البيئة مظهرها مادي وحقيقتها روحية:-
وليس إلى التحرير من الخوف من سبيل إلا سبيل العلم بحقيقة البيئة الطبيعية التي ، عن الجهل بها ، نشأ الخوف في صدور الرجال والنساء ، أول الأمر .. وإنما من أجل تحرير الرجال والنساء من هذا الخوف جاء الإسلام بقرآنه ، وبمنهاج عبادته ، ومنهاج عادته ..
فالإسلام ، في المستوى الفردي ، يتجه إلى تحقيق الحرية الفردية المطلقة لسائر أفراد الرجال ، والنساء .. وهو ، في المستوى الجماعي ، يتجه إلى تحقيق العدالة الشاملة في المجتمع .. فهو إذن يعني بتنمية الفرد ، وتنمية المجتمع ، وهو إنما يعني بالمجتمع في مكان الوسيلة ، ويعني بالفرد في مكان الغاية .. فلتنمية الفرد ، بتحقيق حريته الفردية المطلقة ، لا بد من تنمية المجتمع لتحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة ..
فالحرية الفردية المطلقة للفرد ، من رجل أو إمرأة ، إنما تعني تصحيح عبوديته لله بإنعتاقه من الرق من جميع العناصر ، وهذا إنما يعني ، في المكان الأول ، تحرره من الخوف الموروث ، ومن الخوف المكتسب .. وهذا التحرر من الخوف إنما يتم بإستيقان العلم بأن هذا الوجود إنما يسيره قانون محكم ، محيط ، هو الذي أبرز الحياة من الكمون ، وحفزها ، وسيرها في مراقي التطور .. هذا القانون هو الإرادة الإلهية ، بل إنه ، على التحقيق ، إن البيئة الطبيعية إنما هي علم الله تجسد ، فكان المظهرالإلهي من سموات ، وما فيها ، ومن أرضين وما فيها .. وقد سمى الله هذه المظاهر آيات ، كما سمى المعاني الكامنة في النفس البشرية آيات ، قال تعالى في ذلك: (سنريهم آياتنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق .. أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟؟) .. فالجميع آيات الله ، لا إختلاف بينها ، إلا إختلاف المقدار .. فأيات الآفاق ظاهرة ، وآيات النفوس باطنة ، والجميع مظهر الله الذي ظهر به لعباده ليعرفوه ـ الجميع منهاج الله لتعليم عباده .. قال تعالى ، في ذلك: (سنة الله التي قد خلت في عباده ، وخسر هنالك الكافرون) .. . وفي قوله تعالى: (أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟؟) إشارة إلى ظهوره في كل شئ ، وبكل شئ. فالبيئة الطبيعية التي نتحدث عنها إنما هي مظهره .. هي هو ... فما ثمة غير الله ، وما ثمة إلا الله .. فانتهى التعدد إلى الوحدة .. هذا أمر في الدين واضح .. فهل هو واضح في العلم التجريبي أيضا ؟؟ ذلك أمر لا ريب فيه ، ذلك بأن تجاريب العلم المادي ، حين وصلت إلى فلق الذرة ، وإلى تفتيتها ، قد أعلنت ، بأعلى صوت: أن المادة ، بالصورة التي تراها الأعين ، وتحسها الحواس ، ليست هناك ، إنها إن هي إلا مظهر لطاقة هائلة ، تدفع وتجذب في الفضاء ، يعرف العلم خصائصها ، ويجهل كنهها .. هذه القوة الهائلة ـ هذه الطاقة ، هي إرادة الله .. هي الله .. فانتهى الأمر بالعلم ، والدين ، إلى اللقاء ، بعد طول فرقة ، وطول إفتراق .. وإنما يكون إلتقاء العلم والدين بعد تمام الدورة إلتقاء أكمل مما كان عليه أمرهما في بداية الدورة .. كذلك يقول أصحابنا: "النهاية تشبه البداية ، ولا تشبهها" .. وهم إنما قالوا ذلك أخذاً من قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ، كما بدأنا أول خلق نعيده ، وعداً علينا ، إنا كنا فاعلين ..) سيكون إلتقاؤهما الثاني على إكتمال من العلم ، وإكتمال من الدين .. وسيتم زواجهما .. سيتم زواج حقيقتهما ، وزواج شريعتهما .. وسيمثل العلم دور الزوجة .. ويمثل الدين دور الزوج .. ويمكن التعبير ، عن هذا الوضع بصورة أخرى ، هي: أن العلم يمثل البناء التحتي ، في حين أن الدين يمثل البناء الفوقي ، وبين البناء التحتي والبناء الفوقي إرتباط تكامل ، ووحدة ، إذ هما كلاهما ، يكونان "العلم" ، وهذا يسوقنا إلى أن نلاحظ ملاحظة عابرة هي: أن النظرة العلمية للأشياء لا تقوم على منهاج العلم المادي التجريبي وحده ، كما يدعي كثير من العلماء المعاصرين .. لا !! ولا هي تقوم على المنهاج الديني وحده ، وإنما هي تقوم على هذا الإقتران بين المادة ، وما وراء المادة ..
هذا "العلم" هو العلم بالله ، وهو يقوم على كل حرف ، وكل كلمة من كلمات الآية الكريمة: (سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق .. أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟) .. قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق) إشارة إلى المادة .. قوله تعالى: (وفي أنفسهم) إشارة إلى ما وراء المادة (الروح) .. قوله تعالى: (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟؟) إشارة إلى الزواج بين المادة والروح ، وهذا هو "العلم" ..
فليوجد الإنسان التواؤم بينه وبين بيئته لا بد له من تحصيل هذا العلم ، ومن الحياة بمقتضى هذا العلم .. وما الحياة بمقتضى هذا العلم بشئ غير العبودية لله ، تلك التي قلنا عنها أنها هي الحرية الفردية المطلقة ، وقلنا: إنها تبدأ بإنعتاق الحر من إسترقاق سائر العناصر إياه ..
العلم يقول: إن البيئة التي نعيش فيها هي بيئة مظهرها مادي ، ومخبرها روحي .. وإنما من أجل إنشاء العلاقة بينها وبين الإنسان ـ من أجل تواؤم الإنسان معها ـ فرض الإسلام ، وفرض القرآن ، وجاء المنهاج التعبدي ، وأدب المنهاج التعبدي .. هذه البيئة ، كما قررنا سابقاً ، هي إرادة الله تجسدت ، وجاء المنهاج ، وأدب المنهاج ، ليسير الإنسان تسييراً تصاقب فيه إرادته إرادة الله ـ جاء المنهاج ليمكننا من الرضا بالله .. قال تعالى: (فأصبر على ما يقولون ، وسبح بحمد ربك ، قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها ، ومن آناء الليل فسبح ، وأطراف النهار ، لعلك ترضى .. ) والرضا هنا هو العبودية .. وهي تعني ، فيما نحن بصدده ، المواءمة بين الحي وبيئته .. والعبودية عبوديتان: عبودية "إكراه" وهي للحي غير العاقل .. وعبودية "طوع" وهي لعقلاء الناس .. قال تعالى فيها: (و من أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ، وإتبع ملة إبراهيم حنيفاً ؟؟ وإتخذ الله إبراهيم خليلا .. ) .. وسر الآية في قوله تعالى: (وهو محسن) فإنه إشارة إلى العقل .. وإشارة في الآية إلى العبودية بقوله تعالى: (أسلم وجهه) ، وهي تعني إستسلم ، وإنقاد ، ورضى .. وهذه المواءمة بين الحي وبيئته ظاهرة في الآية .