إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الديـن والتنمية الاجتماعية

البيئة مظهرها مادي وحقيقتها روحية:-


وليس إلى التحرير من الخوف من سبيل إلا سبيل العلم بحقيقة البيئة الطبيعية التي ، عن الجهل بها ، نشأ الخوف في صدور الرجال والنساء ، أول الأمر .. وإنما من أجل تحرير الرجال والنساء من هذا الخوف جاء الإسلام بقرآنه ، وبمنهاج عبادته ، ومنهاج عادته ..
فالإسلام ، في المستوى الفردي ، يتجه إلى تحقيق الحرية الفردية المطلقة لسائر أفراد الرجال ، والنساء .. وهو ، في المستوى الجماعي ، يتجه إلى تحقيق العدالة الشاملة في المجتمع .. فهو إذن يعني بتنمية الفرد ، وتنمية المجتمع ، وهو إنما يعني بالمجتمع في مكان الوسيلة ، ويعني بالفرد في مكان الغاية .. فلتنمية الفرد ، بتحقيق حريته الفردية المطلقة ، لا بد من تنمية المجتمع لتحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة ..
فالحرية الفردية المطلقة للفرد ، من رجل أو إمرأة ، إنما تعني تصحيح عبوديته لله بإنعتاقه من الرق من جميع العناصر ، وهذا إنما يعني ، في المكان الأول ، تحرره من الخوف الموروث ، ومن الخوف المكتسب .. وهذا التحرر من الخوف إنما يتم بإستيقان العلم بأن هذا الوجود إنما يسيره قانون محكم ، محيط ، هو الذي أبرز الحياة من الكمون ، وحفزها ، وسيرها في مراقي التطور .. هذا القانون هو الإرادة الإلهية ، بل إنه ، على التحقيق ، إن البيئة الطبيعية إنما هي علم الله تجسد ، فكان المظهرالإلهي من سموات ، وما فيها ، ومن أرضين وما فيها .. وقد سمى الله هذه المظاهر آيات ، كما سمى المعاني الكامنة في النفس البشرية آيات ، قال تعالى في ذلك: (سنريهم آياتنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق .. أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟؟) .. فالجميع آيات الله ، لا إختلاف بينها ، إلا إختلاف المقدار .. فأيات الآفاق ظاهرة ، وآيات النفوس باطنة ، والجميع مظهر الله الذي ظهر به لعباده ليعرفوه ـ الجميع منهاج الله لتعليم عباده .. قال تعالى ، في ذلك: (سنة الله التي قد خلت في عباده ، وخسر هنالك الكافرون) .. . وفي قوله تعالى: (أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟؟) إشارة إلى ظهوره في كل شئ ، وبكل شئ. فالبيئة الطبيعية التي نتحدث عنها إنما هي مظهره .. هي هو ... فما ثمة غير الله ، وما ثمة إلا الله .. فانتهى التعدد إلى الوحدة .. هذا أمر في الدين واضح .. فهل هو واضح في العلم التجريبي أيضا ؟؟ ذلك أمر لا ريب فيه ، ذلك بأن تجاريب العلم المادي ، حين وصلت إلى فلق الذرة ، وإلى تفتيتها ، قد أعلنت ، بأعلى صوت: أن المادة ، بالصورة التي تراها الأعين ، وتحسها الحواس ، ليست هناك ، إنها إن هي إلا مظهر لطاقة هائلة ، تدفع وتجذب في الفضاء ، يعرف العلم خصائصها ، ويجهل كنهها .. هذه القوة الهائلة ـ هذه الطاقة ، هي إرادة الله .. هي الله .. فانتهى الأمر بالعلم ، والدين ، إلى اللقاء ، بعد طول فرقة ، وطول إفتراق .. وإنما يكون إلتقاء العلم والدين بعد تمام الدورة إلتقاء أكمل مما كان عليه أمرهما في بداية الدورة .. كذلك يقول أصحابنا: "النهاية تشبه البداية ، ولا تشبهها" .. وهم إنما قالوا ذلك أخذاً من قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ، كما بدأنا أول خلق نعيده ، وعداً علينا ، إنا كنا فاعلين ..) سيكون إلتقاؤهما الثاني على إكتمال من العلم ، وإكتمال من الدين .. وسيتم زواجهما .. سيتم زواج حقيقتهما ، وزواج شريعتهما .. وسيمثل العلم دور الزوجة .. ويمثل الدين دور الزوج .. ويمكن التعبير ، عن هذا الوضع بصورة أخرى ، هي: أن العلم يمثل البناء التحتي ، في حين أن الدين يمثل البناء الفوقي ، وبين البناء التحتي والبناء الفوقي إرتباط تكامل ، ووحدة ، إذ هما كلاهما ، يكونان "العلم" ، وهذا يسوقنا إلى أن نلاحظ ملاحظة عابرة هي: أن النظرة العلمية للأشياء لا تقوم على منهاج العلم المادي التجريبي وحده ، كما يدعي كثير من العلماء المعاصرين .. لا !! ولا هي تقوم على المنهاج الديني وحده ، وإنما هي تقوم على هذا الإقتران بين المادة ، وما وراء المادة ..
هذا "العلم" هو العلم بالله ، وهو يقوم على كل حرف ، وكل كلمة من كلمات الآية الكريمة: (سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق .. أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟) .. قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق) إشارة إلى المادة .. قوله تعالى: (وفي أنفسهم) إشارة إلى ما وراء المادة (الروح) .. قوله تعالى: (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟؟) إشارة إلى الزواج بين المادة والروح ، وهذا هو "العلم" ..
فليوجد الإنسان التواؤم بينه وبين بيئته لا بد له من تحصيل هذا العلم ، ومن الحياة بمقتضى هذا العلم .. وما الحياة بمقتضى هذا العلم بشئ غير العبودية لله ، تلك التي قلنا عنها أنها هي الحرية الفردية المطلقة ، وقلنا: إنها تبدأ بإنعتاق الحر من إسترقاق سائر العناصر إياه ..
العلم يقول: إن البيئة التي نعيش فيها هي بيئة مظهرها مادي ، ومخبرها روحي .. وإنما من أجل إنشاء العلاقة بينها وبين الإنسان ـ من أجل تواؤم الإنسان معها ـ فرض الإسلام ، وفرض القرآن ، وجاء المنهاج التعبدي ، وأدب المنهاج التعبدي .. هذه البيئة ، كما قررنا سابقاً ، هي إرادة الله تجسدت ، وجاء المنهاج ، وأدب المنهاج ، ليسير الإنسان تسييراً تصاقب فيه إرادته إرادة الله ـ جاء المنهاج ليمكننا من الرضا بالله .. قال تعالى: (فأصبر على ما يقولون ، وسبح بحمد ربك ، قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها ، ومن آناء الليل فسبح ، وأطراف النهار ، لعلك ترضى .. ) والرضا هنا هو العبودية .. وهي تعني ، فيما نحن بصدده ، المواءمة بين الحي وبيئته .. والعبودية عبوديتان: عبودية "إكراه" وهي للحي غير العاقل .. وعبودية "طوع" وهي لعقلاء الناس .. قال تعالى فيها: (و من أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ، وإتبع ملة إبراهيم حنيفاً ؟؟ وإتخذ الله إبراهيم خليلا .. ) .. وسر الآية في قوله تعالى: (وهو محسن) فإنه إشارة إلى العقل .. وإشارة في الآية إلى العبودية بقوله تعالى: (أسلم وجهه) ، وهي تعني إستسلم ، وإنقاد ، ورضى .. وهذه المواءمة بين الحي وبيئته ظاهرة في الآية .