إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الديـن والتنمية الاجتماعية

السـودان


السودان يقع من أفريقيا موقع القلب .. وهو بشكله يمثل شكل القلب .. وأفريقيا هي القارة التي ، كانت ولا تزال ، تسمى بالقارة المظلمة .. فهي في مؤخرة القارات ، ولكنها أخذت اليوم تتحرك حركة دائبة ، نشطة ، بها تتحرر شعوبها كل حين ..
أفريقيا هي الموطن الأول للإنسان ، فيها ظهرت حياته ، في البدء ، وفيها ستتحقق حريته ، في النهاية .. والسودان من أفريقيا بحيث قد ذكرنا ..
السودان يشغل رقعة شاسعة .. فهو يمتد شمالاً وجنوباً ، على طول 1250 ميلاً ، ويمتد ، شرقاً وغرباً ، على مسافة طولها ألف ميل .. وتسير الشمس فيه ساعة كاملة .. فحين يصلي سكان بورتسودان المغرب ، يمكن لسكان الجنينة أن يصلوا العصر ، وبوقت كافٍ ..
تمتد حدود السودان على طول 4500 ميل .. وهو يراقد تسعة أقطار ، ويحاددها ، إبتداءًا من مصر شمالاً ، إلى أريتريا شرقاً .. ويقع من طول حدوده هذه طول 450 ميلا ً مع البحر الأحمر ، من جهة الشرق ..
مساحة السودان مليون ميل مربع ، أي ما يساوي 616 مليون فدان .. من هذه المساحة الهائلة 200 مليون فدان غابات ، و60 مليون فدان مراع طبيعية ، و156 مليون فدان صحارى وجبال ، و200 مليون فدان أراض خصبة ، وميسورة الري ، من الأمطار والأنهار العديدة التي تجري على أديم هذه المساحة الشاسعة ..
سكان السودان اليوم يقدرون بما يقارب الـ 17 مليون نفس .. هذا العدد القليل من السكان موزعون على هذه المساحة الشاسعة بغاباتها ، وبجبالها ، وبصحرائها ، توزيعاً يتفاوت في الكثافة ، ولكنه لا يكاد يخلو منه مكان .. وهؤلاء السكان القليلون ، المنبثون في هذه الرقعة الشاسعة قد بعدت المسافات بينهم ، وقلت فرص الإتصال ، مما جعل بينهم ، إلى اليوم ، من إختلاف العادات ، وإختلاف اللهجات ، وإختلاف الأديان ، ما وكد ، وقوى ، إختلاف العنصر القديم ، وبخاصة بين الشمال والجنوب .
يتضح من الأرقام البسيطة التي سقناها في التعريف بالوضع الطبيعي في السودان الفرص الواعدة ، والهائلة ، التي يقدمها هذا البلد الطيب لأهله ، ولغيرهم من البشر ، كما تتضح أيضاً الصعوبات التي تعترض سبيل إستغلال هذه الفرص الهائلة .. وهي ، على كل حال ، صعوبات قد تقدم تحدياً للسودانيين ، ولكنها ، على التحقيق ، لا تقدم إستحالة عملية في سبيل التنمية الاجتماعية..
التحديات التي تواجه بها طبيعة البلاد سكانها تتمثل في ثلاث توحيدات ، بدون تحقيقها لا تقوم تنمية إجتماعية ، على الإطلاق .. هذه ثلاث التوحيدات هي: -
1) الوحدة الجغرافية ..
2) الوحدة السياسية ..
3) الوحدة القومية ..

1) الوحدة الجغرافية:


الوحدة الجغرافية لا تعني أننا يمكن أن نتحكم في الطبيعة الإقليمية تحكماً تاماً ، ولكن تعني أننا يمكن أن نروض الطبيعة ترويضاً نتجنب به الضرر ، ونستجلب منه النفع ، وذلك بفضل الله ، ثم بفضل معطيات العلم الحديث .. وأول ما يجب أن نبدأ به ، في سبيل تحقيق هذه الوحدة ، هو تقريب أطراف القطر المختلفة من بعضها البعض ، وذلك بإستخدام التكنولوجيا الحديثة في سبل المواصلات ، وطرق المواصلات ، ووسائل المواصلات ، البرية ، والجوية ، والنهرية والبحرية..

2) الوحدة السياسية:


و هذه يمكن أن تتحقق في مستويات كثيرة .. وإنما نقطة البدء فيها إحلال التعايش السلمي بين عنصريات السكان المختلفة ، وقبائلهم المتباينة والمتعادية ..
هاتان الوحدتان ـ الوحدة الجغرافية ، والوحدة السياسية ـ ولأول مرة في تاريخ الحكم الوطني ، بدأت الخطوات الأولية في تحقيقهما .. وتتجلى تلك الخطوات الأولية في هذه الشبكة من الطرق البرية التي تحت التشييد اليوم ، وتلك التي تجري المفاوضات لإنشائها ، وتتجلى أيضاً في هذه المسالك المائية التي يجري التخطيط لتسليكها وتمهيدها ـ هذا فيما يخص الوحدة الجغرافية بالذات .. أما فيما يخص الوحدة السياسية فإن إيقاف النزاع المسلح بين الشمال والجنوب يعتبر خير بداية ، وسيتبع بإنجازات أخرى إن شاء الله .

3) الوحدة القومية:


الوحدة القومية تعني أن تنصهر القبليات ، والقوميات ، والعنصريات ، المختلفة ، العديدة ، التي يعج بها السودان في داخل حدوده الجغرافية الحاضرة ، في بوتقة واحدة ، لتخرج شعباً واحداً ، متحد المصير ، متشابه الخصائص ، متقارب القيم ، يفهم أفراده المسائل العامة ، والخاصة ، بنحو قريب من قريب .. فإنه أن يكن الفرد هو في مكان الغاية من السعي وراء التنمية الاجتماعية فإن الوحدة القومية هي في مكان الوسيلة الواسلة لهذه الغاية .. ولقد تحدثنا ، بمجرد الإشارة ، عن الوحدتين: الجغرافية ، والسياسية ، وأعتبرناهما في مكان مجرد البداية في التمهيد لأحداث الوحدة القومية ، ذلك بأن الوحدة القومية تتطلب كل المجهود العلمي ، والثقافي ، والفكري لتحقيقها .. بل إنها هي ، أساساً ، لا تتحقق إلا عن طريق كل المناشط كقاعدة ، وعن طريق الثورة الثقافية ، والثورة الفكرية ، كتتويج لهذه القاعدة .. وعندنا أن الثورة الثقافية ، والثورة الفكرية ، لا تنهضان إلا على أساس البعث الديني .. ولقد تحدثنا ، في هذه المقدمة ، وبإيجاز شديد ، عن "العلم" وقلنا أنه إنما هو نتاج لقاح بين المادة ، وما وراء المادة ـ بين العلم المادي التجريبي الحديث ، وبين العلم الروحي التجريبي القديم ـ العبادة والمعاملة ـ
هذا وإننا قد أخرجنا في الثورة الثقافية ، والثورة الفكرية ، كتاباً مفصلاً بإسم: "الثورة الثفافية" .. ولقد وكدنا مراراً أن "الثورة الثقافية" و"الثورة الفكرية" ليس في السودان وحده ، وإنما في العالم أجمع ، لا يمكن أن تقوم إلا على بعث الكلمة: "لا إله إلا الله" ، بعثاً قوياً ، يعيد لها الحياة ، ويجعلها خلاقة ، ومؤثرة على أخلاق الرجال ، والنساء ، والصبيان .. ذلك بأن الأزمة الإنسانية الحاضرة ، في جميع أنحاء الكوكب ، إنما هي أزمة أخلاق .. وكل حديث عن التنمية الإقتصادية ، والسياسية ، والاجتماعية، بدون إعتبار الأخلاق الفردية ، إنما هي محاولة مقضى عليها بالهزيمة والفشل قبل البداية ..
والذي نراه اليوم أن العهد الحاضر يجاري وضعاً دينياً متخلفاً يتمثل في "أمانة الشئون الدينية" .. هذا الوضع هو ، في حد ذاته ، عقبة في سبيل البعث الديني ، وفي سبيل عودة: "لا إله إلا الله" لتكون خلاقة في صدور الرجال ، والنساء ، والصبيان ..
إن الثورة الفكرية متخلفة اليوم تخلفاً مزرياً ، وكل هذا التخلف إنما مرده إلى الجهل بالدين الذي تمثله هذه الأمانة التي تصرف الدولة عليها أموالاً طائلة ، فلكأننا نحن نصرف أموالنا لتمكين الجهل من شعبنا ، وهذا وضع جد مؤسف ، ويجب الإقلاع عنه ، والأخذ ، وبدون إضاعة وقت ، "بالثورة الثقافية" ، و"الثورة الفكرية" ، التي تقدمها "الدعوة الإسلامية الجديدة" .. إن هذا أمر لا مفر منه ، ولا معدى ، وإنه لا بد كائن ، فهو حتمي الصيرورة ، فإن الله تبارك وتعالى يقول: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله .. وكفى بالله شهيداً!!) .. جاء وقت الحق ، فما يبدئ الباطل وما يعيد .. "جاء الحق ، وزهق الباطل .. إن الباطل كان زهوقا" ..

خاتمة:


أما بعد: فهذه مجرد خطوط عريضة في طريق التنمية الاجتماعية، وستكون لي عودة إلى الكتابة عن التنمية الاجتماعية في السودان بتفصيل ، أما هذه الخطوط العريضة فإني لم أرد بها إلا الى تنبيه الأذهان إلى ضرورة سلوك الطريق العلمي ، الصحيح ، المفتوح على الإطلاق ، حين سلك الغرب ، بعلمه المادي ، التجريبي ، وحده ، طريقاً مسدوداً .. نحن المسلمين ، نحن أهل الكتاب ، نحن أهل هذا الطريق اللاحب ، ولكننا اليوم نتوج الجهل ، ونكرمه ، ونعزه ، وننفق عليه .. نحن اليوم نسير على حداء جهلائنا ، وقد أنى لنا أن نوقف هذا الجهل بالدين عند حده ، وأن نقبل على ديننا ، وعلى قرآننا ، بعقول مبرأة من أوضار الجهالات ، والخرافات .. إن هذا أمر لا بد كائن .. والله المستعان ..