي لا يثمر، ومن يدعي محبته، دون أن يعرف هذا القدر من قيمته، ونفعه لنا، هو مجرد مدِّعي، ليس له من الحب نصيب.. وعبارة (جاءوك) ليست قاصرة على الأصحاب فقط، وإنما هي في حق كل مسلم، والمجيء هنا، هو اتِّباع بإحسان، وتقديس وتوقير ومحبة، وأدب، كما هو المجيء الحسي له في قبره.. ومن يحبه بهذه الصورة يجده، فقد قال، وهو الصادق المصدوق: "من رآني، فقد رآني حقا، فإن الشيطان، لا يتمثل بي" .. وقال: "من رآني في المنام سيراني يقظة".. ومن لا يصدقه، عليه أن يبحث له عن دين، غير الدين الذي جاء به.. وفهم الوهابية للموت، هو فهم ماديِّين، وليس فهم مسلمين.. فالموت بالنسبة للإنسان الصالح، زيادة في القرب من الله ــ زيادة في الحياة!! وما ورد في حق الشهداء، النبي أولى به منهم، وبآماد بعيدة.. وقد جاء في الحديث: "حياتي خير لكم، تحدِّثون ويُحدَّث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم.. أكثر من هذا، فإن أعمال الأحياء تعرض على الأموات!! والمدهش، أن ابن تيمية لا ينكر ذلك!! ففي مجموع الفتاوى 24/368 جاء قوله ( ولما كانت أعمال الأحياء تعرض على الموتى، كان أبو الدرداء يقول: اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملا أخزي به عبد الله بن رواحة) د. محمود السيد ص 257.. وقد أورد الامام أحمد وأبوداؤود والنسائي وابن ماجة وغيرهم قال رسول له صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا من الصلاة عليَّ فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ) قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت، قال: "إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" .. وقال بن كثير في تفسيره 3/44 عن عرض أعمال الأحياء على الأموات ما نصه (وهذا باب فيه آثار كثيرة عن الصحابة وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول: " اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزي به عبد الله بن رواحة").. وقد أوردنا اعتماد بن تيمية لهذا الحديث..
وفي حديث قيلة بنت مخرمة، جاء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا، واذا مات استرجع، فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر اليه صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا أمواتكم".. فالحديث واضح دلالته للعلاقة بين الأحياء والأموات.. وفي حديث النعمان ابن بشير، قال سمعت رسول الله عليه وسلم يقول: "ألا إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب تمور في جوها، فالله الله في إخوانكم من أهل القبور فإن أعمالكم تعرض عليهم"..
أما حديث أبي أيوب الأنصاري، فقد جاء فيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعمالكم تعرض على أقاربكم، وعشائركم، فإن كان خيرا فرحوا، واستبشروا وقالوا اللهم هذا فضلك، ورحمتك، فأتمم نعمتك عليه وأمته عليها.. ويعرض عليه عمل المسيء، فيقولون: اللهم ألهمه عملا صالحا، ترضى به عنه، وتقربه إليك" وهذا حديث واضح في دعاء الأموات للأحياء.. وهو قد رواه الطبراني في المعجم الكبير4/129 ـ والهيثمي في مجمع الزوائد 2/327 كما ورد أيضا عن أنس في مسند أحمد 3/164.. وعن أبي هريرة موقوفا نقله ابن حجر في فتح الباري 3/155 ـ وفي تفسير ابن كثير 2/388.. والنصوص في هذا الصددد كثيرة جدا، نكتفي منها بهذا القدر.. ولكن قبل مغادرة هذا الموضوع نحب أن نذكِّر الوهابية بما قاله إمامهم بن تيمية من كتابه الكلم الطيب، تحت عنوان (فصل في الرجل اذا خدرت رجله) فقد جاء فيه: عن الهيثم بن حسن، قال: "كنا عند عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما، فخدرت رجله، فقال له رجل: اذكر أحب الناس اليك فقال: يامحمد، فكأنما نشط من عقال" راجع سامي قاسم أمين ص 97..