إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الديـن والتنمية الاجتماعية

سبب الرزق "العلم":


إذا إكتمل علم الإنسان بالله في مستوى الرضا به ، أو قل ، إن شئت ، إذا إكتملت مقدرة الحي على المواءمة بين حياته وبيئته في هذا المستوى الذي ذكرنا ، إذا إكتمل له ذلك بفضل الله ، ثم بفضل تجويد ممارسته لمنهاج العبادة ، فإنه يرزق بفضل هذا "العلم" ، لا بفضل التدبير ، والتخطيط ، والتنمية على وفق ما في علوم الإقتصاد الحديث .. ولكن هذه مرتبة لم تحقق بعد ، وإن كان تحقيقها أمراً لا ريب فيه .. يقول تعالى ، في هذا المعنى: (وما خلقت الجن ، والإنس ، إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق ، وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ، ذو القوة ، المتين) .. قوله تعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، معناه إلا ليعرفوني ليسعدوا بمعرفتي ، وإلا فإني غني عن عبادة العابدين .. وهذه المعرفة هي: "العلم" الذي تحدثنا عنه .. وفي قوله تعالى: (ما أريد منهم من رزق ، وما أريد أن يطعمون) ، المعنى الذي أردنا في أمر الرزق .. فإنه تعالى أراد من قوله تعالى: (ما أريد منهم من رزق) لأنفسهم ، ولا لغيرهم .. ونفس المعنى يطالعنا من قوله تعالى: (وما أريد أن يطعمون) يعني لا يطعمون أنفسهم ، ولا غيرهم ، فإن الله هو مطعم الجميع .. وأوضح ، في هذا الباب ، وأشد دلالة على أن هذا "العلم" هوسبب الرزق ، قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة ، وأصطبر عليها ، لا نسألك رزقاً ، نحن نرزقك ، والعاقبة للتقوى) .. قوله تعالى: (والعاقبة للتقوى) يعنى: سبب الرزق (التقوى) .. والتقوى ههنا تعني ، في قمة ما تعني ، الحضرة مع الله ، بلا غفلة عنه ... وأكبر وسيلتها "الصلاة الذكية" ..
إن "العلم" بهذا المستوى الذي نتحدث عنه هو موروث البشرية ، ومستقبلها ، من غير أدنى ريب .. . وإنه هو مفروض عليها ، ولا تجد عنه منصرفاً .. قال تعالى في ذلك: (يا أيها الإنسان !! إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) ، أردت هذا اللقاء أم لم ترده .. ولا تكون الملاقاة في المكان ، وإنما تكون "بالعلم" .. وهذا "العلم" هو منقذ البشرية الوحيد مما تخشاه ، وما تتوقعه ، من الموت جوعاً ، من جراء ما سمى بالإنفجار السكاني ، فإنه ، لدى هذا العلم ، "الرغيف" ، عند الله ، كضوء الشمس ، لا عد له ، ولا حصر .. قال تعالى ، في ذلك: (والأرض مددناها ، وألقينا فيها رواسي ، وأنبتنا فيها من كل شئ موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ، ومن لستم له برازقين * وإن من شئ إلا عندنا خزائنه .. وما ننزله إلا بقدرٍ معلوم * وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا ، من السماء ، ماء ، فأسقيناكموه ، وما أنتم له بخازنين) .. أشار بقوله تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه) إلى الرزق ـ إلى كل ما يحتاجه الإنسان من حاجات معدته وحاجات قلبه .. وأشار بقوله تعالى: (فأنزلنا من السماء ماء) إلى كثرة الرزق ، فإن الرغيف عنده كالماء فيضاً ، وكنور الشمس ، لا حصر له .. وأما الإشارة بقوله تعالى: (وما أنتم له بخازنين) فإنها في غاية الوضوح ، وفي غاية اللطف .. وستقول: ولكن المشاهد أن الرغيف قليل إلى حد الضيق .. وإنه لا ينال ، في كثير من الأوقات ، إلا بشق الأنفس ، وإنه قد لا ينال ، حتى بشق الأنفس ، فيقع الموت جوعاً .. وهو ، على كل حال ، لا ينال في سائر الأوقات ، عند سواد الناس إلا بالجهد ، والعرق .. فما هو السر في هذا ؟؟ السر يكمن في حكمة التعليم .. يقول تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، ويزيدهم من فضله .. والكافرون لهم عذاب شديد * ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ، ولكن ينزل بقدر مايشاء .. إنه بعباده خبير بصير * وهو الذي ينزل الغيث ، من بعد ما قنطوا ، وينشر رحمته ، وهو الولي الحميد ..) .. قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) ، هذا هو سر التقتير .. فالله يزن الرزق لعباده كما يزن الطبيب الحاذق جرعة الدواء لمريضه ، وتعالى الله عن هذا التشبيه .. ثم قال: (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) ، والإشارة إلى الحكمة واردة في الفاصلة: (إنه بعباده خبير بصير) .. وفي موضع آخر ، يقول عن غفلة الإنسان ، حين يجد سعة الرزق: (كلا !! إن الإنسان ليطغى * إن رآه إستغنى) .. يرد هذا القول الكريم في سياق عن التعليم بأول سورة من القرآن: (إقرأ بإسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * إقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم * كلا !! إن الإنسان ليطغى * إن رآه إستغنى * إن إلى ربك الرجعى) .. قوله تعالى: (إن إلى ربك الرجعى) تقرير للمصير .. وإنما قدر عليه رزقه لئلا يستولى عليه الجهل في حالة بسطة الرزق فيخرجه عن طوره ، ويرميه في أحضان الغفلة ، فيجهل قدر نفسه .. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (كلا !! إن الإنسان ليطغى * إن رآه إستغنى) .. والرزق ، بين البسط والتقتير ، هو أكبر الأقلام التي بها يعلمنا الله .. ولو إن فقهنا عنه ، وعلمنا "العلم" لرزقنا بغير حدود ، ولا حساب .. ذلك لأن ذلك هو الأصل ـ الوفرة هي الأصل ـ وما القلة ، وما التقتير ، إلا لحكمة التعليم .. يقول تعالى في ذلك: (مايفعل الله بعذابكم إن شكرتكم ، وآمنتم ؟؟ وكان الله شاكراً عليماً ..) .. فالمطلوب منا إنما هو الشكر والعلم .. فما فرضت علينا التكاليف وما حرم علينا حرام ، أبداً ، إلا من أجل ذلك .. فإذا ما علمنا وشكرنا ، رزقنا بغير حساب: (فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتاً حسناً ، وكفلها زكريا .. كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً ، قال: يا مريم !! أني لك هذا ؟؟ قالت: هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب !!) .. هذا هو سبب الرزق ، وهذا هو وسيلة الرزق ـ "العلم" .. العلم بالله والحياة بمقتضى هذا العلم ..
لقد صدرت هذه المقدمة بآية هي آية في الدلالة على ما ذهبت إليه آنفاً ، وهي قوله تعالى: (و لو أن أهل القرى آمنوا ، وإتقوا ، لفتحنا عليهم بركات من السماء ، والأرض .. ولكن كذبوا ، فأخذناهم بما كانوا يكسبون .. ) .. وهناك ، في موضع آخر ، يقول تعالى ، عن أهل الكتاب: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا ، وإتقوا ، لكفرنا عنهم سيئاتهم ، ولأدخلناهم جنات النعيم * ولو أنهم أقاموا التوراة ، والإنجيل ، وما أنزل إليهم من ربهم ، لأكلوا من فوقهم ، ومن تحت أرجلهم .. منهم أمة مقتصدة ، وكثير منهم ساء ما يعملون .. ) .. هذا أمر شديد الدلالة على سبب الرزق الحقيقي ، ولكن الناس ، من فرط خوفهم على الرزق ، ومن شدة حرصهم على تحصيله ، وعلى تأمينه ، بأيات الله لا يوقنون .. ولقد قال أحد العارفين: (لعن الله أقواماً أقسم الله لهم ثم لم يصدقوه !! قالوا: وكيف ؟؟ قال: قال الله ، تبارك وتعالى ، للناس: (وفي السماء رزقكم وما توعدون * فورب السماء ، والأرض ، إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) ، فإنه تعالى ههنا أقسم ، ثم أن الناس لم يصدقوه).. وهذا حق !! فإن التصديق ههنا يحتاج إلى علم يقين ، هو لا بد آتٍ ، ولكن الوقت ، بطبيعة الحال ، طرف فيه ، وهو لم يجيء بعد ، ذلك بأن "حكم الوقت" فيما مضى من تاريخ البشرية ، لم ينضح ليقضي بمثل هذا اليقين ، وإنه لآتٍ ، لا ريب فيه ، وبمثل هذا اليقين يجئ "العلم" الذي قررنا أنفاً إنه سبب الرزق ..

العلــم علمـان


هل هذا الحديث الغامض علمي ، أم أنه عقيدي يقوم على الإيمان ؟؟ الجواب: إنه علمي ، من غير أدنى ريب ، ولكنه ليس العلم المادي التجريبي الذي ألفه الناس ، ودرجوا على تسميته علماً وما هو بذاك إلا في معنى أنه علم ظواهر الأشياء ، دون بواطنها ـ علم القشور دون اللباب ـ ولقد سماه الله ، تبارك وتعالى ، علماً بهذا المعنى ، ونفى عنه العلمية الحقيقية التي تنفذ إلى البواطن ، والتي يعيش الناس اليوم على جهل بها عظيم .. ولكنهم لا بد لهم منها ، ولن يجدوا عنها منصرفاً ، وإن جهدوا .. قال تعالى ، في زيف هذا العلم: (وعد الله !! لا يخلف الله وعده ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهراً من الحياة الدينا ، وهم ، عن الآخرة ، هم غافلون) .. تأمل قوله تعالى: (و لكن أكثر الناس لا يعلمون ، يعلمون ظاهراً من الحياة الدينا) تجده يثبت لهم العلم وينفي عنهم "العلم" .. هذا العلم الذي أثبته لهم هو علم الظاهر ـ هو ، كما يمكن أن تقول ، العلم المادي ، التجريبي ، الذي يوصل إلى خصائص المادة ، ولا يوصل إلى كنهها .. والعلم الذي نفاه عنهم هو علم كنه المادة ، كما هو علم خصائص المادة في آنٍ معاً ، وهذا هو العلم الذي به يقع تخطي ظواهر الأشياء إلى بواطنها ـ هذا هو "العلم" الذي تحدثنا عنه هنا كثيراً ، وقلنا عنه: إنه هو سبب الرزق .. وقلنا عنه أيضاً أنه هو علم آيات النفوس ، وفي حين أن علم الظاهر هو علم آيات الآفاق: (سنريهم آياتنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبيّن لهم أنه الحق .. أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟؟ " .. هذا "العلم" هو الدين ، ولا يوصل إليه إلا منهاج الإسلام ، وقرآن الإسلام .. وإنه لهو مادة "الدعوة الإسلامية الجديدة" وموضوعها ..
يتحدث علماء العالم ، ومسئولوه ، وحكامه ، وفي هذه الأيام بالذات ، عما يتهدد البشرية من الجوع بسبب ما سمى بالإنفجار السكاني .. ولقد سمت هيئة الأمم المتحدة عام 1974 بعام سكان العالم ، ودعت ، بكل الوسائل التي تحت يدها ، إلى التفكير في مصير البشرية على هذا الكوكب ، وأوردت إحصائية تقول: إن عدد سكان العالم في هذا العام قد بلغ 4000 مليون نفس ، وأن هذا العدد سيتضاعف في مدى خمس وثلاثين سنة .. وهم يرون أن هذه الزيادة المذهلة ، إن لم توقف عند حد معين ، وذلك بتحديد النسل في كل أنحاء العالم ، وبخاصة في البلاد المتخلفة حضارياً ، فإن مصير الناس المحقق هو الموت بالجوع مهما إجتهدوا في زيادة إنتاج الغذاءات .. والذي أراه هو أن البشرية اليوم مواجهة بتحد يدفعها دفعاً لا تملك عليه إباء ولا إمتناعاً ـ يدفعها إلى أحضان الله بصورة لم يسبق لها مثيل .. ولست أرتاب ، ولا للحظة واحدة ، أن البشرية ستلجأ إلى الدين ، طوعاً أو كرهاً .. ومما لا شك فيه عندي أن كل محاولات المفكرين لتجنب المصير الذي يرونه مظلماً إنما هي مظهر آية تطلب تحقيقها ، تلك الآية هي قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) .. ولا تكون ملاقاة الله بقطع المسافات وإنما هي "بالعلم" ..
هذا هو عصر “العلم” ، ولكنه عصر ضائع حين ظن أن العلم المادي التجريبي هو “العلم” .. نحن دعاة هذا “العلم” فيما أسميناه "الدعوة الإسلامية الجديدة" .. ولا بد للناس أن يفيئوا إلى ظلالها .. فإنهم، إلَّا يفعلوا طواعية، فعلوا اضطراراً .. فإنه ثابت أنه: "من لم يسر إلى الله بسوابغ الإحسان قيد إليه بسلاسل الإمتحان" .. هذا وإنما تقوم الدعوة إلى الإسلام اليوم على مستواه العلمي ، لا العقيدي ، وهذا هو مقتضى حكم الوقت .. ويجب أن يكون واضحاً لدينا ، ونحن نتحدث الآن عن: "الدين والتنمية الاجتماعية" ، أن الدين بمستواه العقيدي ـ الرسالة الأولى ـ يعوق التنمية الاجتماعية ، ولا يعينها ، ذلك بأنه ـ في هذا المستوى ـ لا يساوى بين الرجال والنساء ، ولا تقوم من ثم ، شريعته على الديمقراطية ، ولا على الاشتراكية ، وإنما تقوم على "الوصاية " ، وعلى "الرأسمالية الملطفة" .. الزكاة ذات المقادير ..
إن أمل الإنسانية المعاصر معقود بالإسلام ، ولا ريب ، ولكن في مستواه العلمي ، لا العقيدي .. وهذا هو مستوى "الرسالة الثانية من الإسلام" الذي ظللنا ننادي به على طول المدى ..